“مجنونة يا قوطة” مقولة مصرية ظهرت في ثمانينات القرن الماضي تعبيراً عن السعر الباهظ للطماطم. وأبقت المقولة على وجودها لتصبح بمثابة التراث الذي يتناقله المصريون حينما ترتفع أسعار الطماطم وغيرها من المواد الاستهلاكية الأساسية، ووصل الحال بهذا التراث ليتحوّل إلى أغانٍ بألحانٍ شعبيةٍ تعكس سوء الحال عند ارتفاع الأسعار.
وتتشارك عدد من دول المنطقة، لا سيّما تركيا، ذات الحال مع مصر، حيث أن عدد سكان البلدين متقارب، والبلدان يضطران لاستيراد عدداً من المواد الاستهلاكية الأساسية. وقد وصل تشابه الحال بين الطرفين إلى إطلاق عدد من المواطنين الأتراك مقولة “مجنون يا بصل، مجنونة يا بطاطس”. لكن يختلف الحال اليوم بين مصر وتركيا في اتجاه الأخيرة نحو تطبيق الاقتصاد المُجتمعي، بينما تتجه مصر، بدفعٍ من صندوق النقد الدولي، نحو تطبيق الاقتصاد “النيوليبرالي” الرافع للدعم عن المواد الأساسية، والمُركّز على مؤشرات الاقتصاد الحكومي “الماكرو” واقتصاد مضاعفة سيولة أصحاب رؤوس الأموال بمعزلٍ عن الاهتمام بمؤشرات الاقتصاد الفردي “الميكرو”.
اقتصاد السوق المُجتمعي
اقتصاد السوق المُجتمي أو الاجتماعي أبصر النور بعد الحرب العالمية الثانية، بهدف التوفيق بين الفعالية الاقتصادية التي توفرها المنافسة وبين الحاجة إلى العدالة الاجتماعية. ويعني تدخل الحكومة في الاقتصاد لإطلاق حرية المنافسة، ومراقبة تطوّر الاحتكارات ومنعها، وخلق حالة من تكافؤ الفرص بين الهيئات والفعالية الاقتصادية عر استمرار دور الدولة في مراقبة آليات السوق والتدخل عندما يعجز الاقتصاد الحر عن تأدية مهمته بما في ذلك تسوية المُشكلات الاجتماعية وتحقيق مكاسب مادية لطبقة الأجور المتدنية. وأحياناً يُطلق على هذا النظام مُسمى “الليبرالية المُنظمة” أو “الرأسمالية المُخففة”، حيث يُشكل طريق ثالث بين الرأسمالية والاشتراكية.
حققت تركيا، في السنوات الأخيرة، اكتفاءً ذاتياً بنسبة 106% من الخضروات
وتطبيقاً لهذا المفهوم، وسعياً لمحاربة الاحتكار، أطلقت الحكومة التركية الأسبوع الماضي حملة مبيعات للخضار والفواكه أطلقت عليها “حملة التنظيم”. حملة رمت الحكومة، من خلالها، إلى التدخل في السوق ومحاربة الآثار السيئة للاحتكار وتكديس البضائع. تلك الآثار التي تكمّن في رفع أسعار الخضروات على المُستهلك، حيث وصل سعر كيلو البطاطس إلى 1.2 دولار، وسعر كيلو الطماطم إلى 1 دولار. ولكن بقطع الحكومة التركية الطريق على المُحتكرين، وبتعاونها مع البلديات في جميع المدن التركية لإيصال الخضروات الطازجة من المُنتج إلى المُستهلك مباشرة بدون وسيط انخفضت الأسعار إلى النصف. وترمي الحكومة إلى تطبيق هذه الخطة لمدة عامين ونصف، بهدف إغراق السوق بالمواد الاستهلاكية، وبالتالي دفع المُنتجين والتجار للاكتفاء بقسطٍ بسيط من الربح.
وفي نهاية المطاف، يتساءل كثيرون لماذا تضطر الحكومة التركية للتدخل على هذا النحو؟
الإجابة على هذا التساؤل بسيطة، حيث تكمّن في جدول المواد الأساسية التي تستوردها تركيا، وتضطر الحكومة التركية لاتخاذ إجراءات وقائية لحماية المُستهلك.
المواد الأساسية المُكتفية بها تركيا ذاتياً
وإلى جانب هذه المواد الزراعية، تُحقق تركيا اكتفاءً ذاتياً في القمح والشعير والذرة وعباد الشمس، الجزر والبقدونس والفجل والقرنبيط والملفوف.
بشكلٍ عام فيما يتعلق بالخضروات، حققت تركيا، في السنوات الأخيرة، اكتفاءً ذاتياً بنسبة 106% من الخضروات. وكشفت الإحصاءات تحقيق تركيا اكتفاءها الذاتي في الجزر بنسبة 115%، وفي البصل 102%، وفي الطماطم بنسبة 110%، وفي الفصولياء بنسبة 100.3%، وفي الكوسا بنسبة 105%، وفي الخيار بنسبة 106%، وفي البزلاء بنسبة 102%، وهكذا. وما دون هذه السلع المذكورة تستوردها تركيا من الخارج.
