يحتفل الليبيون، غدًا الأحد، بالذكرى الثامنة لثورة 17 فبراير التي أطاحت بنظام معمر القذافي الذي حكمهم طيلة أربعين سنة بالحديد والنار، سنة جديد تمر على ثورة ليبيا دون أن تشهد فيها البلاد تقدمًا يذكر، فقوى الردة والشدة إلى الخلف تُحكم قبضتها ولا تنوي العدول عن أهدافها “الخطيرة”، وترك مصير ليبيا لليبيين الذين يتوقون لرؤية بلادهم في حال أفضل مما هي عليه الآن.
نجاح فانتكاسة
يرى العديد من الليبيين أن ثورة بلادهم التي راح ضحيتها عشرات الآلاف بين قتيل وجريح ومشرد ونازح، نجحت في البداية، قبل أن يتم اختطافها من بعض القوى التي لا تريد خيرًا لليبيا ولا لشعبها التواق إلى الحرية والكرامة.
في هذا السياق، يقول الإعلامي والكاتب الصحفي الليبي عصام الزبير: “ثورة ليبيا نجحت وأنتجت مسارًا ديمقراطيًا حتى عام 2014، تاريخ انطلاق عملية الكرامة بانقلاب من حفتر الذي دعا إلى تجميد الإعلان الدستوري وإنهاء المؤتمر الوطني المنتخب في سعيه لتولي حكم البلاد”.
لم يكن حفتر، السبب الوحيد لتدهور الوضع في ليبيا وإرباكه، فقد ساعده في ذلك الكثير من الأطراف خاصة الغربية منها
يضيف الزبير في تصريح لنون بوست “في ذلك الوقت قام حفتر أيضًا بالدفع نحو الاقتتال بدعاوي الإرهاب، وهو في حقيقته سعي للسلطة، فحفتر لم يحارب القاعدة ولا داعش، ولا أي الفصائل الإرهابية التي ادعى محاربتها، فهو يريد اكتساح الأراضي من أجل السيطرة على منابع النفط والثروات ومن ثم السيطرة على ليبيا وإظهار الأمر للعالم بأنه أمر واقع”.
وفي سنة 2014، عرفت ليبيا انقلابًا عسكريًا من اللواء المتقاعد خليفة حفتر، لكنه فشل في ذلك وعلى إثره أصبح ملاحقًا قضائيًا من حكومة المؤتمر الوطني، ما دفعه إلى التوجه نحو المنطقة الشرقية، حيث أطلق ما عُرف بعملية الكرامة التي تكونت من بقايا الجيش والقوات الأمنية والمتطوعين والمرتزقة، وقد استفاد حفتر كثيرًا من حالة الانهيار الأمني والاحتقان الشعبي في تلك المناطق خصوصًا مع استمرار الاغتيالات والتفجيرات لفرض سلطته إلا أنه فشل في تطويع كامل الأراضي الليبية تحت إمرته.
وعرفت ليبيا عام 2012، أي سنة بعد الثورة، أول انتخابات برلمانية انتخب فيها الليبيون أعضاء المؤتمر الوطني العام، وتشكلت حينها حكومة تنفيذية استطاعت أن ترتقي بمناحي بعض المجالات والقطاعات رغم العديد من الصعوبات، لكن الأمر لم يدم طويلاً، فمع تدخل حفتر العسكري تغيرت الأمور وسارت الأوضاع إلى ما لا يحمد عقباه.
عمل حفتر على ضرب العملية الديمقراطية في البلاد
رغم إنجاز انتخابات ثانية سنة 2014، فإن الأمر ازداد تعقيدًا، فقد سارع أغلب المنتخبين الجدد إلى عقد جلساتهم في مدينة طبرق شرق البلاد، بعد أن نجح حفتر في احتوائهم وضمهم إلى صفه، وذلك لشرعنة عمليات العسكرية التي أربكت البلاد والعباد.
سنوات عجاف، عرفتهم ليبيا بعد تدخل حفتر وعودته إلى الواجهة في البلاد، سنوات لم يكن أكثر المتشائمين يتوقع رؤيتها، فقد عاث حفتر ومليشياته التي تسمى بقوات الكرامة، الفساد في البلاد وأفسدوا الحرث والنسل، لتعيش مناطق عدة من ليبيا عقب ذلك سنوات عجاف لا تسمع خلالها إلا أخبار القتل والنهب والخطف وغيرها من الأعمال المشينة.
