بين محرم ومحلل، وقع الكثير من الغموض والالتباس بين الموسيقى بالدين، فلطالما كانت هذه العلاقة محط جدل وتصادم متكرر بين رجال الدين، ما خلق صورة مشوهة عن الدين ونظرته إلى الفن بشكل عام، ولذلك يعتبر البعض الموسيقى شر شيطاني مطلق، في الجهة المقابلة، حطم آخرون هذه الصورة وأدخلوا ثقافتها إلى معابدهم وطقوسهم الدينية، وتعاملوا معها كجزء مكمل لشعائرهم ورحلتهم الروحية، وذلك مع وجود بعض الاختلافات والاعتبارات بين كل ديانة وأخرى.
الدين الإسلامي.. البداية من العصر الأموي
يقول الإمام الغزالي، أحد أهم علماء المسلمين في القرن الخامس الهجري، بكتابه “إحياء علوم الدين”، بأن “من لم يطربه العود وأوتاره، فهو فاسد المزاج ليس له علاج”، ففي الوقت الذي بدأت به الخلافة الإسلامية بالتوسع والتمدد في العصر الأموى، باتت الموسيقى بمختلف أصولها الهندية والفارسية والآشورية نوعًا من التبادلات الثقافية التي احتضنها العرب آنذاك، إلا أن التطور الحقيقي كان في العصر العباسي.
في هذا الوقت، لم يكتف العرب بسماع الموسيقى وترديد ألحانها وإنما اجتهدوا في تأليفها ودراستها ووضعوا لها أسس وقواعد ومقامات والموشحات، وإذا تعمقنا أكثر في إسهاماتهم في هذا الحقل، سنجد أنهم أضافوا الوتر الخامس لآلة العود وابتكروا الربابة والقانون والمغنى واشتهروا بصناعة الأرغن، إلى أن أصبحت الموسيقى والغناء في عهدهم نوعًا من الرقي الطبقي التي كان يتمتع بها البلاط الحاكم والفئة النخبوية من المجتمع، ولكن هذا لم يمنع عامة الشعب من الاستمتاع بهذا النوع من الفن أيضًا.
جدير بالذكر أنهم استفادوا من التراث اليوناني وما خلفته الثقافة الإغريقية من نظريات ومؤلفات، بالجانب إلى التفاتهم إلى ما قدمته الشعوب الأخرى كالفرس والهند والروم، وذلك إلى أن أصبحوا من مؤسسي ورواد هذا المجال، فلقد اشتهرت الكثير من الأسماء بهذا المجال ومن بينهم أعلام إسلامية مهمة مثل الفارابي وابن سينا والشيرازي والكندي وزرياب الذي كان أول من أسس معهدًا للموسيقى وتناوب على زيارته والدراسة فيه ابنة أخت ملك إنجلترا الثالث، دوبانت. ويضاف إلى ذلك، أسماء بعض الشخصيات النسائية التي نالت مجدها في هذا الجانب، مثل “عريب” التي كانت عازفة عود و”شارية” مغنية البلاط الحاكم وتلميذة إبراهيم من المهدي.
ترى الصوفية أن الموسيقى وسيلة لتدريب النفس على الكمال الروحاني والتناغم مع الذات ومن خلالها يمكن لروح المتصوف أن تصل إلى الأصل السماوي
على الرغم من كثرة الشخصيات البارزة التي اعتنت بالموسيقى إلا أن محمد أبي نصر الفارابي من أشهرها، فلقد ترك الكثير من المؤلفات مثل كتاب الموسيقى الكبير وكتاب في إحصاء الإيقاع ورسالة في قوانين صناعة الشعراء وكلام في النقلة وكلام في الموسيقى، وهي إنتاجات تم ترجمتها إلى لغات عدة ولا سيما أن الفارابي أذهل علماء الدول الأجنبية بنظرياته الفلسفية وتصوراته عن أثر الموسيقى وألحانها على النفس وانفعالاتها.
ومع ذلك بقيت الموسيقى بعيدةً عن الشعائر والعبادات الإسلامية، ولم تظهر بشكل واضح سوى في عهد الدولة العثمانية، حين ظهرت الحركات الصوفية التي دمجت الموسيقى بطقوسها الدينية وأسمتها بـ”الفن الإلهي” أو “الفن السماوي”، إذ ترى الصوفية أن الموسيقى وسيلة لتدريب النفس على الكمال الروحاني والتناغم مع الذات ومن خلالها يمكن لروح المتصوف أن تصل إلى الأصل السماوي على اعتبار أنها الطريقة الأمثل لعلاج أمراض النفس والروح.
اتخذت الموسيقى شكلًا جديدًا وتنوعت بين الأناشيد والابتهالات والموشحات التي تغنى في المجالس والمحافل الدينية لذكر الله والتهليل والتسبيح باسمه وصفاته، ومدح النبي، والتي تردد غالبًا في المناسبات الدينية
لم تكن هذه المرة الأولى التي تستخدم فيها الموسيقى لهذا الغرض، ففي كتاب “القانون في الطب” لأبي علي الحسين بن عبدالله بن سينا، ذُكرت الموسيقى كعلاج للعديد من الأمراض النفسية والعقلية، وتكرر ذلك في رسائل إخوان الصفا، والتي أشارت إلى استخراج الأطباء بعض الألحان واستعمالها في المستشفيات لشفاء الأمراض.
بعد ذلك، اتخذت الموسيقى شكلًا جديدًا وتنوعت بين الأناشيد والابتهالات والموشحات التي تغنى في المجالس والمحافل الدينية لذكر الله والتهليل والتسبيح باسمه وصفاته، ومدح النبي، والتي تردد غالبًا في المناسبات الدينية كشهر رمضان والأعياد وغيرها من الاحتفالات الاجتماعية. حيث تنتشر بشكل واسع في مصر وتونس واليمن وسوريا، وهي الدول التي أخرجت فرق وأصوات لا تُنسى مثل الشيخ سيد النقشبندي وطه الفشني وسلامة حجازي.
