تواجه الدول التي لم تصلها بعد نسمات الربيع العربي سيطرة الحكومات على القضاء والاقتصاد والصحة وغيرها، إلا أنّ ما يشدني الآن هو سيطرة تلك الحكومات على الإعلام حتى أصبحت الجرائد وكأنها مطبوعات دورية لأفرع المخابرات لا وسائل اتصال اجتماعية حرة .
بدءًا من حملة “داوود الشريان” المشبّعة بالحقد المناطقي والعنصرية الجاهلية، مرورًا بخواطر “تركي الدخيل” حين راح يتخبّط بها يمينًا ويسارًا، لا يعرف فيها من هو عدوه تحديدًا، فتارة يتحّول فجأة إلى أخصائي نفسي يحلل شخصية “سلمان العودة” كأن وحيًا من السماء كشف له قلب العودة فعلم دواخله، وتارة ينتقل إلى سوريا فيصب من دماء السوريين على صفحاته لتتسع رقعة انتشارها في غثاء معجبيه، انتهاءً بالتقارير مجهولة المصدر التي تصبّ في ذات الإطار على صفحات الجرائد والبرامج الإذاعية السعودية.
المراقب للمشهد من بعيد لا يسعه إلى أن يلاحظ كيف أنّ قنبلة من الكراهية الإعلامية انفجرت على حين غرّة، تتشابه فيها الأقوال والمناهج والتوجهات، فيشتَم من بعيد رائحة الخوف والمكر ذاته الذي يتصاعد من أقبية المخابرات وغرف المباحث.
برنامج الثامنة يستضيف على العلن ذوي شاب سعودي قيل أنّه يحارب في سوريا، ويضع المووضوع في قالب يبدو وكأن السعوديين من أمة أخرى غير تلك التي تسيل دماؤها الطاهرة على أراضي الشام، وكأنه لا يعلم أن المعركة الدائرة في سوريا إن أسقط فيها الأعداء بوّابات دمشق فلا شيء إطلاقا سيمنعهم من أن تكون المعركة التالية على بوابات نجد، ولسوف نقف لنشاهد الشريان ينادي على قبائل الأمم – التي اعتبرها هو أمة أخرى – حين يغتصب الفرس والروس نساء قبيلته ويسفكون دماء رجالها.
أهالي دول قانون الطوارئ الأزلي يعلمون كيف هي نمطية المسرحيات الحكومية على الإعلام، شاهد، وشاهد على الشاهدة، وسيناريو مسرحي ملحمي، ووجه اعلامي موّجه هو كل ما تحتاجه لتخاطب المخابرات العامة، تمامًا على نفس النمط سار الشريان. فوالدة الشاب “الشاهد الأول “، وسرعان ما يعود الشاب من أرض المحشر مستجيبًا لدعوات الشريان المنقذ وبهذا يتوفر له شاهد آخر .
لا أعلم من أين للشاب من تلفاز وكهرباء وقمر صناعي ليشاهد الشريان ليلة الجمعة وهو على الجبهة، ومن أين له بمهرّب يقبل بـ 2000 ليرة فقط مقابل تهريبه من الحدود، بالمناسبة.. ألفا ليرة لا تتجاوز الآن الـ خمسين ريالاً ولا تشتري في الحرب شيئًا يقتات به قزم فما بالك بمن له عائلة ليعولها، وأذكر أنه في أوّل الأحداث كان تهريب المدنيين لا تقلّ تسعيرته عن الـ 10 آلاف ليرة حين كانت الليرة لم تفقد قيمتها بعد، فما بالك بمحارب من المهاجرين ستحتاج لتهريبه حتى على حواجز الثوّار؟!
يبدو لي أن السعودية لم تصبح ضليعة بعد في فن السيناريست، فحتى في الأفلام الهوليودية يسبق إعداد الفيلم مراحل بحثية لمعرفة الظروف والمدن والأحداث ليكون الفيلم حقًا يحاكي الحقيقة، أما أن السعودية كانت على عجل فتخطّت تلك المرحلة أو أن باحثهم يشبههم يسمع كل ما يقال لكن من طرف واحد، أذنه لا ترقص إلا على بحور الشعر النبطي، فيختار للشاب المحارب أن يلتحق بصفوف التنظيم الذي يكاد يكون الوحيد ذو الأغلبية السورية والأقلية الضئيلة جدًا من المهاجرين، لمجرد أنه يريد أن يتخبّط ما بين صورة المحاربين الصعاليك، والمحاربين المتطرفين، ويصب اهتماماته لمجاهدين وضعوا حياتهم رهن حرية أمة بأكملها بأنهم يقترفون الكبائر وكأنك لا تسمع ليلاً إلا صوت كؤوسهم تحيّ بعضها بعضًا محتفلين بالنصر على الخوارج!!
تتحول الداخلية السعودية فجأة من قلب الأسد إلى جراب الكانغرو وتحتضن العائد من حرب سورية وكأن عودته نظّفت يديه من الدماء – إن افترضنا أنه عاد من هناك فعلاً – وتقف متفرجة على المشهد كأي مشاهد آخر.
“تركي الدخيل” على الكفة الأخرى، تشعر أحيانًا وكأنه عُيّن مراقبًا على العلماء والدعاة، وكأن منبره أصبح رسميًا غرفة تحقيق، في آخر مقال له يتسائل عن أسباب تواجد كتب سيد قطب في المدارس والجامعات، ويتحدث عنها وكأنها وباء ألمّ – على حين غرّة – بالسعودية، متجاهلاً تلك الفتاوى التي كررت على مسامعه مرات ومرات حين كان يدرس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، فها هي فتوى اللجنة الدائمة، وهاهو الشاهد من أهله الشيخ عبد العزيز بن باز، في فتوى رقم 6250 من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإِفتاء بالسعودية يقول: “إن جماعة الإخوان المسلمين هى من الجماعات الأقرب إلى الحق والعمل بكتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم”. أتساءل الآن إن كان الدخيل قد اعترض على الفتوى حينها أم أنه كما قال الشاعر: “إذا الريح مالت .. مال حيث تميل”؟
يبرر الكثيرون الآن الفتوى بأنها عائدة إلى زمانها قبل أن يغّير الإخوان من توجهاتهم، لنفرض واقعية التبرير ولنطرح سؤالاً: هل غيّرت كتب قطب من محتويات نفسها بعد أن صدرت بحقهم تلك الفتاوى؟! أم أن صفحات خفية ظهرت الآن بين طيات الكتاب دون سابق إنذار؟!