أعلن جهاز الأمن العام الإسرائيلي “الشاباك”، أمس الأربعاء، عن إجهاض محاولات وحدة سرية تابعة لحركة حماس في قطاع غزة كانت تعمل على تجنيد شباب من الضفة الغربية والقدس الشرقية، للقيام بأعمال ضد أهداف إسرائيلية، بالاستعانة بقناة الأقصى الفضائية.
وبحسب البيان الذي أصدره الجهاز الأمني وعمّمه مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فإن هذا الكشف هو بمثابة “قمة جبل الجليد”؛ إذ سبق للجهاز الكشف عن عشرات الشباب – والنساء – من الضفة الغربية والقدس لتواصلهم مع هذه الوحدة السرية خلال السنوات القليلة الماضية؛ ولكن الجديد هذه المرة هو اكتشاف الخلية وأعضاؤها قاب قوسين أو أدنى من تنفيذ أعمالهم العدائية ضد “إسرائيل”.
ووفقًا لما ورد في البيان، فإننا أمام تشكيل ثلاثي الأضلاع، يقوم ضلعه الأول وهم عناصر القسام في غزة بتجنيد شباب من الضفة والقدس (الضلع الثاني)، بناءً على معطيات معينة، للقيام بعمليات طعن وتفجير وإطلاق نار ضد أهداف إسرائيلية، بالاستعانة بعناصرَ إعلامية من قناة الأقصى الفضائية (الضلع الثالث) لتقوم بتوجيه رسائل معينة أثناء البث المباشر للأشخاص الجاري تجنيدهم، بغرض طمأنتهم وتأكيد أنهم يعملون مع عناصر حماس فعلًا.
وقد ذكر البيان معلومات تفصيلية عن جميع الشخصيات التي شاركت في هذه الخلية من عناصر حماس التي تواصلت، وشباب الضفة الذين جرى التواصل معهم، إلى مذيعي قناة الأقصى الذين نسّقوا بين الطرفين، على حد زعم الجهاز الإسرائيلي.
فتحدث البيان عن قتيبة النواجعة، 21 عامًا، من الخليل، والذي اعتُقل في 21 ديسمبر/ كانون الأول 2018، لتواصله عبر “الفيسبوك”، لمدة عام، مع محمد العرابيد، أحد عناصر القسام، الذي قدّم نفسه للشاب في بداية الأمر على أنه “مراسل إعلامي”، حيث كان يرتدي زيًا صحفيًا (PRESS) ليغطي الاشتباكات على حدود غزة، ولكنه لم يعلن عن هُويته الحقيقية للشاب إلا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، عندما طلب منه أن يقوم بعملية انتحارية بحزام ناسف في حافلة ركاب بمدينة اللد، مقترحًا عليه أن يختار آية قرآنية معينة، سينطقها أحد مذيعي قناة الأقصى على الهواء في اليوم التالي، كوسيلة سرية لطمأنة قتيبة على كونه يخدم حماس، وهو ما حدث فعلا؛ إلا أن “الشاباك” قد قام بتوقيف قتيبة قبل استلام الحزام الناسف بأيام.
الشخص الثاني الذي تحدث عنه البيان هو بهاء الشجاعية، 21 عامًا، من رام الله، يدرس العلوم الشرعية في جامعة أبو ديس، ويرأس الكتلة السرية لحماس في الجامعة، وقد أُفرج عنه في مايو/ آيار 2018، بعد قضائه عامين في السجن لإدانته بالانضمام إلى مجموعة تواصلت مع عناصر حمساوية من قطاع غزة، ليعاود الاحتلال توقيفه مجددًا في 16 ديسمبر/ كانون الثاني 2018، لتواصله مع عنصر حمساوي يدعى موسى عليان عبر “فيسبوك”، يقدم نفسه في مواقع التواصل الاجتماعي كصحفي، والذي أخبره لاحقًا أن أشخاصًا من قناة الأقصى الفضائية يعرضون عليه المشاركة في أنشطة حماس العسكرية بالضفة.
قد برر البيان قصف الاحتلال قناة الأقصى التابعة لحركة حماس يوم 12/11/2018 بضلوع كل من: إسلام بدر و راجي الهمص، المذيعين بالقناة والأعضاء بالحركة، في مساعدة هذه الخلية وبث الرسائل السرية إليها عبر برامجهما في المحطة
كذلك، ذكر البيان أحمد أبو عيشة، 23عامًا، من نابلس، والذي جرى اعتقاله في السادس والعشرين من نفس الشهر، لتواصله مع أحد عناصر حماس المسؤولة عن تجنيد شباب الضفة والقدس، لقيامه بتجنيد شاب آخر من نابلس يدعى سعيد عيسى، لتنفيذ عملية طعن مشابهة لعملية “عائلة فوجل” التي وقعت عام 2011 بمستوطنة إيتمار.
