وقعت إسبانيا والمغرب، مساء أمس الأربعاء، 11 اتفاقية للتعاون الثنائي في العديد من القطاعات. اتفاقيات جاءت في إطار زيارة رسمية يؤدّيها ملك إسبانيا فيليبي السادس وعقيلته الملكة ليتيثيا إلى المملكة المغربية، وذلك بدعوة من الملك محمد السادس. زيارة جاءت بعد طول انتظار حيث تمّ الغاؤها عديد المرات نتيجة توتر العلاقات بين البلدين، فهل يمكن للاقتصاد أن يصلح العلاقات السياسية المتأزمة بين الطرفين؟
علاقات اقتصادية قوية
في هذه الزيارة ركّز الطرفين على الجانب الاقتصادي، في ظل سعي إسبانيا للحفاظ على مركزها كأول شريك تجاري للمغرب، وسعي الأخير لتطوير تبادلاته التجارية مع إسبانيا والرفع من صادراته نحو دول أوروبا انطلاقا من الجارة الشمالية.
وبحسب إحصائيات رسمية، تطورت واردات المغرب من إسبانيا بين سنوات 2013 و2017 من 4.8 مليارات أورو إلى 6.85 مليارات أورو (16.9 % من جملة واردات المغرب من الاتحاد الاوروبي)، فيما قفزت صادرات المغرب إلى إسبانيا في تلك الفترة من 3.27 مليارات أورو إلى 5.46 مليارات أورو، إذ تمثل حصتها ضمن تلك الموجهة للاتحاد الأوروبي 23.7%.
هذا التأجيل المتكرر للزيارة، من دون تقديم أسباب واضحة، يعتبر وفق عديد المراقبين دليلا قويا على وجود توتّر غير معلن في العلاقات الدبلوماسية والسياسية بين البلدين
يتوقع أن تتطور التبادلات التجارية بين البلدين من حوالي 12 مليار أورو حاليا إلى 24 مليار أورو في 2025، وفق الاتحاد العام لمقاولات المغرب، وتخضع هذه المبادلات، لاتفاق الشراكة المبرم بين المغرب والاتحاد الأوروبي في مارس/ آذار عام 2000.
ويعتبر المغرب ثاني شريك تجاري لإسبانيا خارج الاتحاد الأوروبي، فيما تعتبر إسبانيا الشريك التجاري الأول للمملكة. وتصدر أكثر من 20 ألف شركة إسبانية منتجاتها نحو المغرب، بينما تتمركز أكثر من 800 شركة بالمملكة وأكثر من 600 شركة لديها أسهم في شركات مسجلة في المغرب.
علاقات سياسية متوترة
هذا التعاون الاقتصادي الكبير بين البلدين، قابله فتور في العلاقات السياسية بين الطرفين خاصة في السنوات الأخيرة، إذ لم ترتقي العلاقات السياسية بينهما إلى مستوى العلاقات الاقتصادية التي تجمع الطرفين منذ عدة سنوات.
وتأجلت الزيارة الحالية التي يؤديها ملك إسبانيا فيليبي السادس وعقيلته الملكة ليتيثيا إلى المغرب أكثر من مرّة من دون إظهار الأسباب الحقيقية وراء ذلك، حيث كانت مبرمجة في خريف سنة 2017، ثم تأجلت إلى شهر يناير/ كانون الثاني 2018، ثم تأجلت إلى مارس/آذار ، ثم إلى2018 يناير 2019، ففبراير/شباط من نفس السنة. وهذه الزيارة للملك فيليبي السادس هي الثانية له بعد تلك التي قام بها في تموز/يوليو 2014 بعيد تتويجه الذي أعقب تنازل والده خوان كارلوس.
توقيع عديد الاتفاقيات التجارية بين البلدين
هذا التأجيل المتكرر لزيارة ملك إسبانيا إلى المغرب، من دون تقديم أسباب واضحة، يعتبر وفق عديد المراقبين دليلا قويا على وجود توتّر غير معلن في العلاقات الدبلوماسية والسياسية بين البلدين. وزاد عدم تخصيص رئيس الحكومة الإسبانية، بيدرو سانشيز، الجارة الجنوبي لتكون وجهته الخارجية الأولى من هذه الفرضيات.
ولم يلتزم سانشيز بدوره بالتقليد السياسي الذي دأب عليه رؤساء الحكومات الإسبانية بمختلف مشاربها عندما يجعلون أول زيارة خارجية لهم صوب المملكة المغربية، فقد زار العديد من دول العالم طيلة أربعة أشهر ونصف بعد توليه المنصب، من دون أن يضع في أجندته بعد التحرّك صوب المغرب، ما يعكس تغييرا في توجه السياسة الخارجية الإسبانية.