للقوى الغربية نصيب في الفوضى
لم يكن حفتر، السبب الوحيد لتدهور الوضع في ليبيا وإرباكه، فقد ساعده في ذلك الكثير من الأطراف خاصة الغربية منها، التي عملت بدورها طوال السنوات الثمانية الماضية إلى الدفع نحو الاقتتال والفوضى رغم مجاهرتها برغبتها في استقرار البلاد وإحلال الأمن فيه.
ويشاطر الإعلامي والكاتب الصحفي الليبي عصام الزبير، هذا الرأي حيث يقول لنون بوست: “المشكلة في ليبيا أيضًا هي التدخل الأجنبي، فالشأن الليبي في يد بعض الدول الأجنبية المسيطرة على البلاد، التي لا تملك رؤية واحدة لحل الأزمة بل تتصارع على ثرواتها وخيراتها”.
وتسعى العديد من الأطراف الأجنبية إلى تأزيم الوضع الليبي أكثر ودفعه نحو مزيد من التعقيد، فضلاً عن إطالة أمد الأزمة هناك والاستفادة منها قدر المستطاع، فالسلام في ليبيا ووجود دولة قوية تبسط سلطتها على كامل البلاد لا يخدم مصالحها وأجنداتها المشبوهة، وذكر عصام الزبير فرنسا وإيطاليا كأمثلة على تلك الدول الطامعة في خيرات البلاد.
يلوم العديد من الليبيين، بعض القادة العرب الذين لم يدخروا جهدًا لأذيتهم والدفع بثورتهم نحو الفشل وبالبلاد نحو الاقتتال والفوضى
رغم تأكيد كلا البلدين على سعيهما المتواصل لإيجاد حل للأزمة الليبية، يؤكد العديد من المتابعين عكس ذلك، حتى إن ليبيا أصبحت ساحة صراع بين الفرنسيين والإيطاليين، فكلاهما يسعى إلى نيل الحصة الأكبر من الكعكة الليبية الدسمة، خاصة فيما يتعلق بالنفط والإشراف على تقسيم الحصص المتبقية على الحلفاء.
ويتبين دور الدول الغربية في ضرب الثورة الليبية، وفق عصام الزبير، من خلال عدم الدفع لوقف الاقتتال الدائر في البلاد، رغم أن أول نقاط الاتفاق السياسي الليبي تنص على وقف إطلاق النار، فضلاً عن عدم معاقبة من انتهكوا حقوق الإنسان والدفع بمعاقبة المفسدين ومرتزقة الحروب، والتعامل مع المتمردين عن السلطة، والدفع بهم إلى المشهد السياسي.
ماذا عن الأشقاء العرب؟
يلوم العديد من الليبيين، بعض القادة العرب الذين لم يدخروا جهدًا لأذيتهم والدفع بثورتهم نحو الفشل وبالبلاد نحو الاقتتال والفوضى، إلا أنهم يؤكدون أن هذه التدخلات لم تكن لتنجح لولا وجود “عملاء” لهم في الداخل الليبي ساعدوهم على القيام بمهامهم “القذرة”، وفق وصف بعض الليبيين.
ويقول السياسي أنس الدويبي في هذا السياق: “هذه الدول وجدت الفرصة للتدخل في ليبيا لتحقيق مصالح كبرى لها، وهذا طبيعي، فالدول تسعى لتحقيق مصالحها دائمًا، ولكن الشيء غير الطبيعي، هو أذرع هذه الدول وبيادقها الليبيين”.
وتعتبر كل من مصر والإمارات، أبرز العقبات أمام حل الأزمة الليبية، فقد عُرف عن هذين الدولتين منذ تدخلهما في ليبيا، دعمهما لقوى الثورة المضادة، خاصة اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي لا يعترف بالحكومة الشرعية للبلاد، على حساب باقي الأطراف المكونة للمشهد الليبي، ضمن الاتجاه العام للسلطات المصرية والإماراتية بدعم موجة الثورات المضادة للربيع العربي، في مسعى منهما لإجهاض الثورة الليبية ودعم العسكر.
