نلتقي بمئاتٍ أو ربما بآلاف الأشخاص في سياق حياتنا اليومية، فهل فكّرت يومًا بالأسباب التي تجعل من شخصين اثنين يختاران بعضهما البعض من بين الآخرين جميعهم؟ أي ما الذي يجعل من أيٍّ منّا ينجذب إلى شخص محدّد من بين مئات الأشخاص الذين يخرجون في طريقه على مدى سنواتٍ عديدة؟ لطالما حاول علم النفس الإجابة على هذا السؤال من خلال العديد من نظريّاته المختلفة.
وبكلّ تأكيد، فإنّ كلًّا من الانجذاب العاطفيّ والجنسيّ بين الذكور والإناث يخضعان لعدّة معايير مختلفة، سواء كانت ثقافية أو اجتماعية أو دينية أو سياسية. فيما يرى آخرون أنّ التوقيت والصدفة يلعبان دورًا مهمًّا أيضًا. لكن بشكلٍ عام، ثمة نظرّيتان رئيسيّتان في علم النفس يمكن أنْ نلجأ إليهما للإجابة عن لغز الانجذاب والحبّ ذلك: الأولى هي نظرية التطوّر، والثانية هي نظرية الدور الاجتماعي.
التطوّر يلعب دورًا هامًّا
يرى علم النفس التطوّري أنّ التاريخ البشري الذي يعود إلى ما قبل 85 ألف سنةٍ تقريبًا يمكن أنْ يعطينا صورةً مقبولة عن العوامل والأسباب التي تؤثّر على تفضيلاتنا العاطفية وانجذاباتنا تجاه شركائنا وأزواجنا. تعتقد النظرية أنّ البشر في مرحلةٍ ما من التاريخ كانوا يمتلكون قدرةً على الكشف الأصلح للتزاوج من الجنس الآخر، من خلال جودة الجينات والسلوك والشكل الخارجي، نظرًا لكونها الأفضل في تمرير الجينات والحفاظ على بقاء النوع واستمراره.
تملي البيولوجيا واللاوعي البشريّ على النساء الحاجةَ للمساعدة والحماية أثناء فترة الحمل، فمن المنطقيّ أن ينجذبن إلى الرجال الذين يمكنهم توفير الحماية لهنّ. في المقابل، يبحث الرجل في المرأة عن خصوبتها وقدرتها على الإنجاب ورعاية أطفاله، وهو ما يرتبط بشبابها وجَمالها.
الطاووس على سبيل المثال، لا يمتلك ريشه الجميل والملوّن بدون سبب. تخبرنا النظرية أنه امتلك هذا الريش ليجذب بها أنثى الطاووس ويلفت نظرها. فكلما كان الريش أكثر إبهارًا ولمعانًا، زادت فرصة الطائر في الحصول على شريكٍ جنسيّ. الأمر نفسه بالنسبة للإنسان، فقد طوّرنا أيضًا العديد من الأدوات والسمات التي تساعدنا في جذب الجنس الآخر ولفت انتباهه.
الفكرة كالآتي: تؤثّر عمليّات اللاوعي في الدماغ على خيارات الأجيال السلوكيّة، ما يعني أنّ الخصائص الوراثية المفضلة للشركاء في العلاقات العاطفية والجنسية تنتقل بين الأجيال اللاحقة. على سبيل المثال، تملي البيولوجيا واللاوعي البشريّ على النساء حاجةَ الحصول على المساعدة والحماية أثناء فترة الحمل، فمن المنطقيّ أن تنجذب النساء إلى الرجال الذين يمكنهم توفير الحماية لهنّ. في المقابل، يبحث الرجل في المرأة عن خصوبتها وقدرتها على الإنجاب ورعاية أطفاله، وهو ما يرتبط بشبابها وجَمالها.
وقد أظهرت العديد من الدراسات أنه عندما يتعلّق الأمر بالزواج والعلاقات طويلة المدى، تؤكّد النساء بشكلٍ عام على أهمية الحالة المادّية والاقتصادية للرجال لتوفير الرعاية اللازمة للأطفال خلال فترة الحمل والتنشئة، في حين لا يزال الرجال متمسّكين بشباب المرأة وجمالها وشكلها الجسديّ المتعلّقة بقدرتها على الخصوبة والإنجاب.
