وضع جيش الاحتلال منذ بداية حرب غزة عقب عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ثلاثة أهداف محددة لتلك الحرب، كان من بينها ضمان ألا يشكل شمال القطاع على وجه التحديد تهديدًا للداخل الإسرائيلي، وعلى مدار أكثر من 400 يوم فشل المحتل في تحقيق أي من تلك الأهداف، رغم الإبادة التي يشنها جوًا وبرًا وبحرًا ضد الحجر والشجر والبشر.
وبينما تدخل الحرب مئويتها الخامسة كأطول حرب يشهدها الصراع العربي الإسرائيلي منذ أن وطأ المحتل بأقدامه السرطانية ثرى الأراضي الفلسطينية، تبدأ حكومة بنيامين نتنياهو المستسلمة لرغبات وأهواء اليمين المتطرف، عمليًا تنفيذ مخطط التقسيم، فصل الشمال عن بقية القطاع، مستخدمة في ذلك أقذر أنواع الأسلحة التي عرفتها البشرية، وعلى رأسها سلاح التجويع.
رسميًا كشفت هيئة البث الإسرائيلية، الخميس الماضي، عن أن جيش الاحتلال يعمل بشكل ممنهج على فصل شمال قطاع غزة عن مدينة غزة، وأنه لا يعتزم السماح للنازحين الفلسطينيين بالعودة إلى منازلهم في الشمال مرة أخرى، لافتة إلى أن تقديرات الجيش تفيد بأن الآلاف فقط من الفلسطينيين ما زالوا في المناطق المركزية بشمال قطاع غزة، منهم ما بين ألف و3 آلاف ببيت لاهيا، وحوالي ألف بجباليا.
وكانت صحيفة “هآرتس” العبرية قد أشارت في تقرير لها الأحد الماضي إلى احتمالية البدء في تنفيذ ما يُعرف بـ”خطة الجنرالات” وهي خطة وضعها الجنرال المتقاعد غيورا إيلاند بزعم القضاء على المقاومة في الشمال، وتعتمد على إجبار سكان مناطق الشمال على النزوح جنوبًا، عبر سلاح التجويع والعطش والحصار المطبق، ومن يرفض منهم النزوح ويختار البقاء، يتم التعامل معه على أنه ضمن مقاتلي حركة المقاومة حماس، وعليه الاختيار بين خيارين لا ثالث لهما، الاستسلام أو الموت جوعًا، وهو المخطط الذي فشل في المرتين السابقتين.
لأول مرة.. اعتراف بمخطط التقسيم
بعد أكثر من 24 شهرًا من الحرب في غزة، و37 يومًا من العملية العسكرية للمرة الثالثة في الشمال، يعترف المحتل بشكل شبه رسمي على لسان قادته بمخطط التقسيم، رغم إنكار هذا الأمر سابقًا، كاشفًا عن مؤامرته الخبيثة نحو فصل الشمال عن بقية القطاع، في خطوة يهدف من خلالها إلى تعزيز توسعه الاستيطاني بزعم بناء منطقة أمنية عازلة بين القطاع والمستوطنات في الغلاف.
وفق ما نقلته هيئة البث الإسرائيلية عن جيش الاحتلال فإنه “لا توجد هذه المرة نية للسماح لسكان شمال قطاع غزة بالعودة إلى منازلهم”، ما يعني عمليًا فصل الشمال بشكل كامل، وحين سُئل كبار المسؤولين في الجيش عما إذا كان هناك قرار بتقسيم شمال قطاع غزة إلى قسمين، فأجابوا بأن القرار هو قطع شمال قطاع غزة عن مدينة غزة دون إيضاحات.
وفي سياق المضي قدمًا نحو تنفيذ تلك المؤامرة، أفادت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية، اليوم الأحد بأن “الجيش أنشأ محورًا جديدًا يفصل مناطق شمالي غزة عن سائر القطاع ويخطط لإنشاء محور ثالث في جنوب القطاع”، في خطوة تكشف إصراره هذه المرة على ترجمة مخطط إيلاند العنصري عمليًا، وفصل جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا (معاقل المقاومة في الشمال) عن بقية مناطق القطاع.
وتشير بعض المصادر إلى تسمية محور جديد يخطط الاحتلال لتدشينه في جباليا باسم محور “ميفلاسيم” ومن المقرر أن يفصل مناطق بيت حانون وبيت لاهيا وجباليا عن مدينة غزة، ليضاف إلي محور “نتساريم” الواقع جنوب مدينة غزة، ومحور “فيلادلفيا” الحدودي جنوبًا، إضافة إلى المنطقة العازلة شرقا بطول ٥٠ كم وعرض كيلو واحد ليصبح إجمالي مساحة المحاور والمناطق العازلة حوالي ثلث مساحة غزة تقريبا.
