تقترب انتفاضة الشباب السوداني من شهرها الثالث بلا توقف، بل تنوعت طرقها وأساليبها من التظاهرات التقليدية إلى أشكال أخرى مثل الوقفات الاحتجاجية التي نظّمها مهنيون من كوادر طبية ومهندسين ومعلمين وموظفي مصارف وإعلاميين وعمال شركات في القطاع الخاص، وانتقلت الانتفاضة وشعاراتها إلى داخل مناسبات الزواج، إذ تحولت العديد من قاعات الأفراح إلى مظاهرات ردد فيها الحاضرون عبارات مثل “تسقط بس” و”حرية سلام وعدالة.. الثورة خيار الشعب”، حتى الذين لم يتمكنوا من الخروج في التظاهرات تضامنوا مع الحراك السلمي بطريقتهم الخاصة مثل الشابة عائشة التي منعها والدها من التظاهر خوفًا عليها فلم تسكت وكتبت منشورات بخطٍ عريض تعلن فيها تضامنها مع المعتقلين والثوار من داخل البيت.
إذًا، لم تؤثر كل محاولات الاحتواء التي اتخذتها حكومة الرئيس عمر البشير منذ اندلاع الانتفاضة في 19 من ديسمبر/كانون الأول الماضي في خفض الحراك، ففي أول رد فعل اتهم رئيس قطاع الإعلام في الحزب الحاكم إبراهيم الصديق، الحزب الشيوعي في مدينة عطبرة “شمال البلاد”، بتنظيم المظاهرات التي كانت مطلبية في لحظاتها الأولى ولكن سرعان ما ارتفع سقفها إلى إسقاط النظام كاملًا وفورًا دون انتظار انتخابات ولا محاولات التفاف من الحكومة.
الخميس اليوم الأصعب لحكومة البشير
أصبح يوم الخميس بالتحديد يشكل هاجسًا كبيرًا للنظام الحاكم في السودان، فغالبًا ما يدعو تجمع المهنيين السودانيين إلى قيام موكب كبير للتظاهر ظهر الخميس يختتم به الجدول الأسبوعي الذي يعلن عنه عبر صفحاته في مواقع التواصل الاجتماعي.
النائب المستقل في البرلمان السوداني خليل محمد الصادق، أثار جدلًا واسعًا خلال اليومين الماضيين عندما كشف لصحيفة الأخبار عن اتجاه نواب في المجلس الوطني للدفع بمشروع قانون جديد ينص على منع الملاحقة الجنائية لرؤساء الجمهورية بعد تخليهم عن السلطة
والملاحظ أن صحفيين مقربين من الحكومة السودانية كالصادق الزريقي والهندي عز الدين والطيب مصطفى تحدثوا أكثر من مرة في كتاباتهم عن انحسار الحراك، وانضمّ إليهم مؤخرًا رئيس البرلمان إبراهيم أحمد عمر، ولكن تظاهرات يوم الخميس بالتحديد كانت ترد على مثل هذه التصريحات التي هي أقرب للأمنيات من الواقع الفعلي، ففي يوم الخميس الماضي خرج المئات من الشباب في مظاهرات بالقرب من القصر الرئاسي دعمًا للمواطنين المتضررين من الحرب في أقاليم دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، بينما تحوّل الحراك إلى داخل الأحياء في ساعات المساء.
وبالتزامن مع مظاهرات العاصمة الخرطوم خرجت 7 مدن أخرى، حيث نقلت صفحة تجمع المهنيين على موقعي فيسبوك وتويتر أن متظاهرين بالفاشر شمال دارفور والأبيض شمال كردفان وود مدني وحنتوب وأربجي بولاية الجزيرة وأمري بشمال السودان شاركوا في فعاليات موكب ضحايا الحروب والنزاعات من أماكنهم.
مقرح حصانة للرئيس بعد التنحي
النائب المستقل في البرلمان السوداني خليل محمد الصادق، أثار جدلًا واسعًا خلال اليومين الماضيين عندما كشف لصحيفة الأخبار عن اتجاه نواب في المجلس الوطني للدفع بمشروع قانون جديد ينص على منع الملاحقة الجنائية لرؤساء الجمهورية بعد تخليهم عن السلطة.
