“إسرائيل واحدة من أكثر أذرع الإمبراطورية الشمالية دموية، ليس في غزة فحسب وليس في الشرق الأوسط فقط، بل في العالم أجمع”، بعد تصريح الرئيس الفنزويلي الراحل، هوغو تشافيز بموقفه تجاه حكومة الاحتلال الإسرائيلي بهذه الكلمات وإعلانه للقطيعة الدبلوماسية التي استمرت لأكثر من 10 سنوات تقريبًا. ذكر زعيم المعارضة الفنزويلية الذي أعلن نفسه رئيسًا مؤقتًا للبلاد وبديلًا لنيكولاس مادورو، بأن” عملية إرساء العلاقات مع “إسرائيل بلغت ذروتها”، مشيرًا إلى نيته بافتتاح سفارة جديدة في البلاد في الوقت المناسب وتعيين سفير لبلاده في “إسرائيل”.
أثارت هذه التصريحات تساؤلات حول ماضي هذه العلاقات التي انتهت بشكل حادٍ ويبدو أنها في طريقها للعودة بعدما اعترفت “إسرائيل” بالرئيس المنقلب الذي شكر رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو على هذه الخطوة، فما شكل هذه العلاقات؟ وكيف أثرت المجافاة على المجتمع اليهودي في فنزويلا؟ وما الذي يلزم المعارضة باستمالة ود العدو الإسرائيلي في هذا الوقت؟
من هروبٍ إلى آخَر
يقول المدير التنفيذي للجنة اليهودية الأمريكية، ديفيد هاريس، “كانت فنزويلا مضيافة للمجتمع اليهودي الذي طور علاقات عميقة مع البلاد وكون مشاعر وطنية قوية إلى أن استقر وأسس علاقة مريحة مع الحكومة”. إذ كان حضورهم واضحًا منذ أن هاجر بعضًا منهم إلى كاراكاس العاصمة وماراكايبو وتوكاكاس هربًا من الملوك الكاثوليك الذين أجبروا يهود السفارديم (المنحدرين من أصل إسباني وبرتغالي) آنذاك على تغيير دينهم إلى المسيحية أو مغادرة البلاد، وذلك عقب سقوط آخر مملكة أندلسية، غرناطة في عام 1492.
اختار قسم منهم الفرار إلى المغرب أو بلاد الشام التي كانت تحت سيادة الإمبراطوري العثمانية، فيما توجه آخرون إلى أمريكا الجنوبية وبلجيكا وهولندا التي وصل فيها عدد اليهود نحو 10 آلاف شخص، ما جعلها تضم أكبر تجمع يهودي في أوروبا الغربية، ومنذ ذاك الحين، ذاع صيتهم في التجارة المحلية والدولية، فلقد وفر الوجود اليهودي المشترك بين هولندا وفنزويلا مناخًا اقتصاديًا جيدًا لشحن البضائع الهولندية -مثل الكاكاو والتبغ والجلود والأغذية والكحول والملابس والمعادن- إلى السواحل الفنزويلية.
التقت المصالح الفنزويلية مجددًا مع المجتمع اليهودي، في أثناء قتال فنزويلا ضد المستعمرين الإسبان في حروب الاستقلال
أدت هذه الحركة التجارية النشطة إلى تحويل مدينة توكاكاس الساحلية لمركز تجاري حيوي ومستعمرة يهودية تقع تحت حماية السكان الفنزويليين المحليين والوحدات البحرية الهولندية التي صدت عنهم الكثير من الهجمات الإسبانية التي أرادت وقف الصفقات التجارية التهريبية التي كانت تتم على الدوام، لكن بعد عدة محاولات وخيبات، نجح الإسبان في عام 1720 في مهاجمة المدينة بقيادة، بيدرو خوسيه أولا فاراج، الذي تم تفويضه لوقف التجارة المهربة اليهودية.
نتج عن ذلك، هدم القوات الإسبانية التي هاجمت السواحل بـ40 سفينة المنازل والمزارع والحصن والكنيس الأول على الأراضي الفنزويلية، ما أجبر يهود المستوطنة إلى المغادرة لكوراساوا. في مطلع القرن التاسع عشر، التقت المصالح الفنزويلية مجددًا مع المجتمع اليهودي، ففي أثناء قتال فنزويلا ضد المستعمرين الإسبان في حروب الاستقلال، وجد سيمون بوليفار، محرر دول أمريكا الجنوبية من الاستعمار، ملجأ ودعمًا ماليًا له ولجيشه في منازل اليهود. وتبعًا لهذه الحادثة، يرى البعض أن اليهود كافحوا جنبًا إلى جنب مع بوليفار ضد إسبانيا.
