قبل 6 أعوام تقريبًا، وتحديدًا في عام 2012، أرسلت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “اليونسكو” خطابًا رسميًا إلى وزارة الخارجية المصرية تهددها فيه بأن المنظمة سوف تُخرِج منطقتى القاهرة التاريخية والأقصر من المناطق المسجلة لديها ضمن قائمة مناطق التراث العالمي.
كان المطلوب وقتها -حسب خطاب اليونسكو- أن تتقدم الجهات المسئولة بملف تحدد فيه بشكل واضح آليات وضوابط العمل مع هاتين المنطقتين وكيفية التعامل معهما قانونيًا بعد أن زادت التعديات عليهما، ومعها كررت اليونسكو العام الماضي تحذيرها من تدهور حال القاهرة القديمة.
اليوم تبدو القاهرة في وضع شبيه بوضع مدن أوروبا بعد الحرب. إنها تفقد مبانيها التراثية كل يوم، وبمعدل كبير جدًا، لكن الفرق هنا أن القاهرة لا يتم هدمها بواسطة قصف آلات الحرب، وإنما بأيدي ومعاول المسؤولين.
قصر بشارع دار السعادة بحي الزيتون لم يتبق منه سوى البوابة
القاهرة تفقد تراثها
باتت حقيقة أن خروج القاهرة التاريخية من قائمة التراث العالمى واقعًا أقرب لحدوثه من الخيال في الوقت الحالي، بينما كبار المسئولين يمتنعون حتى عن الرغبة فى الكلام ويفضلون “الصداع الإعلامي” والتصريحات المتضاربة حول الافتتاحات والمشروعات والمستقبل الباهر الذي ينتظر الجميع، ولكن في أرض الواقع لم يلمس المواطن أي تغيير.
رئيس الجهاز القومي للتنسيق الحضاري السابق: ” فقدت مصر 75% من المباني التراثية خلال 3 سنوات فقط (من 2011 إلى 2014)”
ووسط الحديث عن الإنجازات التاريخية، يقر بهذه الحقيقة الخطيرة أيضًا عدد كبير من باحثي قطاع الآثار، ومنهم مدير عام بمناطق آثار جنوب القاهرة الدكتور عماد عثمان، الذي قال إن القاهرة التاريخية أصبحت على القائمة الحمراء لمنظمة اليونسكو، ما يعني أنها أصبحت مهددة بالخروج من قائمة المواقع التراثية، حيث يتآكل نسيج المدينة بالإهمال والسرقة والتخزين، وتتفاقم المشكلة وتتبدى الأزمة للعيان بنزع العناصر المعمارية والأثرية من سياقها الموجودة فيه.
والسبب راجع إلى تفريغ الآثار من مضمونها، حيث عمدت وزارة الآثار منذ 9 أشهر إلى نقل 55 منبرًا أثريًا وعدد آخر من المقتنيات من مساجدها إلى مخازن متحف الحضارة تمهيدًا لعرضها –كما تقول الوزارة- لحمايتها من السرقة، ومن المتوقع أن يمتد ذلك إلى 128 مسجدًا آخر في محيط القاهرة التاريخية، التي سيطالها التفريغ من مضمونها الأثري، وبحسب المعارضين للقرار، فإن هذه الخطوة من شأنها أن تعرض آثار القاهرة التاريخية بأكملها للخطر والخروج من قائمة التراث العالمى.
وفقًا لآخر إحصائية حكومية، يبلغ عدد المباني التراثية في مصر نحو 6500 مبنى في العديد من محافظات مصر مثل القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية، وبورسعيد، والمنيا وأسيوط وغيرها، وتنقسم لمبانٍ ذات طراز معماري فريد، أو تابعة لحقبة تاريخية معينة، أو كانت مسكنًا خاصًا لإحدى الشخصيات المهمة والتاريخية أيضًا.