وكانت مناطق الشمال قد تعرضت لعمليات برية عسكرية مركزة من جيش الاحتلال، بزعم القضاء على معاقل المقاومة بها، الأولى في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، ثم في مايو/أيار 2024، وأخيرًا تلك التي شُنت في أكتوبر/تشرين الأول 2024، ومستمرة حتى كتابة تلك السطور.
وفي العمليات الثلاثة ارتكب الاحتلال أبشع أنواع الانتهاكات والجرائم، فيما قدم سكان المخيمات والمناطق الشمالية نموذجًا أسطوريًا في التصدي والصمود والمقاومة، ما أفشل على مدار أكثر من عام كامل تنفيذ مخطط التهجير القسري وخطة الجنرالات.
قتل كل مقومات الحياة
كان هدف إسرائيل واضحًا حين أقدمت على اجتياح مناطق الشمال بريًا للمرة الثالثة منذ بداية الحرب، حيث وأد كل مقومات الحياة، وتحويل شمال القطاع إلى أرض ميتة، لا سبيل فيها لحياة ولا مجال للبقاء، مستعينة في ذلك ببعض الأسلحة العنصرية التي وظفها بشكل إجرامي لتحقيق مخططه:
أولًا: سلاح الجوع والعطش
– منع جيش الاحتلال دخول المساعدات الغذائية لمناطق الشمال بشكل شبه كامل، حيث لم تدخل شاحنة واحدة لسكان الشمال خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وسط تحذيرات من مجاعة كارثية قد تطيح بحياة عشرات الآلاف من المتمسكين بالبقاء.
– غلق كل منافذ الطعام، وتدمير معظم المخابز، ونسف مخازن السلع والغذاء، ومنع إدخال الوقود اللازم لتشغيل ما تبقى من مخابز، ما اضطرها للتوقف.
– تدمير وتجريف كل آبار المياه ومنع دخول الشاحنات المحملة بمياه الشرب لداخل مناطق الشمال، ما تسبب في تعميم حالة العطش أو اللجوء لمياه الصرف الصحي والمستنقعات الملوثة.
وعلق المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني، على تلك الانتهاكات بقوله إن “إسرائيل استخدمت الجوع سلاحًا، ومن المحتمل حدوث مجاعة في شمال غزة”، مضيفًا “أهل غزة محرومون من الأساسيات، بما في ذلك الطعام اللازم للبقاء على قيد الحياة”.
فيما أكد مدير مستشفى كمال عدوان، الدكتور حسام أبو صفية، أن “علامات المجاعة بدأت بالظهور في محافظة شمال غزة، التي تشهد إبادة وتطهيرًا عرقيًا إسرائيليًا منذ أكثر من شهر”، مضيفًا في تصريحات صحفية أن “الوضع كارثي بشمال غزة؛ الحصار مستمر، وعلامات المجاعة بدأت تظهر على الأطفال والكبار جراء انعدام المقومات الأساسية للحياة من طعام ودواء ومياه”.
كما حذرت لجنة مراجعة المجاعة (لجنة مستقلة من الخبراء في الأمن الغذائي العالم)، من “احتمال قوي بحدوث مجاعة وشيكة في مناطق بشمال قطاع غزة”، وفقًا لوكالة رويترز، حيث قالت إن من الضروري “التحرك الفوري في غضون أيام وليس أسابيع. مطلوب من جميع الجهات الفاعلة التي تشارك بشكل مباشر في الصراع أو التي لها تأثير على مجراه، من أجل تجنب هذا الوضع الكارثي وتخفيف حدته”.
ثانيًا: سلاح الدواء والعلاج
– تدمير كل المستشفيات والمراكز الصحية ومراكز الإيواء التي كانت تقدم خدمات طبية.
– منع إدخال الوقود لتشغيل المشافي والأجهزة الطبية.
– ترهيب واعتقال الأطقم الطبية واستهداف الأطباء والممرضين والمسعفين والعاملين بالدفاع المدني.
– نسف مخازن الأدوية والمستلزمات الطبية التي كانت تمثل خزينًا احتياطيًا للمنظومة الصحية في الشمال.
– تفجير عيادات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “أونروا”، التي كانت تقدم خدمات طبية أساسية للمتضررين.
– وفي تلك الأثناء، من يتعرض لأي إصابة لن يجد مكانًا لتلقي العلاج فيه، ولا دواء لتخفيف آلامه، ما يعني أنه أقرب للموت منه الحياة في ظل الأعداد الكبيرة من الجرحى والمصابين.