عقب حرب ال67 تدفقت أعداد كبيرة من اليهود إلى فنزويلا، إذ بلغ عددهم حينها نحو 45 ألفًا، تركز غالبيتهم في العاصمة مع تركيزات أصغر في ماراكايبو
ومع ذلك، لم يبدأ النمو اليهودي الحقيقي في البلاد سوى في عام 1907، عندما تم إنشاء جمعية “مصلحة إسرائيل” والتي بدأت بتفعيل نشاطاتها في عام 1919 كمنظمة تهدف إلى استقطاب اليهود المشتتين في أنحاء العالم إلى فنزويلا، ما أدى إلى ازدياد الهجرة اليهودية من أوروبا الشرقية وارتفاع عدد اليهود من 475 إلى 882 خلال العشرينيات، وحتى أن فرضت الحكومة الفنزويلية شروطًا محددة على الهجرة اليهودية.
وعلى الرغم من القيود التي ظلت سارية بعد الخمسينيات، إلا أن أن البلاد شهدت موجات هجرة متكررة، منها ما جاء بعد الحرب العالمية الثانية والأخرى عند حرب ال67 التي تدفقت عقبها أعداد كبيرة من اليهود إلى فنزويلا، إذ بلغ عددهم حينها نحو 45 ألفًا، تركز غالبيتهم في العاصمة مع تركيزات أصغر في ماراكايبو، ومع هذا التطور الملحوظ في العدد بدأ المجتمع اليهودي بالتوسع بشكل رسمي في فنزويلا.
دعمت فنزويلا خطة الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين في عام 1947 واعترافها بإقامة دولة إسرائيلية على أراضيها
أنشأ اليهود حينها “الاتحاد الكونفدرالي الإسرائيلي”، إذ لعبت هذه المنظمة دورًا كبيرًا في تأسيس الوجود اليهودي، فلقد ساهمت في بناء نحو 15 معبدًا يهوديًا والعديد من المدارس اليهودية التي لاقت إقبالًا كبيرًا من العائلات اليهودية التي سعت للمحافظة على هويتها، وساعدتهم على المشاركة في الأعمال التجارية وترأس المناصب الحكومية الرفيعة كوزراء وسفراء، كما اجتهدت في بناء مؤسسات ثقافية ومعابد تبقيهم على اتصال مع جذورهم.
جاء هذا التوافق مع دعم خطة الأمم المتحدة للتقسيم في عام 1947 واعترافها بإقامة دولة إسرائيلية على الأراضي الفلسطينية، ولكنها في عام 1975 عندما أصدرت الأمم المتحدة قرارًا مفاده أن “الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري” امتنعت فنزويلا عن التصويت واحتفظت بموقفها لنفسها وذلك حتى أواخر التسعينيات، حين أخذت التوترات بين الحكومة واليهود بالتفشي والتعمق.
لماذا انقلبت الأحوال؟
ليس من السهل تحديد عدد اليهود في فنزويلا، إذ تختلف المصادر بين 14 ألف و25 ألف يهودي فنزويلي، وهي أرقام تقلصت بشكل غير مسبوق عندما تولى هوغو شافيز الرئاسة، وكان السبب بذلك هو الأزمة الاقتصادية في البلاد والخطاب العدائي الذي تبناه شافيز تجاه الجالية اليهودية والذي مشى على خطاه مادورو لاحقًا، ما أدى إلى نمو الهجرة الجماعية إلى “إسرائيل” بشكل طردي، وذلك بحسب مجلة Algemeiner Journal.
يُعتقد أن خصم شافيز وزعيم المعارضة، إنريكه كبريليس، الذي ينتمي أجداد أمه إلى أصول يهودية بولندية هو سبب معاداة الحكومة للمجتمع اليهودي، فقد سبق وأن حاول كبريليس تنفيذ محاولة انقلاب على تشافيز
علمًا أن اليهود لم يرحلوا وحدهم، فقد شهدت فنزويلا انحدار حاد في الأمان، ما جعلها واحدة من أكثر الأماكن الخطرة في العالم بسبب ارتفاع معدلات الجريمة والعنف، وبالتالي انتشر الذعر بين الناس وبدأت أعداد كبيرة من المواطنين بالفرار بحثًا عن ملجأ أكثر هدوءًا واستقرارًا، ومع ذلك ساعدت سياسات حكومة تشافيز تجاه حكومة العدو الإسرائيلي على إثارة النفور من الوجود اليهودي في البلاد.