واعتبر كثيرون أن الخطوة التي تقدم بها النائب المستقل تدل على وجود أيادٍ حكومية تريد أن تُهيئ الأرضية المناسبة للرئيس عمر البشير من أجل التنحي، بعد تزايد الضغوط عليه واستمرار المظاهرات والوقفات الاحتجاجية، التي دخلت الأربعاء الماضي أسبوعها التاسع، فيما رأى آخرون أن المقترح يتنافى مع أبسط معايير العدالة وضمان عدم الإفلات من العقاب لمن ارتكبوا جرائم في حق الشعب السوداني.
يمكن أن تشجع خطوة حصانة البشير، الأخير على اتخاذ قرار بمغادرة الحكم
خطوة الصادق جاءت بعد تسريب نقله موقع “ﺃﻓﺮﻳﻜﺎ إﻧﺘﻠيجنس”، الأسبوع الماضي عما قال إنه تقرير سرّي أعدته سفارة خليجية في واشنطن، لم يحدد اسمها، ورد فيه أنه في حال أضعفت المظاهرات الشعبية الرئيس السوداني عمر البشير، “على نحو مهلك”، فإن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “سي آي إيه”، ستعمل على تسريع رحيله، لا سيما أن لديها في بالها “خليفة له يمكن أن يحوّل السودان إلى دولة حليفة”، وهو مدير المخابرات الحاليّ صلاح قوش.
وعلى كلٍّ يمكن أن تشجع خطوة حصانة البشير، الأخير على اتخاذ قرار بمغادرة الحكم، فقد نجحت هذه الطريقة من قبل في إقناع رئيس زيمبابوي السابق روبرت موغابي بالاستقالة والتنحي طواعيةً بعد أن مُنح حصانة من الملاحقة القضائية وضمانات بتوفير الحماية له داخل البلاد إذ حكمها لفترة تزيد على 37 عامًا بينما البشير أمضى قرابة 30 سنة في حكم السودان وما زال يتطلع إلى المزيد.
طرفا الصراع يرفضان مقترح الحكومة الانتقالية وواشنطن ترحب
خلال الأسبوع الماضي، قدّم عدد من الشخصيات السياسية والمستقلة بقيادة رئيس وزراء انتفاضة أبريل/نيسان 1985، الجزولي دفع الله، مبادرة لحل وسط بين طرفي الصراع “الحكومة السودانية وقوى الحرية والتغيير”، وتتضمن المبادرة إعلان حكومة انتقالية تتولى إدارة البلاد بالتوافق بين قيادة الحراك السلمي والأحزاب الكبرى، ترتكز مهامها على إيقاف الحروب وإصلاح الاقتصاد والعلاقات الخارجية، إلى جانب تحمُّل المسؤولية في الكشف عن مرتكبي الانتهاكات الخطيرة، واتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم، والتعهد باستقلال القضاء فضلًا عن التمهيد لانتخابات حرة ونزيهة تكون مقدمةَ لتحول ديمقراطي كامل في البلاد.
ورغم أن حكومة البشير كانت تدعو إلى الحوار مع الشباب وتجمع المهنيين السودان فإنها رفضت فكرة قيام حكومة انتقالية رفضًا باتًا، يوضح حقيقة مواقفها المتصلبة، فيما اعتبر تجمع المهنيين وغالبية الشباب الثائر أن المبادرة تهدف إلى سرقة الثورة وتخفيف جذوة المظاهرات المشتعلة منذ قرابة 3 أشهر، وبالتالي لم يوافق عليها التجمع ومن يدعمه من الشباب ولم يتزحزحوا عن موقفهم وهو إسقاط النظام كاملًا دون قيد أو شرط، ويرى هؤلاء أن موقفهم أقوى لأنهم يمتلكون زمام المبادرة حاليًّا أي تنظيم “الحراك وتعبئة الشباب”.