وأخيرًا، علاء الشراونة، 26عامًا، من القدس، معتقل منذ الثامن من يناير/ كانون الثاني 2019 لتواصله مع كل من: محمد العرابيد – الذي جنّد الشاب الأول – ومحمد أبو كويك، ومحمد عقل، بهدف تشكيل خلية عسكرية، وتصوير أماكن في القدس، بمساعدة شخص أتى إليه لاحقًا من غزة.
وقد برر البيان قصف الاحتلال قناة الأقصى التابعة لحركة حماس يوم 12/11/2018 بضلوع كل من: إسلام بدر و راجي الهمص، المذيعين بالقناة والأعضاء بالحركة، في مساعدة هذه الخلية وبث الرسائل السرية إليها عبر برامجهما في المحطة.. فما الرسائل التي أرادت “إسرائيل” إرسالها بهذا الكشف، ولمن توجهها؟
حد السيف: محاولة رد الضربة
الرسالة الأولى التي أرادت “إسرائيل” إرسالها متعلقة بعملية “حد السيف” التي كشفت خلالها كتائب القسام عن وحدة عسكرية إسرائيلية خاصة كانت تقوم بالتجسس – ومهمات سرية أخرى – في خان يونس، نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، والتي شهدت لاحقًا أحداثًا مسّت بصورة إسرائيل وحكومة نتنياهو بشكل سلبي مثل: مقتل أحد ضباط الوحدة المكتشفة، وإصابة حافلة تابعة للجيش الإسرائيلي بصاروخ “كورنيت” المضاد للدروع، واستهداف آلية عسكرية على الحدود مع غزة، ومقتل عدد من المستوطنين في جولة تصعيد متبادل شهدت إمطار مستوطنات غلاف غزة بمئات الصواريخ والقذائف، وهو ما أدى لاحقًا إلى استقالة وزير الدفاع الإسرائيلي، إفيجدور ليبرمان.
ومع ذلك، فإن هذه الرسالة لا يمكن قراءتها على أنها موجهة لحماس، نظرًا لأن الحركة – بطبيعة الحال – على علم دائم بتطورات اتصال عناصرها مع خلايا الضفة والقدس، حيث يسهل معرفة ما إذا كان أحدهم قد اعتقل أو هرب، لكون هذه الإجراءات تتم غالبًا وسط زخم أمني تحسبًا لأن يكون المقاوم مستعدًا لخوض اشتباك مسلح مع عناصر الاحتلال، ومن ناحية أخرى، فالبيان لم يقدم جديدًا نوعيًا قد يهمّ الحركة أو يدينها، باستثناء مقطع قصير يصور أحد مذيعي قناة الأقصى ممسكًا بكوب ماء، بعكس الجانب الإسرائيلي الذي كان مهتمًا بمعرفة ما خلّفته وحدته المكشوفة في غزة من تقنيات ووثائق وأسلحة، اضطرته ساعتها إلى قصف المحيط الجغرافي الذي شهد الاشتباك بين أفراد الوحدة وعناصر القسّام.
لكل ما سبق، فإنه يمكننا القطع بأن الرسالة موجهة إلى الداخل الإسرائيلي الذي أصيب بصدمة عنيفة جرّاء ما حدث في عملية حد السيف، وقد بدا في عدة مواضعَ من البيان الإسرائيلي التأثر الشديد بقالب ومضمون بيان القسّام الذي كشفت عبره الكتائب عن تفاصيل الوحدة الإسرائيلية، ومنها:
التشديد على أن عناصر القسام التي تواصلت مع شباب الضفة المراد تجنيدهم قد قدموا أنفسهم بهُويات مزيفة غير حقيقية، رغم أن هذا لا يعني بالنسبة لحالة حماس في غزة، على الصعيد الاستخباري، الشيءَ الكبير، والسر وراء ذلك أن “إسرائيل” قد تضررت أمنيًا بشدة من بيان القسّام الذي عرض صور أفراد الوحدة، لدرجة إصدار الرقابة العسكرية الإسرائيلية حينها أوامر فورية للرأي العام الإسرائيلي بعدم تداول هذا الصور، وقد لخص وقتها محرر الشؤون العسكرية في القناة 14 العبرية، ألون بن ديفيد، خطورة الإعلان القسامي عن كون أفراد الوحدة الإسرائيلية الخاصة قد باشروا أعمالها الميدانية كمدنيين يقومون بأنشطة مدنية قائلا: “إن إعلان القسام عن ذلك سيدفع الناس إلى التعرف عليهم، واكتشاف أنهم ليسوا سوى ضباط في الجيش الإسرائيلي، وأنهم كانوا مخدوعين في كونهم تجارًا أو رؤساء أحزاب أو وجوهًا معروفة في المجتمع، خاصة في الدول العربية”، وهو ما دفع، كما يبدو، من صاغ البيان إلى استنساخ نفس المضمون في بيان الرد.