وتعليقًا على هذا الاستهداف قالت منظمة أطباء بلا حدود يوم الجمعة إن آلاف الأشخاص ومن بينهم خمسة من موظفيها، محاصرون في مخيم جباليا، فيما قالت منسقة المشروع بالمنظمة، سارة فويلستيكي، في بيان صحفي لها إنه: “لا يسمح لأحد بالدخول أو الخروج، أي شخص يحاول سيتم إطلاق النار عليه”.
كما حذرت الأمم المتحدة من الأوامر الصادرة عن جيش الاحتلال للمستشفيات المكتظة في الشمال بإجلاء المرضى، بما في ذلك الأطفال في وحدة الأطفال حديثي الولادة، معتبرة أن ذلك يعد قتلًا لكل شرايين الحياة في تلك المناطق.
ونقل تقرير صادر عن الأمم المتحدة عن مدير مستشفى كمال عدون شمال القطاع قوله: “من الواضح أن هناك خطة جديدة لتهجير الناس قسرًا من شمال غزة وإفراغ النظام الصحي بأكمله”، وهو ما أكد عليه رئيس مكتب غزة في وكالة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، جورجيوس بتروبولوس، حين قال إن قافلة تابعة للأمم المتحدة تحمل المساعدات فشلت في الوصول إلى المستشفيات في شمال غزة ونقل المرضى من هناك.
وأضاف: “نحن بحاجة إلى أن يفهم الجيش الإسرائيلي أنه مهما كان ما سيفعلونه على المدى الطويل هنا، فإن العاملين في المجال الإنساني بحاجة إلى الدخول إلى هناك والقيام بعملهم بشكل متواز مع ذلك”.
ثالثًا: الحرب النفسية.. سلاح الخوف والرعب
مخطئ من يظن أن من ينجو من سلاحي الجوع والعلاج فقد نجا بنفسه من هذا الجحيم الذي يخيم على مناطق الشمال بأكملها، فهناك سلاح آخر لا يقل خطورة ولا تأثيرًا عنهما، سلاح الخوف والرعب:
– اعتماد سياسة الترهيب من خلال سلاسل التفجيرات العنقودية التي تستهدف مربعات سكنية بأكملها وحرق سكان الخيام أحياء، ما يبث الرعب والهلع في نفوس الأهالي داخل بيوتهم وفي المخيمات.
– المنشورات التي يلقيها الاحتلال على سكان تلك المناطق ويطالبهم فيها بالنزوح فورًا وإلا فالاستهداف المباشر هو البديل، رغم عدم تيقنهم أصلًا من سلامة النزوح في ظل قصف العشوائي الذي لا يترك أحدًا، مقيم كان أو نازحًا.
– تكريس حالة الرعب من مواجهة الموت جوعًا وعطشًا، في ظل نقص الدواء وغياب مراكز العلاج، ما يجعل من عملية البقاء مغامرة أقرب للمقامرة غير المحسوبة.
– بث الفتنة بين سكان الشمال والمقاومة، ومحاولة الوقيعة بينهما، على أمل تجريد حماس ورفيقاتها من حاضنتهم الشعبية، وتحويلهم إلى أهداف لأهالي شمال القطاع، إما لإيقاف دعمهم أو الإبلاغ عنهم للاحتلال الذي يؤمن أن تلك الحاضنة أحد أهم مصادر قوة المقاومة التي فشل الكيان بأجهزته الاستخباراتية والعملياتية على مدار سنوات طويلة في تفكيكها.
عقاب جماعي على الصمود والبقاء
على مدار عام وأكثر لم ينجح الاحتلال في إحداث القطيعة الكاملة بين شمال القطاع وسكانه، فمع كل عملية عسكرية ورغم حجم الانتهاكات التي يمارسها المحتل، والادعاء بين الحين والآخر بتحقيق النصر المطلق في تلك المناطق، كان الغزيون يعودون لمناطقهم مرة أخرى رغم تدمير كل مقومات الحياة، وهي العودة التي كانت تبرهن عمليًا على كذب مزاعم الكابينت وحكومة نتنياهو أمام الشارع الإسرائيلي.
وأثار هذا الصمود، سواء من سكان الشمال أو من المقاومة المستبسلة هناك والقادرة على لملمة شعثها سريعًا رغم ارتقاء كبار قادتها، حفيظة جيش الاحتلال الذي أوغل في إجرامه وكثف من آلة التدمير التي لم تترك انتهاكًا ضد الإنسانية إلا وارتكبته، محاولًا تحقيق أي انتصار ميداني يضاهي مزاعم الانتصارات المعتمدة على لغة الأرقام الخاصة بالضحايا من المدنيين والنساء والأطفال واتباع سياسة الأرض المحروقة.