الاقتصاد.. الإسفنجة التي لها أن تمتص الخلافات بين البلدين
تعتبر المصالح الاقتصادية الإسفنجة التي لها أن تمتص الخلافات بين البلدين، اللذين يعيشان أزمات دورية، تكون في أغلب الأحيان صامتة، وفق عديد المراقبين. وتقول الباحثة في العلوم السياسية المغربية شريفة لومير إن “العلاقات المتميزة بين البلدين في جانبها الاقتصادي لن تعطي سوى دفعة ايجابية و انعكاسا متميزا على العلاقات السياسية بين البلدين.”
وتضيف لومير في تصريحها لنون بوست، “الحديث عن اختلاف بين العلاقات المغربية الاسبانية لا يمكن أن يؤثر في المشترك بين البلدين لا من حيث الجانب التاريخي أو الثقافي، خاصة وأن المغرب ينتهج سياسة انفتاحية مع جارته إسبانيا.” وتتابع، “السياسة الخارجية المغربية يحددها ملف أساسي هو ملف الصحراء، لذلك فإنه يعتبر بمثابة الملف الفاصل في تحديد طبيعة العلاقة بين البلدين.”
وترى الباحثة المغربية، أنه “رغم وجود العديد من الملفات التي هي محطة اختلاف، و أبرزها ملف احتلال المدينتين المغربيتين سبتة و مليلية، فإن العلاقات بين البلدين لا يمكن لها إلا أن تتطور فالذي يجمع بينهما أكثر مما يفرق.”
من جهته، يرى الخبير السياسي المغربي رشيد لزرق، أن المطلوب من البلدين “رفع وتيرة التنمية وتحقيق تقدم اقتصادي كبير يحقق لهما قدرا من توازن القوى على المدى البعيد،، نظرا لحجم العلاقات التي تجمعهما منذ سنوات عدّة، و التخفيف من التجاذبات بين الدولتين لكون أي تصادم سيكون مكلفا للدولتين سياسيا و اقتصاديا وأمنيا.”
يفرض ملف الهجرة نفسه كأحد أبرز أسباب تواصل هذه العلاقات
يقول الخبير السياسي المغربي في تصريح لنون بوست، “العلاقات المغربية الإسبانية هي حتمية بحكم عامل الجوار، لهذا فإن هذه العلاقات تحكمها قواعد استثنائية، فالتحولات الكبيرة التي يعرفها المجال المتوسطي تفرض التشاور الدائم لحماية المصالح القومية للدولتين معا.”
ويضيف، “هذه التحولات تفرض أيضا تجاوز التضارب التي تشهد العلاقات بين البلدين في عديد المرات، بالنظر لحجم القضايا و تشابكها و تعقد الملفات الاقتصادية و السياسية، كملف الصيد البحري، والصادرات الفلاحية، وملف الهجرة، و تلقبات السياسية التي تعرفها مدريد جراء التداول حول السلطة.”
رغم العديد من التقلبات، يرى رشيد لزرق، أن “العلاقات بين الطرفين لم تشهد قطيعة لكون قوة الأشياء تحتم على الرباط و مدريد تدبير العلاقات للتواصل الدائم، وتدبير التقلبات بين الدولتين الجارين، بحكم القرب الجغرافي بين الدولتين، واحتضان إسبانيا نسبة كبيرة من اليد العامل المغربية.
ويفرض ملف الهجرة نفسه كأحد أبرز أسباب تواصل هذه العلاقات، ويقول لزرق في هذا الشأن ” يكتسي موضوع الهجرة بالنسبة للمغرب أهمية اقتصادية و اجتماعية قصوى نظرا لأن تحويلات العمال المهاجرين تعد المصدر الأساسي للعملة الصعبة، كما أنها تخفف الضغط على سوق العمل المغربي الغير قادر على استيعاب كل طالبي العمل، كما يعتبر هذا الملف مهم بالنسبة لإسبانيا كون المغرب يمثل ممرا و منطقة عبور للمهاجرين الأفارقة لمعانقة نحو أوربا.”
علاقات قوية لا تتأثر بالاختلافات الظرفية
يرى رئيس المركز الأطلسي للدراسات الإستراتيجية والأمنية عبد الرحيم منار اسليمي، أن العلاقات بين البلدين قوية وليس من السهل تراجعها، ويقول في هذا الشأن “توجد وثيقة مركزية محددة للعلاقات المغربية الإسبانية تسمى بالوثيقة الإستراتيجية المتعددة الأبعاد التي تجعل هذه العلاقات الثنائية غير قابلة للتأثر بتغير الحكومات.”
