في تحالفات جديدة تعيد شبح الحرب الباردة، قررت الإدارة الأمريكية جمع حلفائها وأدواتها في العالم والمنطقة في اجتماع يعقد في العاصمة البولندية وارسو في 13 و14 من شهر شباط/فبراير 2019، قال عنه قال وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو إنه “يشكل أوسع تحالف دولي لبحث المخاطر التي تواجه الشرق الأوسط”، وأضاف بومبيو أن أعمال المؤتمر ستتناول الدورالإيراني، كما ستُعرض فيه الرؤية الأمريكية بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
وفي ظل مرحلة حساسة وانتقالية من حياة المنطقة بعد ظهور الكثير من المخططات الأمريكية والإسرائيلية والخليجية، ثمة أسئلة يطرحها الإعلان عن هذا الاجتماع، وتتمحور حول توقيته ومكانه والجهات التي ستحضره والأجواء والقضايا المنتظر أن تهيمن على الحشد الدبلوماسي وصولاً إلى النتائج التي قد تخرج عنه.
من سوف يحضر؟ لا فلسطين لبت ولا إيران دُعيت
لا يزال من غير الواضح من سيحضر بالتحديد، فلا فلسطين لبت الدعوة ولا إيران دُعيت إلى المشاركة في مؤتمر مستقبل السلام والأمن في الشرق الأوسط التي تتهيأ العاصمة البولندية وارسو لاحتضانه وتشارك فيه 60 دولة، بينها أكثر من 10 دول عربية، وفق ما أعلن وزير الخارجية البولندي ياتسيك تشابوتوفيتش، وكان قد تم التخطيط للاجتماع من قبل بريان هوك، مبعوث ترامب الخاص لإيران ورئيس مجموعة العمل الإيرانية.
لا غرابة والحال هذه أن يقرر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو القدوم بنفسه إلى وارسو ليكون أرفع مسؤول يشارك في المؤتمر، علَّه يحشد الحاضرين لمحاربة أقوى للنفوذ الإيراني في المنطقة
“وُلد ميتًا”، هكذا وصف البعض المؤتمر، وخاصة الجانب الإيراني، وذلك بعد أن قررت معظم الدول تخفيض تمثيلها فيه لما هو أقل من وزراء الخارجية، فالاتحاد الأوروبي اختار عدم إرسال وزير خارجيته فيدريكا موغريني إلى المؤتمر بدعوي انشغالها بأمور أهم، وبررت ذلك بقولها إن “أهداف المؤتمر غير واضحة وإن الاتحاد الاوروبي غير جاهز للدخول بمواجهة مع ايران”، ورفضت روسيا، الحليف الرئيسي لإيران، الدعوة.
بينما قرر لبنان مقاطعة المؤتمر بعد زيارة وزير خارجية إيران إلى بيروت بعد تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة، وأعلن وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل أنه لن يحضر القمة، إضافة إلى مسؤولين فلسطينيين أطلقوا على المؤتمر اسم “مؤامرة أمريكية إسرائيلية تهدف إلى القضاء على القضية الفلسطينية”.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو
لا غرابة والحال هذه أن يقرر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو القدوم بنفسه إلى وارسو ليكون أرفع مسؤول يشارك في المؤتمر، علَّه يحشد الحاضرين لمحاربة أقوى للنفوذ الإيراني في المنطقة، هذا إلى جانب الرئيس البولندي أندجي دودا، بينما بلغ تمثيل الدول العربية في أعلى حالاته مستوى وزراء الخارجية، ومن المتوقع أن يشارك مسؤولي الصف الأول (وزاء الخارجية) لكل من السعودية والإمارات، جنبًا إلى جنب مع نتنياهو.
أمَّا الأمريكيون، أصحاب المؤتمر، فسيمثلهم نائب الرئي الأمريكي مايك بنس ووزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار البيت الأبيض جاريد كوشنر، الذي ترردت أنباء عن احتمال إعلانه بعض ملامح خطة واشنطن المعروفة باسم “صفقة القرن” لتسوية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي.