ومن ناحية الحبوب، تُحقق تركيا اكتفاءً ذاتياً بلغت نسبته 110.2%، وكان القمح المحصول صاحب النسبة الأكبر من حيث الاكتفاء الذاتي، حيث حققت تركيا فيه اكتفاءً ذاتياً بنسبة 113.6%. وفي الفواكه لم تُحرز تركيا اكتفاءً ذاتياً كاملاً، حيث تضطر لاستيراد بعضها من الخارج، لكن الإحصاءات أظهرت اكتفاءها الذاتي في البندق بنسبة 587.8%، وفي الكستنة بنسبة 111.9%، وفي الماندلينا بنسبة 194.9%، وفي البرتقال بنسبة 129.9%، وفي المشمش بنسبة 603%، وفي الرومان بنسبة 164%، وفي العنب بنسبة 141% وفي التفاح بنسبة 123%، وفي الكرز بنسبة 100%، وفي الفراولة بنسبة 100%، وفي الخوخ بنسبة 100%.
“حملة التنظيم” ما بين الانتقاد والدعم
بالنظر إلى الإحصاءات أعلاه، يُلاحظ أن تركيا دولة جيدة جداً في المجال الزراعي، وهو ما يدفع للتساؤل بشكلٍ أكبر؛ لماذا الأسعار المُرتفعة؟
ترتبط تركيا بمعادلات دولية فيما يتعلق بسعر موارد الطاقة، وبالتزامات مالية فيما يتعلق بعملية تحصيل الضرائب، والتزامات قانونية مع الشركات الخاصة المُشغلة للجسور والطرق، جعلتها غير قادرة على اتخاذ إجراءات شاملة
قابل عدد كبير من المواطنين “حملة التنظيم” بحالة من الرضا، مُستبشرين خيراً بقدرة الحكومة على مواصلة هذا الدرب لعامين ونصف قادمين، بينما اعتبرها الطرف الآخر، لا سيّما المُزارع والوسيط والبائع، حلاً “عقيماً” لا يوفر حلاً جذرياً، مُشيرين إلى أن “الحل يكمّن بالإجراءات الشاملة، وليست الجزئية التي تُضر بشريحة من المواطنين”. فما هو القصد بهذه الإجراءات:
ـ دعم مُنتجات الطاقة: تحتاج تركيا سنوياً لـ 28 مليون طن سنوياً لسد حاجتها من النفط، ولا تستطيع تغطية سوى 14% من إنتاجها المحلي. كما تستهلك سنوياً ما يقارب 40 مليار متر مكعب تستورد 98% منهم من الخارج. وأمام هذه المعادلة تضطر تركيا لدفع مبالغ طائلة من دخلها لصالح استيراد موارد الطاقة التي تأتي بأسعارٍ دوليةٍ تجعل من كلفتها باهظة على المُنتج الزراعي والصناعي الذي يستخدم كميات هائلة من موارد الطاقة في عملية الإنتاج. كما يجعل تكلفة نقل المواد الاستهلاكية الأساسية بين المدن التركية مُكلفة، ما يرفع أسعار السلع الزراعية بالرغم من وفرتها.
ـ تخفيض الضرائب: تفرض الحكومة التركية ضرائب على الواردات من الطاقة، وعلى شاحنات نقل المواد الأساسية بين المدن، وعلى الحيز الذي تمنحه للبائع، فضلاً عن ضريبة الدخل التي تشمل جميع الشركات الفاعلة في عملية زراعة ونقل وبيع المواد الاستهلاكية الأساسية.
ـ تخفيض الرسوم: الرسوم هي الرسوم الجمركية ورسوم استخدام الطرق والجسور التي لا تستطيع الحكومة التركية التدخل بقيمة عدد كبير منها، كونها تتبع لشركات خاصة تستثمر فيها من خلال صيغة إنشاء ـ تشغيل ـ نقل الملكية الذي يأتي بعد 15 إلى 20 عاماً.
في الختام، ترتبط تركيا بمعادلات دولية فيما يتعلق بسعر موارد الطاقة، وبالتزامات مالية فيما يتعلق بعملية تحصيل الضرائب، والتزامات قانونية مع الشركات الخاصة المُشغلة للجسور والطرق، جعلتها غير قادرة على اتخاذ إجراءات شاملة، ولكن إجراءات جزئية قد تضطر المُحتكر للإسراع بعرض السلع، وتضطر المُنتج والوسيط والبائع للاكتفاء بالأقل الأدني من الربح. وهذا ما قد تنعكس نتائجها بعد بضعة شهور. وبذلك ترجمت الحكومة التركية دور الاقتصاد المُجتمعي بصورةٍ عملية في الحفاظ على أسعار المواد الاستهلاكية الأخرى