وفي ظل تلك الصلابة غير المتوقعة، والنضال الأسطوري، شعبًا ومقاومة، كان لا بد من العقاب الجماعي الذي شنه الاحتلال خلال الشهر الأخير، مستخدمًا أشد أنواع الأسلحة وأكثرها تحريمًا وتجريمًا، فحاصر جباليا وبيت لاهيا وجيرانهما، وقتل كل مقومات العيش والبقاء بها، وعزل بضعة كيلومترات تحتضن عشرات آلاف الفلسطينيين عن الحياة برمتها، وحول تلك البقعة الجغرافية الضيقة إلى جحيم لا يُحتمل، وساحات موت تتسع للجميع دون استثناء.
يحاول الاحتلال من خلال تلك الوحشية وهذا الإجرام النازي، الفريد من نوعه في العصر الحديث، كي الوعي، الفلسطيني والإسرائيلي والعالمي على حد سواء، إزاء ما حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ومحو كل صور ومشاهد الهزيمة والإذلال التي روجت لها عملية الطوفان، على أمل ترميم الشروخات التي أحدثتها واستعادة الهيبة ومعادلة الردع لما كانت عليه قبلها، وحتى لا يتم استثمار ذلك في عمليات مشابهة مستقبلًا.
كالعادة.. لا أحد يُحرك ساكنًا
لم يعرف العالم جريمة إبادة بهذه الكيفية وبهذا التوغل في العنصرية والفاشية، تتم على مرأى ومسمع من الجميع وعلى الهواء مباشرة دون أن يرافقها تحرك، إقليمي أو دولي، لوقفها وتلجيم مجرميها، حتى الجرائم التي دونها التاريخ بصفتها جرائم إبادة وحشية، سقط فيها مئات آلاف الضحايا، لم يكن العالم على علم بها – في ظل غياب وسائل التواصل وتكنولوجيا الاتصالات حينها – ومع ذلك كان هناك رد فعل، وإن جاء متأخرًا وبعد فوات الأوان.
كما أن جرائم الإبادة التي تمت في العصر الحديث، كالتي حدثت في البوسنة أو الشيشان أو غيرها من البلدان، والتي كانت – إلى حد ما – على مرأى ومسمع من العالم، كانت هناك ردود فعل بشأنها، إما بملاحقة مرتكبيها قضائيًا وجنائيًا على المستوى الدولي أو دعم المقهورين بشكل أو بآخر، لكن أن يُترك شعب يُباد بهذه الطريقة وبهذا الإجرام النازي، وتُقيد مقاومته بسلاسل الحصار وتضييق الخناق، فلم يعرف التاريخ انبطاحًا وصمتًا وخذلانًا كالذي يواجهه الفلسطينيون منذ أكثر من عام تقريبًا.
المثير للغثيان هنا أن الشعب الفلسطيني الذي كان يتوقع موقفًا عربيًا داعمًا له إزاء ما يتعرض له من إجرام عنصري على أيدي جيش الاحتلال، بات يستجدي اليوم موقفًا محايدًا، بعدما انقلب الحال وتبدلت الأماكن وقفز الموقف العربي من خانة الدعم لفلسطين وقضيتها إلى دعم الاحتلال وأجندته والتواطؤ معه في إيلام الغزيين عبر حصارهم وتجويعهم.
ولا شك أن فلسطين، مقاومة وشعبًا، بعد انتهاء تلك الحرب، آجلًا أم عاجلًا، سيعيدون مقارباتهم في قضية النضال والتحرير بشكل كامل، فما كشفته حرب غزة رغم الثمن الباهظ والمكلف كفيل بأن يعيد ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني من جديد، ليوضع كل في مكانه، وفق استراتيجية مغايرة تمامًا، يكون التعويل فيها على الميدان والفلسطيني فقط دون سواهما، استراتيجية ترتكز على مقولة “ما حك جلدك مثل ظفرك” و “بيدي لا بيد عمر” بعيدًا عن العنتريات الإقليمية التي افتضح كذبها وزيفها.
ورغم سوداوية المشهد وكارثية الوضع وصفرية الأمل في موقف إنساني محترم، فإن فرص تطهير الجلد العربي والمسلم من عار الخذلان لم تنته بعد، فمن المفترض أن تحتضن العاصمة السعودية الرياض، القمة العربية – الإسلامية المشتركة غير العادية، لبحث استمرار العدوان الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية والجمهورية اللبنانية، وتطورات الأوضاع في المنطقة، وتنسيق المواقف بين الدول الأعضاء.. فهل يتدارك العرب والمسلمون الأمر ولو في اللحظات الأخيرة قبل فوات الأوان؟