كما سيكون وزير الخارجية البريطاني جيريمي هانت موجودًا، لكنه قال إنه يريد في المقام الأول معالجة الأزمة الإنسانية في اليمن، وهي الحرب التي تشارك فيها بلاده، وستقوم دول أوروبية أخرى بإرسال مندوبين على مستوى أقل، وتقوم بعض الدول العربية بإرسال وفود بقيادة الوزراء.
في هذا الصدد، يتوقع مراقبون أن عدم تواجد مسؤولين بارزين كُثُرفي المؤتمر سيدفع واشنطن إلى محاولة التخفيف من حدة الهجوم على إيران، وذلك من خلال عدم التركيز عليها في المؤتمر، والتوجه لمناقشات أوسع لقضايا الشرق الأوسط، حتى أن وزير الخارجية الأمريكي لم يأت على اسم إيران إلا قليلاً عندما عدد أهداف المؤتمر.
الحشد ضد إيران .. لماذا الآن؟
كان وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو قد أعلن عن الاجتماع لأول مرة الشهر الماضي بعد خطابه القوي ضد إيران في القاهرة، وكان يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه محاولة لحشد القوى العالمية وراء رؤية واشنطن ضد طهران.
ويأتي المؤتمر في الوقت الذي تبدأ فيه الولايات المتحدة سياسة فك الارتباط في المنطقة، ففي ديسمبر/كانون الأول الماضي من العام الماضي أعلن ترامب انسحاب القوات الأمريكية من سوريا، وتمثل وارسو المحاولة الأولى من جانب إدارة ترامب لبناء ائتلاف، وهنا تعلو الرهانات؛ لأن النتيجة قد تساعد في تحديد من سيملأ دور واشنطن.
تضغط الولايات المتحدة على أصدقائها العرب السُنة من أجل تأسيس تحالف إقليمي عسكري يعرف باسم “تحالف الشرق الأوسط الإستراتيجي”
كما يأتي المؤتمر في لحظة حساسة، حيث يحاول الاتحاد الأوروبي دعم خطة العمل الشاملة المشتركة بين الدولتين، وهو الاتفاق النووي لعام 2015 الذي تم توقيعه لمنع طهران من بناء أسلحة نووية مقابل تخفيف العقوبات، وكانت الولايات المتحدة انسحبت من الصفقة بعد قرار الرئيس دونالد ترامب في مايو 2018.
وتريد الولايات المتحدة إقامة منتدى تلتقي فيه “إسرائيل” والدول العربية السنية نظرًا لأنها لم تقم علاقات دبلوماسية علنية بعد، حيث تضغط الولايات المتحدة على أصدقائها العرب السُنة من أجل تأسيس تحالف إقليمي عسكري يعرف باسم “تحالف الشرق الأوسط الإستراتيجي”، أو اختصارًا بكلمة “ميسا” (MESA)، ويطلق عليه رمزيًا “الناتو العربي”.
وترغب إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تأسيس التحالف الذي يضم -إضافة إلى بلاده- ثماني دول عربية، هي دول مجلس التعاون الخليجي الست ومصر والأردن، وذلك لمواجهة إيران والعمل على استقرار الإقليم، وتسعى واشنطن كذلك إلى لترويج “لمستقبل يعمه السلام والأمن في الشرق الأوسط”، كما ذكر بيان للبيت الأبيض.
تحشد إدارة ترامب الدول العربية لمواجهة إيران
وبالنسبة لمساعي واشنطن الخفية من وزراء مؤتمر وارسو، فإن القمة تشكل بديلاً عن خطة العمل المشتركة التي من المفترض أن تضع المزيد من الضغوط على إيران وترغمها على العودة إلى طاولة المفاوضات، هذه المرة فيما يتعلق بسياستها الإقليمية وبرنامجها الصاروخي.