ساهمت كل من مصر والإمارات في تدهور الأوضاع بليبيا
يفهم من هذا الدعم الإماراتي والمصري السخي، مالاً وعتادًا لصالح قوى الثورة المضادة، التي لا تعترف بالحكومة المعترف بها دوليًا وتكن لها العداء، وجود رغبة لدى الإماراتيين والمصريين لبسط نفوذهما في ليبيا ومنطقة الهلال النفطي لما لهما من موقع إستراتيجي ومستقبل اقتصادي كبير، حسب العديد من الخبراء.
ويؤكد الكاتب في الشأن السياسي أنس الدويبي، ضرورة التغلب على أذرع الدول التي لا تريد خيرًا بليبيا، فـ”كلما قطعت هذه الأذرع، ارتاحت ليبيا أكثر”، وفق قوله، وهو ما يشاطره فيه الكثير من الليبيين الذين ملوا الفوضى والتدخل الخارجي في تقرير مصير بلادهم.
ثلاثة مسارات محتملة
يرى آخرون أن ليبيا اليوم في مفترق طرق، والمجال مفتوح أمام العديد من السيناريوهات التي يصعب الجزم بتحقق واحدة منهم، في الوقت الحاليّ نظرًا لغموض الوضع في البلاد، وتشعبه وتدخل أكثر من طرف داخلي وخارجي فيه.
عن هذه السيناريوهات المحتملة، يقول الصحفي الليبي والكاتب في الشأن السياسي أنس الدويبي لنون بوست: “شخصيًا أرى ليبيا في مفترق طرق، وخلال السنوات القادمة ستتجه ليبيا باتجاه أحد المسارات التالية، وهي مسار الاستبداد والحكم العسكري، أو مسار الفساد والفوضى وغياب الدولة وغياب القانون، أو مسار الدولة الديمقراطية الحديثة القائمة على العدل التي من أجلها قامت الثورة”.
ويقول الصحفي الليبي: “من يدفع بليبيا إلى الوراء ويشدها للخلف، هو مشروع حكم الفرد المتمثل في مشروع خليفة حفتر الاستبدادي، الذي يسعى إلى إعادة ليبيا لعصور الاستبداد، فالاستبداد كما هو معروف هو العامل الأساسي في تخلف الدول والمجتمعات وإبقائها في خانة الدول الفقيرة الفاشلة”.
يأمل الليبيون في بناء دولة ديمقراطية حديثة
أما المسار الثاني الذي تحدث عنه أنس الدويبي، فإن ما يدفع به هو الفوضى وانتشار السلاح وغياب الدولة والقانون، وتتميز مناطق عديدة في ليبيا بعدم الاستقرار، حيث تشهد فراغًا أمنيًا واضطرابات متكررة منذ سقوط نظام معمر القذافي في فبراير/شباط 2011، وتسيطر عليها عصابات تهريب النفط والبشر، وتعرف منطقة الجنوب مثلًا ازدهارًا لتجارة البشر، حيث يتيح ضعف مراقبة الحدود لأسواق السلاح والبشر والمخدرات أن تزدهر، مع ما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة على المنطقة ككل.
في خصوص السيناريو الثالث، رأى الدويبي أنه صعب التحقق “إلا في حال وجود مشروع وخطة وبرنامج لتحقيق هذا الهدف، وهو بناء دولة ديمقراطية متطورة حديثة قائمة على العدل ولا فرق فيها بين الحاكم والمحكوم أمام القانون”.
ويضيف “بعثة الأمم المتحدة تقول إن بناء دولة ديمقراطية هو الهدف الذي تسعى لتحقيقه من خلال عملها في ليبيا، ولكن إذا تحدثنا بلغة المصالح، أجزم أن قيام دولة ديمقراطية متطورة حديثة هو مصلحة المواطن الليبي، وهذه المصلحة لا أتوقع أن يحققها له طرف خارجي، أي أن مصلحة المواطن الليبي ومصلحة ليبيا لا تتحقق إلا عبر الليبيين، عبر قيادة ومشروع وبرنامج وخطة وتخطيط للخروج من هذه المرحلة والدفع باتجاه الدولة الديمقراطية الحديثة”.