كما يُعتقد أن خصم شافيز وزعيم المعارضة، إنريكه كبريليس، الذي ينتمي أجداد أمه إلى أصول يهودية بولندية هو سبب معاداة الحكومة للمجتمع اليهودي، فقد سبق وأن حاول كبريليس تنفيذ محاولة انقلاب على تشافيز في عام 2002 لكنه فشل بذلك وخسر الانتخابات الرئاسية مرتين في عامي 2012 و2013، الأولى مقابل تشافيز والثانية أمام مادورو.
وكيف انتهت دبلوماسيًا؟
بدأ شافيز باكتساب شعبية واسعة في العالم العربي تدريجيًا في عام 2002 عندما دعم العراق وكان أول من كسر الحصار الذي فرضته إدارة الرئيس الأمريكي السابق، جورج بوش الابن، وتجول في البلاد برفقة صدام حسين. مهدت هذه الخطوة طريق شافيز إلى قلب المنطقة العربية ومنحت اسمه بعض الأضواء، ولا سيما أنه رأي أن التقارب العربي الفنزويلي سيساهم في ولادة عالم جديد.
في عام 2009 أصدرت وزارة الخارجية الفنزويلية إعلانًا يفيد بقطع العلاقات الدبلوماسية مع “إسرائيل”احتجاجًا على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة
في أواخر عام 2006، انتقد الرئيس الفنزويلي الراحل، هوغو تشافيز، العدوان الإسرائيلي على لبنان وقال إنه “من المثير للسخط أن نرى “إسرائيل” تواصل عمليات قصف وقتل كل هؤلاء الأبرياء بطائرات أمريكية وبقدرتها العسكرية العالية بدعم أمريكي”، واصفًا هذا العدوان بـ”هولوكوست جديدة” و”حرب إبادة تحت غطاء الولايات المتحدة التي تمدد لها لتحقق أهدافها”، وذلك قبل أن يقرر تشافيز سحب سفير كراكاس في تل أبيب بـ5 أيام، لتكون فنزويلا أول دولة تقدم على ذلك.
بعد ذلك بأعوام معدودة، اتخذت فنزويلا موقفًا أكثر حدة مع حكومة الاحتلال الإسرائيلي، ففي عام 2009 أصدرت وزارة الخارجية الفنزويلية إعلانًا يفيد بقطع العلاقات الدبلوماسية مع “إسرائيل”احتجاجًا على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة و”الأعمال الوحشية ضد الشعب الفلسطيني”، وسط تجاهل كامل ومنهجي لدعوات الأمم المتحدة بوقف “الكارثة الإنسانية ضد الأبرياء”.
في بداية عام 2017، أفادت خطة العمل السنوية لوزارة الخارجية الإسرائيلية بأن “إسرائيل” تتطلع إلى استئناف علاقاتها الدبلوماسية مع أربع دول في أمريكا اللاتينية ومن بينهم فنزويلا
تلت هذه التصريحات مطالبة فنزويلا بمحاكمة القادة الإسرائيليين أمام المحكمة الدولة بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وبطرد السفير الإسرائيلي من كراكاس وإغلاق السفارة بشكل كامل، في المقابل اتهمت “إسرائيل” الحكومة بمعاداة السامية ولا سيما أن تشافيز أمر بإغلاق مدرسة يهودية في كاراكاس وتم الهجوم على معبد يهودي في نفس الوقت، لكن فنزويلا تجاهلت الغضب الإسرائيلي واعترفت رسميًا بفلسطين كدولة مستقلة وذات سيادة، وبنت أول سفارة فلسطينية في كراكاس وتبادلت السفراء. كما عززت علاقاتها مع إيران.