ويبدو أن هذا ما تخشاه إيران أيضًا؛ لذلك يجادل النقاد في طهران بأنه كان على الدول الأوروبية أن تبدي موقفًا أقوى ضد سياسة الولايات المتحدة، لكن على الرغم من أن بعض دول الاتحاد الأوروبي سوف ترسل دبلوماسيين من المستوى الأدنى، إلا أن علمها سيكون حاضرًا هناك قبل دبلوماسييها.
أين تقف أوروبا وبولندا؟
لم يكن اختيار العاصمة البولندية صدفة، فالدولة الشرق أوروبية تختلف مقارباتها للملف الإيراني عن جاراتها الغربية، كما تسعى الحكومة اليمينية هناك إلى التقرب من إدارة ترامب الذي أكد في السابق وفي وارسو على العلاقات الاستراتيجية مع بولندا، ومن خلال عضويتها في حلف الناتو، تريد بولندا التقرب من الولايات المتحدة، وتأمل أن يقربها هذا المؤتمر من دول عربية تعادي إيران، مثل السعودية والإمارات.
يمكن أن يشير توقيت قمة وارسو إلى أن الولايات المتحدة تدرك الخلافات داخل أوروبا حول إيران، وهي متلهفة لتعميق الفجوة بين دول الاتحاد
وتسعى بولندا -كدولة متوسطة الحجم- إلى إطلاق مسار وارسو وبناء أرضية مشتركة مع الحليف الأمريكي لعله يحوِّل تواجده العسكري على أراضيها إلى وجود دائم لمواجهة الطموحات الإقليمية لروسيا، كما تطمح أن تلعب دورًا بارزًا على الساحة العالمية والأوربية، وتأمل في أن يضعها استضافة مثل هذا التجمع مكانة عالمية مرموقة.
ويبرز قرار بولندا باستضافة الحدث إسفينًا بين دول الاتحاد الأوروبي، حيث لا تتماشى جميع الدول الأعضاء مع ما تسعى إليه ما يُعرف اختصارًا بـ”E3” (ألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا)، ويمكن أن يشير توقيت قمة وارسو إلى أن الولايات المتحدة تدرك الخلافات داخل أوروبا حول إيران، وهي متلهفة لتعميق الفجوة بين دول الاتحاد.
وبين إرضاء واشنطن وعدم إغضاب أوروبا وإنجاح المؤتمر تحاول بولندا اللعب على الحبال كلها لعلها تخرج رابحة في النهاية، وفي حين تقاوم الرغبة في تحويل القمة إلى اجتماع دعائي مناهض لإيران، وتشدد على التزامها بخطة العمل الشاملة المشتركة مع إيران، تفقد الدولة المضيفة السيطرة على الرسالة العامة للمؤتمر لحساب الولايات المتحدة و”إسرائيل” والمملكة العربية السعودية.
ويعكس رفض بعض الأوروبيين للقمة أنه على الرغم من أن دول الاتحاد الأوروبي لديها مشاكل مع سلوك إيران الإقليمي، إلا أنها لا تعتقد أن الولايات المتحدة تتعامل مع هذه المشاكل بشكل بنَّاء للأمن والاستقرار في المنطقة، وبالتالي يمكن لأوروبا –في منتدى متعدد الأطراف مثل وارسو- أن تطالب بإدراج إيران في جولات أخرى من المحادثات، فأي بنية قابلة لإحياء للسلام والاستقرار في المنطقة يجب أن تشمل إيران على أي حال.
لكن حتى لو كانت جميع دول الاتحاد الأوروبي تشترك في نفس الموقف بشأن الاتفاق النووي، إلا أن المزاج العام في أوروبا في مواجهة إيران أصبح أكثر حرجًا، نظرًا لمحاولات الاغتيال الإيراني التي وقعت على أراضي الاتحاد الأوروبي بالإضافة إلى الصواريخ البالستية الإيرانية التي يمكن أن تصل إلى أوروبا الشرقية.