كأن من صاغ البيان يريد أن يقول للداخل الإسرائيلي إنهم ما إن أعلنوا عن كشف وحدتنا الخاصة والاشتباك معها وقتل أحد ضباطها، قمنا بقصف فضائيتهم التي نسقت ضدنا في عمل مماثل
كشف التفاصيل الدقيقة عن الأشخاص التي ادعت إسرائيل تورطهم في الخلية، سواءً من عناصر القسام أو قناة الأقصى أو شباب الضفة، فجاء في البيان ما يشبه (Profile) شخصي عن كل ما يخص الشخص، اسمه وعمره وعمله ومسكنه وتاريخ اعتقاله، تمامًا كما فعلت القسام في بيانها عن الوحدة.
الأمر الذي يقطع تمامًا بصحة هذا الاستنتاج هو دلالة التواريخ المذكورة في بيان الشاباك، فقد تحدث البيان عن يوم 12/11/2018 حينما قصفت إسرائيل مبنى قناة الأقصى، وهو اليوم التالي مباشرة لعملية حد السيف واشتباك عناصر القسام مع الوحدة الإسرائيلية، كذلك يوم 8/1/2019، يوم اعتقال علاء شراونة، وهذا اليوم يسبق المؤتمر الصحفي الذي أقامته القسام للإعلان عن هوية عناصر الوحدة الخاصة بأربعة أيام فقط، وكأن من صاغ البيان يريد أن يقول للداخل الإسرائيلي إنهم ما إن أعلنوا عن كشف وحدتنا الخاصة والاشتباك معها وقتل أحد ضباطها، قمنا بقصف فضائيتهم التي نسقت ضدنا في عمل مماثل، وقبل أن يكشفوا هوية أفراد وحدتنا الخاصة كنّا نكشف آخر أفراد خليتهم، فجاء البيان نسخة طبق الأصل تقريبًا من بيان القسام، باستثناء الأسماء والتفاصيل.
رسائل إعلامية مُبطنة
عندما يصوغ الشاباك بيانًا أمنيًا متعلقًا بالمقاومة وموجهًا للرأي العام الإسرائيلي، فإنه ينبغي لقارئه، لا سيما المحللين، الوقوف عند كل مفردة ترد في البيان، خاصة أن متن البيان قد تضمن فعليًا عددًا من الرسائل الإعلامية المهمة التي لا يمكن فصلها عن الخطاب الإسرائيلي كجزء من أدوات الصراع مع الفلسطينيين خاصة والعرب عامة، ومنها:
التشديد على تسمية المدن الفلسطينية، الواقعة قانونًا في الحزام الفلسطيني بموجب أوسلو وغيرها، بأسماءٍ يهودية عبرية لها كثافة رمزية، دينية وثقافية، عند الجانب الإسرائيلي، كما ورد في البيان الذي نشره المتحدث الإسرائيلي للدول العربية أوفير جندلمان، عند الإشارة إلى الضفة الغربية باسم (يهودا والسامرة) وكان هذا المسمى المعتمد من الحكومة الإسرائيلية للضفة الغربية قد أثار غضب رواد مواقع التواصل الاجتماعي عندما استخدمته فضائية فلسطينية تابعة للسلطة في وقت سابق.
محاولة تصوير سكان قطاع غزة بأنهم شبكة من المتواطئين مع حركة حماس، كل في موقعه، فالصحفيّون صحفيّو حماس، والمراسلون مراسلو حماس، والإعلاميّون إعلاميّو حماس، وهو ما يبرر استهداف أي إنسان من هذه البقعة الجغرافية سابقًا أو لاحقًا، والتهمة الجاهزة: يخدم حركة حماس الإرهابية،التي تستهدف إسرائيل، من موقعه الوظيفي، علمًا بأن “إسرائيل” تمرر هذا “الكليشيه” الإعلامي في أكثر من قالب منها أن تقول إن حماس تستخدم سكان قطاع غزة كدروع بشرية تحتمي بهم من الجيش الإسرائيلي، كتبرير جاهز لاستهداف سكان القطاع من المدنيين.
أراد نتنياهو، من تقديم البيان في هذا الوقت، أن يساهم في تلوين الصورة التي رسمها له مكتبه الإعلامي “كأقوى رجل في إسرائيل”
أرادت “إسرائيل” بهذا البيان شرعنة حلولها الأمنية، والتي تخالف القوانين والمبادئ الدولية، ضد كل ما هو فلسطيني، فيصبح الحل لمعاقبة فضائية الأقصى هو قصف المبنى بصاروخ جو – أرض من طائرة عسكرية، والحل لبعض التجاوزات الإدارية من البعثة الأممية بالخليل هو طردها بعدم تجديد مدتها، والحل لهجمات الفلسطينيين هو هدم بيوت عوائلهم وتشريدهم؛ فيجوز حينئذ لإسرائيل ما لا يجوز لغيرها من حلول جذرية وأمنية.