ورشة سلامون هنهايات أشهر ساعاتي في مصر تنتظر الهدم
ووفقًا لتصريحات رئيس الجهاز القومي للتنسيق الحضاري السابق ورئيس مركز “ارتقاء” المعنى بالثقافة والتراث والتنسيق الحضاري، فقدت مصر 75% من المباني التراثية خلال 3 سنوات فقط (من 2011 إلى 2014)، وبحسب ما رصده الخبراء في ندوة عقدتها صحيفة الأهرام” الحكومية حت تعنوان “من ينقذ القاهرة التاريخية؟”، تم الاعتداء بالهدم والتشويه والسرقة على نحو 44 أثرًا مسجلاً، وتم تسجيل عشرات المخالفات فى مبانٍ شوهت وجه المدينة وانتهكت كل قواعد البناء بها، وبين 3 جهات: وزارة الآثار وجهاز التنسيق الحضارى ووزارة الإسكان ومحلياتها، تتفرق دماء التاريخ وعلاماته.
وتخضع القاهرة التاريخية لعدة قوانين وقرارات متشابكة لا يوجد أدنى تناسق بينها، بين “قانون حماية الآثار” الذي يحمل رقم 113 لسنة 1983، وقانون للتنسيق الحضارى يحمل رقم 114 لسنة 2006، الذي تضمن مفهومًا جديدًا للمباني التراثية، وأخيرًا قانون ثالث جاء ليكون هو الأكثر فاعلية، وهو القانون 119 لسنة 2008 أو قانون البناء الموحد.
وبين القوانين الثلاثة تتوه المسئولية وتسقط وسط تفاصيلها بيوت وقصور وحوانيت كانت يومًا جزءًا من تراث الحضارة الذى لا يعوض، بل إن مادة صادمة قفزت من “قانون البناء الموحد”، والذى يتعامل مع المبانى كلها بنفس المنطق والمعيار؛ لتجعل تسجيل المبانى المميزة مشروطًا بكونها فى حالة جيدة وغير آيلة للسقوط، وهى المادة التى وضعت عشرات البيوت الأثرية المهمة تحت مقصلة الهدم والإزالة، كما حدث في الكثر من الحالات التي سوف نستعرضها لاحقًا.
الهدم يلتهم تاريخ القاهرة بيد الدولة
يتم تعريف المباني التراثية على أنها “المناطق التاريخية المتميزة عمرانيًا ومعماريًا في العصور القديمة المختلفة، أو تلك التي نشأت خلال القرن الـ19 وبداية القرن الـ20، وفقًا للوائح المنظمة للمبانى التراثية في مصر، ويعتبر القانون أن المناطق ذات القيمة التراثية، وما يحيط بها من مبانٍ وميادين وحدائق وشوارع، مجموعة لا تتجزأ من التراث العمراني جنبًا إلى جنب مع التراث المعماري.
في العاصمة المصرية القاهرة، تخطف المباني المصرية التراثية العتيقة الأنظار بجمالها المعماري الفريد، وبموقعها في الميادين القديمة وشوارع المدن الفسيحة وحارتها الضيقة أيضًا، ورغم أن أعمارها تتفاوت زمنيًا، فإنها تتقاطع وتتجاور في الأصالة والتراث الإنساني، لكن في الآونة الأخيرة أصبح المصريون يستيقظون كل يوم على كابوس هدم مبنى تراثي، وإزالته للأبد من سجل التراث المصري.
المتجول في شوارع القاهرة اليوم قد يذهل من كم التغيير الذي شهدته في السنوات القليلة الماضية، حتى يكاد لا يوجد فيها شارع واحد لم يهدم فيه مبنى قديم أو أكثر، وهناك شوارع هُدمت بالكامل
في محافظة القاهرة يوجد 1163 مبنى تراثيًا تتركز أغلبها في حي غرب ووسط القاهرة، وقد تعرضت العديد من المباني في السنوات الأخيرة للهدم، حيث تم هدم العديد من الفلل والقصور التاريخية والمباني التراثية سواء التاريخية أو التي تخص شخصيات تاريخية، أو ذات طابع معماري وعمراني فريد.