وفي حين تتمتع بولندا تحت رئاسة أندجي دودا بحكومة شعبوية يتشابه خطابها مع الخطاب السياسي للرئيس ترامب، خاصة فيما يتعلق بالموقف من المهاجرين و”بولندا أولاً”، يجمع طهران بوارسو علاقات عادية، ودعمت بولندا رسميًا الاتفاق النووي الذي وقعته إيران مع الدول الكبرى الست صيف 2015، إلا أنها عبرت على لسان رئيس وزرائها جيسيك كزبتوفيتش عن معارضتها لسلوك وسياسات طهران الإقليمية، وترغب بولندا في أن تتخلص من عبء الاعتماد على الغاز والنفط الروسي.
المتوقع أن يحدث.. فرصة للسلام أم الحرب؟
جدول الأعمال المعلن للمؤتمر العتيد سيتسع لمناقشة النزاعات الإقليمية في الشرق الأوسط والآثار الإنسانية الناجمة عنها والأخطار المتأتية من انتشار أسلحة الدمار الشامل والتهديدات السيبرانية وأمن الطاقة، فضلاً عن مكافحة الإرهاب.
لكن ذلك كله ومعه غموض شديد الكثافة ما زال يحيط بأهداف المؤتمر لم يحل دون رؤية القضيتين الَّذَين غاب أصحابهما أو غُيِّبوا، وهما الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والتوتر الأمريكي مع إيران، بوصفهما الأهم على سلم الأولويات، وإن كانت واشنطن اختارت أن يتصدر “خطر إيران” العنوان الأبرز لهذا المؤتمر.
وليس من الواضح بعد مدى الجدية التي ستحظى بها مناقشة البنود الأخرى على جدول الأعمال كالمآسي الإنسانية المتفاقمة في اليمن بفعل الحرب التي يخوضها التحالف السعودي الإماراتي مع الحوثيين، وكذا في سوريا نتيجة صراع نظام الحكم وحلفائه مع معارضيه والثائرين عليه.
بينما ترى السعودية والإمارات والبحرين أن إيران خطر كبير يجب مواجهته بكل السبل، لا تؤمن بقية دول التحالف بأن إيران هي الخطر الأول عليها
وبين طموح إلى ترك الفلسطينيين يحاولون عبثًا اقتلاع شوك الاحتلال دون عون من أشقائهم العرب وهدف بناء التحالف الإقليمي علنًا مع “إسرائيل” ضد إيران تقف بولندا ومعها الولايات المتحدة فتثيرا حرج حلفائهما في أوروبا كما في الشرق الأوسط، لا سيما أولئك الذين بينهم ما بينهم من الخلافات وتتباين مصالح بعضهم جوهريًا مع هذا المشروع، فبينما ترى السعودية والإمارات والبحرين أن إيران خطر كبير يجب مواجهته بكل السبل، لا تؤمن بقية دول التحالف بأن إيران هي الخطر الأول عليها.
وبينما تبدو الولايات المتحدة مصممة على استخدام وارسو لتوسيع تحالفها ضد إيران خارج “إسرائيل” والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، فإن الخبراء يشككون في نجاح واشنطن، ويتوقعون الأ تكون هناك نتيجة ملموسة لبيان يعزل إيران، وستكون الدول الأوروبية حذرة للغاية بشأن البيان الذي ستوقع عليه أو الانضمام إلى أي استنتاج يشير بأصابع الاتهام إلى إيران.
ويعتمد الكثير من ذلك على مَنْ سيشارك في الحدث، كما أن حضور الدول التي لا تقيم علاقات عدائية مع إيران من شأنه أن يخفف من الرسالة العامة للمؤتمر، ويمكن للدول الأوروبية استغلال هذه الفرصة لممارسة الضغط على إيران مع الحفاظ على خطة العمل المشتركة.