أبعد من التطوّر.. كيف يلعب المجتمع دورًا في اختيارك؟
يقرّ علماء علم النفس التطوري بأن العوامل الثقافية والعادات الاجتماعيّة يمكن أن تؤثر على كيفية اختيار الناس لشركائهم أيضًا. وهو ما تدعمه نظرية “الدور الاجتماعي” التي طوّرتها عالمة النفس الأمريكية أليس إيجلي، وتعتقد أنّ العمليات الاجتماعية وليست البيولوجية هي ما يملي علينا خياراتنا العاطفية والجنسية.
انجذابنا لمن يشبهنا قد يساعدنا على التنبّؤ بسلوكيّات الآخرين في المستقبل ويقوّي من تواصلنا وتفاهمنا معهم
وفقًا للنظرية، فإنّ قواعد اختيار شريكك العاطفيّ أو الجنسيّ تمليها الأدوار التي يشغلها النساء والرجال في المجتمع. وبالتالي، يصبح من الممكن جدًّا أنْ تتغير تفضيلات الناس في البحث عن شركائهم مع التحوّلات والتغيّرات الحاصلة في الأدوار الاجتماعية والعادات والأعراف التي يسير عليها كلّ مجتمع.
ما يعني أنّ انجذاب النساء إلى الرجال ذوي السلطة والمال يحدث نظرًا لأنّ المجتمع يحدّ من قدرتهنّ على كسب السُلطة والمال. فإذا حصلنَ على تلك المراكز، تمامًا مثلما يحدث في المجتمعات شبه المتساوية جنسانيًا، فإنّ وضع الرجل الماديّ وثروته سيكون أقلّ أهمية بالنسبة للمرأة. قد يصبح جَماله ومظهره الخارجيّ، أو تعليمه العاليّ، أو حالته الثقافية، أو غيرها من العوامل.
انجذاب النساء إلى الرجال ذوي السلطة والمال يحدث نظرًا لأنّ المجتمع يحدّ من قدرتهنّ على كسب السُلطة والمال
أمّا العوامل الاجتماعية التي قد تتدخّل في ذلك، فقد تكون التعرّض والأُلفة إحداها، أيْ أنّنا نألف ونحبّ الأشخاص الذين نتعرّض لهم ونتفاعل معهم خلال حياتنا، سواء في العمل أو الجامعة أو أيٍّ من المؤسسات والأماكن الأخرى. فيما يلتفت آخرون إلى الذكاء أو المهارات الاجتماعية أو الحكمة أو الثقافة.
من جهةٍ ثانية، قد ننجذب للأشخاص الذين يشبهوننا، سواء في الدين أو الثقافة أو السياسة أو الفنّ أو غيرها. ما يعني أنّنا نفضل شخصًا يشترك بالكثير من الأمور معنا على شخصٍ آخر مختلف تمامًا عنّا. أحد أسباب هذا التفضيل هو أنه من الأسهل لنا التواصل والتفاهم مع شخصٍ يتحدّث لغتنا أو يشترك بثقافتنا أو يشارك قيمنا أو يؤمنا بمعتقداتنا. هناك أسباب أخرى محتملة لانجذابنا لمن يشبهوننا، فقد تساعدنا معرفتنا بالتشابه على التنبّؤ بسلوكيّات الآخرين في المستقبل. فيما يفترض البعض أنّ الآخرين ممّن يشبهونهم سيكونون أكثر انجذابًا لهم، ما يجعلهم بدورهم ينجذبون إليهم.
بالمحصلة، قد تساعدنا هذه النظريات، وغيرها الكثير، في فهمٍ أكثر قربًا للأسباب والحسابات التي نأخذها، سواء بشكلٍ واعٍ أو لا واعٍ، حين نختار المرشّحين المحتملين الذين يمكن أن يكونوا شركاءنا أو أزواجنا، لكن في النهاية لا يوجد أي إجابة علميّة واضحة ومحدّدة تستطيع الإجابة على سؤال “الاختيار النهائيّ”. فتلك عملية معقدة وغامضة تخضع للكثير من المعايير الداخلية والإملاءات العقلانية والعمليات التطوّرية والضغوطات الاجتماعية والثقافية، وحتى الإرادة والحظ والصدف والتوقيت جميعها تلعب دورًا في ذلك