أراد نتنياهو، من تقديم البيان في هذا الوقت، أن يساهم في تلوين الصورة التي رسمها له مكتبه الإعلامي “كأقوى رجل في إسرائيل”، والذي بمقدوره أن يقوض أدوات حماس التي تستخدمها ضد إسرائيل جنوبًا عبر سلسلة من التدابير الأمنية التي بدأت ببناء جدران عازلة بين قطاع غزة وإسرائيل برًا وبحرًا، وصولًا إلى تحييد “سلاح يوم القيامة” لدى حزب الله عبر عملية “درع الشمال” التي استهدفت الأنفاق الحدودية بين إسرائيل ولبنان ديسمبر/ كانون الثاني 2018، وانتهاءً بالغارات الجوية التي يشنها سلاح الجو الإسرائيلي ضد أهداف إيران في سوريا، كما يريد الاستفادة من حالة الزخم غير المسبوقة التي تعيشها الدبلوماسية الإسرائيلية، مستغلاً وجوده في مؤتمر وارسو ببولندا، للترويج لخطاب المظلومية المعتاد، وهذا المبدأ يُكمّل جانب القوة في خطاب “إسرائيل” للعالم، و نراه بوضوح في كثير من ممارساتها كاصطحاب نتنياهو السفراء الدوليين للحدود الشمالية ليريهم أنفاق حزب الله، وجلب السفير الإسرائيلي بالأمم المتحدة أجزاء من صواريخ حماس في الاجتماعات المهمة.
ما يخص حماس من البيان
كما أوضحنا فإن البيان ليس موجهًا لحماس أصلًا بأي شكل، وإنما هو موجه لكل الأطراف تقريبًا باستثناء حماس، ومع ذلك يتعين علينا الإشارة إلى عدة نقاط تأسيسية مهمة في ضوء ما ورد في البيان:
تسعى حماس في صراعها ضد “إسرائيل” إلى الاستفادة من كافة الأدوات المتاحة
لا تخجل حماس أصلاً من اتهامها بالعمل المقاوم في الضفة والقدس ولا تنفيه، بل تفخر الحركة بهذه الخلايا وتؤيدها وتباركها، وتقول إن هذه العمليات تخفف من الضغط على جبهة غزة، وأنها امتداد لمشروع المقاومة الذي يشمل كل الجغرافيا الفلسطينية، وبفضلها أُجهِض مشروع تقسيم الأقصى زمنيًا ومكانيًا، كما تعتبرها دومًا ورقة مثالية للرد على الاعتداءات النوعية ضد القضية الفلسطينية من “إسرائيل” وغيرها، تمامًا كما حدث بعد قرار ترامب نقل سفارة بلاده مع إسرائيل من تل أبيب إلى القدس؛ ومع ذلك، فإنه لم يكن واردًا أن تتبنى حماس أي من هذه العمليات – حال حدوثها – باسمها، خاصة تفجير الحافلة، وإنما كان سيسري عليها ما سرى على غيرها من “المباركة” والتبنّي المستقبلي، إلا إذا أرادت حماس تغييرًا جذريًا في معادلات الصراع مع اقتراب تمرير صفقة القرن ونية عباس إقصائهم من المشهد السياسي.
لا تنظر حماس إلى موضوع “عدم استهداف المدنيين” باعتباره مبدأ، وإنما تنظر إليه باعتباره تراجعًا تكتيكيًا قد تعود إليه من جديد حسب تطورات المشهد، وفي الماضي القريب كانت تستهدفهم، وحاليًا تستهدفهم في صورة قصف المستوطنات المتاخمة للقطاع وتبارك استهدافهم من قبل المقاومين.
تسعى حماس في صراعها ضد “إسرائيل” إلى الاستفادة من كافة الأدوات المتاحة، فكانت أثناء التصعيد العسكري تشويش على القنوات الإسرائيلية لتبث رسائل أبو عبيدة، وتخترق المواقع الإلكترونية الإسرائيلية عبر هجمات السايبر، وترسل رسائلها النصية على هواتف الإسرائيليين، وقد شرعت مؤخرا في استخدام “البيتكوين” كوسيلة تمويل غير خاضعة للرقابة الدولية “والفيسبوك” كأداة لتجنيد الشباب المقاوم، وكلها أدوات ضرورية ومعتبرة في إدارة الصراع، جنبًا إلى جنب مع المسارات التقليدية.