ويضيف في تصريح لنون بوست، ” تعد هذه العلاقات نموذجية قادرة على احتواء كل الخلافات الظرفية والعابرة التي تظهر أحيانا، يضاف إلى ذلك عوامل متعددة تفسر البعد الاستراتيجي العميق لهذه العلاقات ،منها عامل الموروث التاريخي المشترك بين المغرب وإسبانيا، هذا الموروث الذي أسس لذاكرة في العلاقة الثنائية وأنتج ثقافة فيها العديد من العناصر المشتركة على ضفة المتوسط.”
وذكر اسليمي أيضا العامل الجيواستراتيجي، وقال إن هذا العامل” دفع من خلال المحدد الجغرافي الدولتان إلى الحفاظ على تنسيق إقليمي في منطقة المتوسط لدرجة أن كلاهما يعمل للحفاظ على الاستقرار واحتواء كل الأزمات عن طريق حوار ثنائي.”
يعتبر ملف الهجرة أحد محددات العلاقة بين الطرفين
أكّد الخبير المغربي أنه، “خلال السنوات الأخيرة أصبح العامل الأمني محددا كبيرا في التعاون بين الدولتين نتيجة وجود مخاطر إرهاب تتهدد الدولتين، وقد شاهدنا خلال السنوات الماضية تفكيكا لعدد كبير من الخلايا الإرهابية عن طريق تبادل المعلومات ووصولا إلى التدخل المشترك في نفس التوقيت لصد الخطر ،الشيء الذي يعبر عن التعاون الكبير بين الدولتين.”
ومن العوامل التي تحفظ العلاقات بين البلدين، حسب منار اسليمي ملف الصحراء، ويقول في هذا الشأن” انتقلت إسبانيا مع السنوات إلى داعم كبير للمغرب في ملف الصحراء وقدمت للمغرب العديد من الإشارات الإيجابية في هذا الملف، حيث أن إسبانيا لم تخضع لضغوطات الجزائر والبوليساريو، ولعبت دورا ايجابيا كبيرا في الأزمات الأخيرة مع الاتحاد الأوروبي والتي انتهت بالمصادقة على اتفاقيات عديدة منها اتفاقية الصيد البحري التي تهم إسبانيا بالدرجة الأولى.”
المحلل السياسي المغربي عمر مروك، “العلاقات المغربية الإسبانية متينة و إستراتيجية على عدة مستويات، ووجود بعض القضايا الخلافية لا يرقى بالضرورة لدرجة التوتر ، لكون مصالح البلدين متشابكة يتداخل فيها الاقتصادي و السياسي و الأمني.”
وخلص رئيس المركز الأطلسي للدراسات الإستراتيجية والأمنية عبد الرحيم منار اسليمي بالقول، “تبدو هذه العلاقات المغربية الإسبانية نموذجية بين دولة أوروبية ودولة من الجنوب ومن المتوقع أن يزداد هذا التعاون بين البلدين أمام التحولات التي تعيشها أوروبا خاصة بعد الخروج النهائي لبريطانيا من الاتحاد، فالإسبان يفكرون في هذه المسألة ويعرفون جيدا أن بريطانيا ستدخل معهم المنافسة في تقديم عروض تعاون مع المغرب.”
بدوره يقول المحلل السياسي المغربي عمر مروك، “العلاقات المغربية الإسبانية متينة و إستراتيجية على عدة مستويات، ووجود بعض القضايا الخلافية لا يرقى بالضرورة لدرجة التوتر ، لكون مصالح البلدين متشابكة يتداخل فيها الاقتصادي و السياسي و الأمني.”
ويؤكّد المحلّل المغربي أن، “نقاط الخلاف بين البلدين تبقى اقتصادية محضة بغلاف سياسي أحيانا، لكن حجم المصالح المتبادلة هو المسيطر، فالإرادة السياسية للبلدين تعي حجم الشراكة الإستراتيجية بينهما خاصة في ملفات الهجرة السرية، والقاصرين المغاربة باسبانيا والتنسيق الأمني لمحاربة الإرهاب.”
ويضيف، “الشراكة الإستراتيجية المتينة التي تربط البلدين، قربتها لغة المصالح المتبادلة و بعد الرؤية الإستراتيجية في إطار تنويع الشركاء، و هو موقف يُحسب لملك المغرب الذي يقيم أهمية الشراكة و التعاون عوض التركيز على النقط الخلافية و الرؤية الأحادية القاصرة للأمور و التي انتهجها أعداء التكتل الإقليمي لاتحاد المغرب العربي الذين ضيعوا على المنطقة فرصا هائلة للتنمية و التعاون بسبب قصورهم في الفصل بين ما هو سياسي ضيق و ما هو اقتصادي استراتيجي تنموي.”