وبذلك بات الشعب الفنزويلي مصدرًا للأمل والتضامن بالنسبة للشعب الفلسطيني الذي رأي المجتمع المدني والتحركات الشعبية في فنزويلا تدعم حقوقهم ونضالهم ضد المشروع الإسرائيلي، ولكن لسوء الحظ لم تستمر هذه السكينة، ففي بداية عام 2017، أفادت خطة العمل السنوية لوزارة الخارجية الإسرائيلية بأن “إسرائيل” تتطلع إلى استئناف علاقاتها الدبلوماسية مع أربع دول في أمريكا اللاتينية ومن بينهم فنزويلا. وتعني بذلك استرجاع العلاقات القنصلية ثم إرجاع عمل السفارة الإسرائيلية كما كانت.
وفي السياق، استقبل الرئيس الفنزويلي مادورو وفدا للجالية اليهودية وكتب على موقع تويتر قائلًا “كان يوم حوار جيد لتعزيز السلام والتعايش والحوار بين الحضارات والأديان ومن أجل توطيد التلاحم بين شعبنا’. واعتبرها البعض دعوة ضمنية لإصلاح العلاقات التي انهارت في عهد عراب مادورو، تشافيز. ومع ذلك، وقف بجانب الفلسطينين عندما أعلن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، القدس عاصمة “إسرائيل”، وقال “ستبقى القدس عاصمة فلسطين الأبدية”.
المعارضة الفنزويلية ممر “إسرائيل” إلى فنزويلا
في عام 2010، اتهم تشافيز “إسرائيل” بتمويل المعارضة الفنزويلية، واصفًا إياها بـ”الإرهابية والملعونة” التي تحاول قتله، وفي الخطاب نفسه أرسل تشافيز “تحياته واحترامه” إلى الجالية اليهودية المحلية وأضاف “أشك كثيرًا أن يكون هناك يهوديًا فنزويليًا واحد يدعم هذه الفظاعة”، مشيرًا بذلك إلى مجزرة أسطول الحرية.
“إسرائيل” تتضامن مع أي بديل لنظام الحكم القائم في كراكاس، بحيث قد تسفر هذه الخطة عن تجديد علاقاتها مع تل أبيب
ومع إعلان غوايدو نفسه رئيسًا للبلاد، انضمت “إسرائيل” إلى الدول التي اعترفت بالقيادة الجديدة، وفسر هذا الموقف البروفيسور أرييه كاتسوفيتش، خبير شؤون أمريكا اللاتينية في قسم العلاقات الدولية بالجامعة العبرية، قائلًا: “من الواضح أن “إسرائيل” تتضامن مع أي بديل لنظام الحكم القائم في كراكاس، بحيث قد تسفر هذه الخطة عن تجديد علاقاتها مع تل أبيب”.
مضيفًا أن “علاقات إسرائيل مع فنزويلا تشافيز كانت مقطوعة، وفي عهد فنزويلا مادورو لم تكن هناك علاقات، ولذلك فإن أي بديل لهما سيكون أفضل لإسرائيل، كما أنه على الصعيد الدولي فإن قرار إسرائيل بدعم المعارضة الفنزويلية منطقي، فالصورة العالمية تذهب نحو هذا الاتجاه، ما يجعلني أدعم هذه الخطوة من قبلنا”. ما يعني أن “إسرائيل” تحسم خياراتها مع الجانب الدولي الذي تشعر نفسها جزءا منه من العالم.
في الوقت ذاته، أشادت المسؤولة البارزة في المعارضة الفنزويلية ماريا كورينا متشادو، هذه الخطوة ودعت “المواطنين اليهود الذين غادروا البلاد إلى العودة للمساعدة في إعادة بناء فنزويلا بعد نجاح المعارضة في الإطاحة بمادورو”، حسب وصفها. علمًا أن الأوساط الأمنية الإسرائيلية اعترضت على خطوة الاعتراف بغوايدو خوفًا على الجالية اليهودية المقيمة في فنزويلا، لكن نتنياهو أصر على موقفه.
وإلى ذلك، يبدو مستقبل هذه العلاقات مرهونًا بالتقلبات التي تشهدها الحكومة الفنزويلية الحالية، ولكن من الواضح أن مادرو الذي لم يخترق تعليمات تشافيز الدبلوماسية وحافظ على دعم روسي وصيني في بلاده في مواجهة بالغة الصعوبة مع ما أطلق عليه “دمية واشنطن” الذي يبحث بدوره عن حلفاء استراتيجيين وأصحاب ثقل دولي كالولايات المتحدة ودولة العدو الإسرائيلي، وغيرهما من الدول التي اعترفت بشرعيته.