المتجول في شوارع القاهرة اليوم قد يذهل من كم التغيير الذي شهدته في السنوات القليلة الماضية، حتى يكاد لا يوجد فيها شارع واحد لم يهدم فيه مبنى قديم أو أكثر، وهناك شوارع هُدمت بالكامل، وكل هذا لصالح بناء أبراج “بالغة القبح”، أو أبراج “سكني إداري تجاري” كما يسمونها، حتى المباني المسجلة في قوائم التنسيق الحضاري يتم التحايل لتخريبها ثم هدمها، أو هدمها ودفع الغرامة لاحقًا، أو التدخل بالوساطات المختلفة لدى أولي الأمر لإخراج المبنى من مجلدات التراث، والنماذج أكثر بكثير من أن تعدّ أو تحصى.
جرى هذا في الكثير من الحالات في النوات الأخيرة، ففي مطلع ديسمبر/كانون الأول 2014، تم هدم “بيت المهندس” التاريخى بشارع سوق السلاح الذي يمتلئ بالعشرات من المبانى الأثرية بمنطقة الدرب الأحمر، وكان الهدم بجرافات وسواعد رجال حى وسط القاهرة وتحت إشراف رئيس الحى شخصيًا، والذى أُحيل بعدها بثلاثة أيام للنيابة بعد أن الكشف عن تقديمه رخصة الإزالة مقابل رشوة. اكتشف المسئولون أن “بيت المهندس” هو جزء أصيل من تراث القاهرة القديمة، وأن البيت الذى يزيد عمره على 150 عامًا (يرجع تاريخ بنائه لعصر المماليك) كان يستحق أن يبقى لأنه جزء من تراث عالمى يجب الحفاظ عليه باعتراف منظمة اليونسكو.
مذكرة مقدمة لوزير الآثار بشأن بيت مذكور باشا الذي تم هدمه
لم يتوقف الأمر عند هدم بيت عائلة الفنان فؤاد المهندس، بل اُرتكبت جريمة هدم مبانٍ أثرية دون اعتبار للقيمة التاريخية والمادية والفنية التي تمثلها، فالمنزل رقم ٦٨ في المنطقة ذاتها تم هدمه رغم ضمه للعمائر الجنائزية أو الجبانات الإسلامية؛ وذلك لأنه يحتوى على ثلاثة أضرحة للشيوخ “الخريبى والخواص والمغربي”، وهو يتبع وزارة الأوقاف.
في المنطقة ذاتها، وبعد سنوات، وتحديدً في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2018، نالت معاول الهدم “الرسمية” من البيت رقم ١٣، وهو “بيت مدكور باشا” الأثرى، رغم تسجيله على قوائم الطراز المعمارى المتميز عام 2010، وتبعيته لجهاز التنسيق الحضارى، وذلك بعد 4 أعوام من وقف حملة سابقة لهدم العقار الذي يصل إلى عمره 600 سنة.
وفي يناير/كانون الثاني 2017، وعلى على مرأى ومسمع محافظة القاهرة، أقدم أحد الأشخاص على هدم عقارا أثريًا (العقار رقم 32) بالشارع الرئيسي بحي السبتية، يرجع تاريخ بنائه لعام 1891، وذلك بالتنسيق مع أحد موظفي الحي، رغم رفض الدولة المشاركة الرسمية في الهدم أو إعطاء تصاريح الإزالة، حيث يعد المنزل أثريًا.
إزالة مجموعة من المباني الخديوية بمنطقة مثلث ماسبيرو الواقعة على ضفاف نهر النيل
ليست هذه القاهرة التي نعرفها
الدرب الأحمر، سوق السلاح، باب زويلة، المغربلين، المعز، والقلعة، وغيرها الكثير من معالم التراث المصري. بات كل هذا الجمال معرَّض للزوال طالما لا يوجد من يحافظ عليه أو يهتم به، وطالما وُجدت البيروقراطية التي تعرَّي القاهرة من أبهى ثيابها التراثية وتلقى بأموال الدولة في رمال الصحراء في مشاريع قيد الإنشاء.