المراهنة على انحسار الحراك مع مرور الوقت بات خاسرًا بل بالعكس امتد السلوك الثوري إلى داخل منازل قيادات الحزب الحاكم باعترافهم
ولكن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو فجّر مفاجأة مساء أمس الخميس بمطالبته الحكومة السودانية السماح للمتظاهرين بالتعبير عن وجهة نظرهم دون تضييق، داعيًا لحدوث “عملية انتقالية” يقودها الشعب السوداني، وجاءت تصريحات وزير خارجية الولايات المتحدة بعد رسالة وجهها إليه رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأمريكي إليوت إنغل، طلب من خلالها تقريرًا عن ممارسات أجهزة الأمن السودانية ضد المتظاهرين، وأبدى رئيس لجنة العلاقات الخارجية، استغرابه من الموقف الأمريكي إزاء ما أسماه التدخل العنيف لقوات الأمن السودانية.
هيومان رايتس وبي بي سي توثقان الانتهاكات الخطيرة
تصريح بومبيو رسالة صادمة لحكومة البشير وربما يشير إلى بداية التخلي عنها، بعد أن تزايدت الضغوط من عدة جوانب، فقد نشرت شبكة BBC بمختلف اللغات تحقيقًا استقصائيًا خطيرًا عن الانتهاكات الواسعة التي ارتكبتها قوات الأمن والمليشيات الأمنية في حق المتظاهرين، وقبلها وثّقت منظمة “هيومان رايتس ووتش” بتسجيلات فيديو، تحققت من صحتها، قوات الأمن تتجول في سيارات مدرعة وتطلق الرصاص والغاز المسيل للدموع على المتظاهرين العُزّل، وتعتقل المحتجين والمارة وتضربهم بالعصي وأعقاب البنادق، كما تعرض اللقطات إصابات دموية مروعة نتيجة طلقات نارية، وأدلة على ضرب وتعذيب قاسٍ، وآثار مداهمات قوات الأمن على المستشفيات وإلقاء الغاز المسيل للدموع داخل غرف الطوارئ وإعاقة الرعاية الطبية.
على ضوء ما يجري في السودان خلال الـ3 أشهر السابقة، ورغم تماسك النظام وعدم وجود انشقاقات كبرى في صفوفه باستثناء انسلاخات من القيادات الوسيطة في الحزب الحاكم، فإن الأخير لا يملك خيارات واضحة في التعامل مع المتظاهرين حتى على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي لا يوجد أثر يُذكر لأنصار الحكومة رغم حديث قادة الحزب عن امتلاكهم شعبية كبيرة وسط المواطنين، فالدفاع عن حكومة البشير هذه الأيام يتطلب قدرًا هائلًا من الشجاعة بعد الانتهاكات الواسعة الموثقة بالصور والفيديو لأجهزة الأمن والمليشيات المسلحة.
والمراهنة كذلك على انحسار الحراك مع مرور الوقت بات خاسرًا بل بالعكس امتدّ السلوك الثوري إلى داخل منازل قيادات الحزب الحاكم باعترافهم وكل يوم أضحى التضامن مع الثوار يتخذ شكلًا جديدًا بما يشبه حالة المزاج العام.
الخيارات تبدو معدومة أمام حكومة الرئيس البشير في ظل التردي الاقتصادي المستمر واستمرار هبوط الجنيه السوداني أمام العملات الكبرى وعدم توافر السيولة في المصارف، مع الاستنزاف الذي يعيشه النظام جراء الإنفاق الكبير على الأجهزة الأمنية لقمع الحراك الثوري والضغوط الدولية التي تزداد يوميًا بعد يوم، فإنه لا مناص أمام البشير والحزب الحاكم إلا الاعتراف بالفشل والبحث في إمكانية توفير مخرج آمن على طريقة روبرت موغابي، فقط يختلف في الحالة السودانية أن المتظاهرين يطالبون برحيل النظام كاملًا وليس شخص الرئيس فحسب.