الدين المسيحي.. إضفاء جمال ومتعة للمواعيظ الدينية
وصف القديس أوغسطينوس الترانيم والتراتيل الموسيقية ذات مرة قائلًا: “صعدت الموسيقى إلى أذني، وتوغلت الحقيقة في قلبي وفاقمت مشاعري من الولاء”، مشيرًا إلى دور الموسيقى في تعزيز تجربته الدينية على الرغم أن استخدام الموسيقى للعبادة لم يكن جزءًا من العبادة والتقاليد المسيحية المبكرة في القرن الرابع، فلقد كان الكهنة ورجال الدين آنذاك حذرين في استخدامها، فقد كان البعض يعتقد أنها تشتت الانتباه عن عبادة الله، بينما رأى القسم الآخر أن استخدام الموسيقى الطريقة الأمثل لجذب الناس إلى الصلاة.
وذلك من الاعتقاد بأن للموسيقى دور في ملء الفجوات الفكرية والمشاعر العاطفية التي لا تستطيع النصوص والكتابات الصامتة أن تصفها بصدق وبالتالي أصبحت الموسيقى طريقة لتعزيز هذه الاحتياجات وذلك عدا عن كونها وسيلة تجعل العبادة أكثر متعة وجمالًا وتأثيرًا في النفس البشرية، وبذلك استطاعت أن توصل رسائلها التوعوية والإرشادية التي تدعو للتوبة والمغفرة والعبادة بكثير من المتعة والخفة والجمال.
ومنذ اقتناع الكنيسة بأهمية الموسيقى، ظهر الغناء “الجريجوري” في القرن السادس زمن البابا جريجوري والذي يعرف بأقدم أنواع الموسيقى في الكنيسة، والتي تكون عبارة عن ترتيل نصوص دينية لألحان بسيطة مع إيقاعات محددة، وعادةً ما تؤديها مجموعة تغني في نفس الوقت وذلك دون الاستعانة بأي آلات موسيقية، وأشهرها “هالولويا” والتي تعني “مدح الرب”.
اتبعت الكنيسة نوع جديد من الموسيقى وهي “الغوسبل” الحديثة، التي ظهرت في الثلاثينيات على يد الأمريكيين الأفارقة، وعادة ما تعتمد على الجوقة وصفق اليدين
وبعد ذلك بـ10 قرون تقريبًا، أدخلت الكنيسة الآلات الموسيقية إلى ساحتها وبدأت باستخدام البيانور والجيتار والأورغان وبالتالي تشكلت لديها فرق موسيقية تعزف وتلحن بالجانب إلى الترتيل مع نصوص الكتاب المقدس، ثم ظهرت موسيقى القداس أو الكورال الديني والتي أصبحت جزء أساسي من الصلاة، وتردد في مناسبة عيد القيامة وعيد الميلاد.
مع العلم، أنها كانت في البداية تغنى باللغة اليونانية إلا أنها تغيرت إلى اللاتينية وهي لغة الكنيسة الكاثوليكية في القرن الثالث وظلت هكذا حتى الستينات، مع استثناء بعض الأجزاء التي ظلت تغنى باليونانية، ومؤخرًا بات الاحتفال بالقداس باللغات المحلية. ثم اتبعت نوع جديد وهي موسيقى “الغوسبل” الحديثة، التي ظهرت في الثلاثينيات على يد الأمريكيين الأفارقة، ومن ثم اكتسبت شهرة كبيرة في الكنائس عامةً وتم تحويلها إلى كورال تحت اسم “هاي روك غوسبل”، وعادة ما يعتمد على الجوقة وصفق اليدين واشتهرت بأنغامها التقليدية التي تمس الروح والمشاعر، كما تم تلوينها بإيقاعات أكثر حداثة عبر استخدام الراب وإيقاع فرقة “بلوز” الشهيرة.
الدين اليهودي.. تنوع بحسب الكنيس
يمتد تاريخ الموسيقى اليهودية الدينية إلى العصور التوراتية بحسب بعض الروايات، حيث شهد الكُنس والمعابد في ذلك الوقت العديد من الطقوس الدينية التي صاحبتها التراتيل الغنائية والألحان الموسيقية المتعددة، لا سيّما في معبد القدس عام 70 للميلاد، حيث كانت تتألف أوركسترا المعبد العادية من اثنتي عشر أداة، وجوقة المغنّنين من اثني عشر مطربًا من الذكور.
وقد استخدم اليهود في ذلك العصر آلات الطبول والصنوج والقرون والأبواق، ولكن بعد تدمير الهيكل، منع الحاخامات استخدام الأدوات أثناء الصلاة حدادًا على سقوط الهيكل وهزيمتهم. ومع بدء تشتتهم وتوزعهم في عدة بلدان، عاد اليهود لاستخدام الموسيقى في صلواتهم التلمودية، الأمر الذي ما يزال معروفًا حتى يومنا هذا.
وتتنوع الموسيقى الدينية عند اليهود وفقًا للكنيس، فهناك كنيس السفارديم الذي يضمّ المغاربة والعراقيين بموسيقاهم ذات الطابع الشرقيّ، وهناك الكنيس الأشكنازي الذي يعتمد في موسيقاه على الألحان الألمانية أوال روسية. عوضًا عن أنّ بعض التجمعات تفضل الموسيقى التقليدية في حين تستخدم بعضها الآخر الألحان الشعبية الحديثة.