ومع عدم وجود الرقابة من قِبَل وزارة الآثار على المناطق التاريخية، ووجود سكان يقطنون داخل هذه المنازل أدَّى لحدوث إهمال كبير داخل المباني، تمكَّنت وزارة الآثار من افتعال حجة عدم ضمها الكثير من المباني للسجلات الرسمية للوزارة، وهذا ما دعا الكثيرين لهدم المبانى التاريخية والأثرية بدعوي انهيارها، وبيع الأرض للحصول على المكسب المادي، أو بعمائر إسمنتية لا تحمل طرازًا معماريًا ولا شكلاً في البناء، فالعشوائية أضحت سلوكًا عامًا تخضع له كل المؤسسات الرسمية.
باتت القاهرة التاريخية وبكل معايير الخوف والقلق تحت تهديد أن تضيع بكل تاريخها ونسيجها المعمارى كمدينة تنبض بالتاريخ والبشر
أقرب مثال على ذلك، أصابت لعنة الهدم فيلا كوكب الشرق أم كلثوم التى بنيت فى عام 1938، وأُقيم بدلاُ منها عمارة سكنية مازالت موجودة إلى الآن، وذلك بدلاً من تنازل الورثة عنها للدولة مقابل ثمن غير باهظ، كما جرى بداية العام الماضي هدم أكبر وأقدم فنادق القاهرة، وهو فندق “جراند كونتيننتال”، أحد المباني الخديوية بحى عابدين، والذي شهد توافد ملوك وملكات أوروبا خلال افتتاح قناة السويس عام 1866، في حين كانت تقارير هندسية توصي بترميمه فقط وليس هدمه.
بالإضافة إلى هذه الحالات الفردية، جرى هدم مناطق بأكملها تحمل من التراث ما لا يقل عن مئات السنين، فمع مسلسل الهدم والتشويه، الذي يتعرض له التراث المعماري في مصر، شرعت الحكومة في مخطط لهدم التراث المعماري والتاريخي المصري، بداية من إزالة مجموعة من المباني الخديوية التي تمتزج الزخارف العربية والأوروبية ضمن مخطط استثماري أعلنته الحكومة بمنطقة مثلث ماسبيرو الواقعة على ضفاف نهر النيل، والتي تحوى الكثير من مباني التراث، وهي منطقة من أغلى المناطق في منطقة الشرق الأوسط، ويؤكد أهالي ماسبيرو أن منطقتهم تزخر بالآثار المصرية القديمة.
السيسي يتفقد الأعمال الإنشائية بالعاصمة الإدارية الجديدة
يبدو مثلث ماسبيرو الآن كمدن أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية؛ سخام فوق ركام. ما أشبه المكان بوارسو بعد الاجتياح السوفيتي، أو برلين بعد دخول الحلفاء. هكذا صار الحي القديم بعد اجتياح جحافل الجرافات، ويمتد التفكير الآن إلى هدم منطقة بولاق أبو العلا التاريخية المقابلة للمثلث، وهناك العديد من المناطق القديمة الأخرى في خطة “التطوير”. يبدو أن القاهرة كلها يجب أن تختفي.
وفي آخر حلقات هدم المواقع الأثرية، كما جاء في تقرير سابق لـ”نون بوست”، عمدت السلطات المصرية إلى هدم “وكالة العنبريين” بشارع المعز لدين الله الفاطمي في وسط العاصمة القاهرة، وهي آخر وكالة بالقاهرة الفاطمية، ويرجع تاريخها إلى عام ١٢٧٣، رغم أن المواصفات الخاصة بالمباني الأثرية متوافرة بالمكان، وهو ما أثار القلق حيال استراتيجية التعامل مع المواقع الأثرية في مصر، وتزايدت مخاوف البعض من استمرار سلسلة هدم المواقع الأثرية أيا كانت الحجج.
لقد باتت القاهرة التاريخية وبكل معايير الخوف والقلق تحت تهديد أن تضيع بكل تاريخها ونسيجها المعمارى كمدينة تنبض بالتاريخ والبشر، وربما تستيقظ يومًا لتجدها وقد اكتفت بقائمة التسجيل الأثرى التى يعرف الجميع أنها تأبى أن تضم كل ما يستحق الحماية؛ لأن وزارة الآثار لا تملك -كما يقول المسئولون- رفاهية حماية المزيد من الآثار وترميمها بعد أن باتت ميزانية الوزارة لا تكفى حتى لتغطية الجيش الجرار من الموظفين.