ترجمة وتحرير: نون بوست
في مطلع سنة 2011، عندما كان السودان بصدد الانقسام إلى نصفين، كنتُ أصور فيلمي الوثائقي بعنوان “سوداننا الحبيب”. كنتُ أجري مقابلة مع المغني والناشط محمد وردي عندما قاطعني قائلا: “ماذا عن أكتوبر؟ يجب عليك تضمين ذلك في فيلمك الخاص”.
من المؤكد أن وردي كان يشير إلى الانتفاضة الشعبية في السودان سنة 1964، التي أطاحت بالنظام العسكري للعقيد إبراهيم عبود. وبحلول شهر كانون الثاني/ يناير 2011، انتشرت ثورات الربيع العربي من تونس إلى القاهرة، وكان الجميع يأملون أن يتحول الشرق الأوسط من الدكتاتورية إلى الديمقراطية الليبرالية من خلال مجهودات وأصوات ومظاهرات الشعوب.
لطالما كان المغني الراحل يتسم بنوع من الشجاعة المتهورة، ومن المؤكد أنه كان ليقف متضامنا مع الشبان والشابات الذين توجهوا إلى الشوارع وخرجوا لمواجهة الرصاص الحي
في ذلك الوقت، ظل السودان في منأى عما يسمى بحمى الربيع العربي. وحيال هذا الشأن، توجهتُ إلى وردي بالسؤال عما إذا كان بالإمكان مقارنة الجيل الحالي بالجيل الذي أدرك انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر، فأجاب أن الجيل الحالي هو من أحفاد الجيل القديم الذي أدرك هذه الثورة، وهو يؤمن بالشعب السوداني. وتابع الوردي كلامه قائلا: “طالما لا يزال الفنان قادرا على الإبداع، فإنه لا يتقدم في العمر”.
الاهتمامات السياسية والاقتصادية
لو لم يفارق الحياة لكانت هناك فرصة كبرى في إعادة وردي لغناء أنشودته الشهيرة “أكتوبر الأخضر” لجيل مواقع التواصل الاجتماعي وأغاني الهيب هوب الحالي تكريما لانتفاضة 1964، أو ربما أنتج أغنية جديدة. أنا أتخيله سائراً نحو القصر الرئاسي ليجتمع مع المتظاهرين ضد الرئيس عمر البشير الذي يشغل هذا المنصب منذ سنة 1989، مشيرا إلى أن سلوكه القاسي لا يمت للتعاليم السودانية بأي صلة.
لطالما كان المغني الراحل يتسم بنوع من الشجاعة المتهورة، ومن المؤكد أنه كان ليقف متضامنا مع الشبان والشابات الذين توجهوا إلى الشوارع وخرجوا لمواجهة الرصاص الحي، والذين ينادون بشعارات من قبيل: “فليسقط تجار الدين” و”مسالمون، مسالمون”.
متظاهرون سودانيون يشاركون في مظاهرة مناهضة للحكومة في الخرطوم يوم 14 شباط/ فبراير 2019
بدأت الثورة الأخيرة في مدينة عطبرة خلال شهر كانون الأول/ ديسمبر 2018 عقب قرار الحكومة برفع الدعم عن الخبز، وسرعان ما امتد تأثيرها إلى العاصمة الخرطوم وعدة مدن أخرى في السودان. كما أدى فقدان دخل عائدات النفط بعد انفصال جنوب السودان إلى جانب سوء إدارة الأموال العامة والسقوط الحر للجنيه السوداني عقب رفع العقوبات، إلى تعثر الاقتصاد السوداني.
كان رفع الدعم الحكومي عن الخبز والوقود القشة التي قصمت ظهر البعير، لكن في خضم الأسباب الاقتصادية لهذه الاحتجاجات كانت هناك مخاوف سياسية أكثر عمقا. لقد ظل عمر البشير في السلطة لمدة تناهز الثلاثة عقود، ولم يعد نظامه قادرا على تلبية الاحتياجات الأساسية للبلاد. وقد وصف بعض المعلقين الاحتجاجات الحالية بالربيع العربي، لكن السودانيين القدامى لطالما عُرفوا بكونهم رواد الانتفاضات الشعبية السلمية، ولنا في سنوات 1964 و1985 خير مثال، عندما تمكن السودانيون من تنحية جعفر النميري. وفي كلتا المناسبتين، أفضت الانتفاضات الشعبية السلمية إلى استبدال الديكتاتوريات العسكرية بحكومات منتخبة ديمقراطيا، وإن كان ذلك لفترة قصيرة فقط.
ثورات 1964 و1985
تمثل انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 1964 ما يصبو الشباب السوداني إلى إعادته في الوقت الحالي، لأنها كانت فترة لم يكتف خلالها الشباب بانتظار حدوث أمر ما ليتغير التاريخ وإنما خرجوا إلى الشوارع لصنع التاريخ. وقد جاءت أغنية “أكتوبر الأخضر” احتفاء بالإرادة المتحدة للشعب السوداني، فكانت كلماتها كما يلي: “وتسلحنا بأكتوبر لن نرجع شبرا، سندق الصخر حتى يُخرج الصخر لنا زرعاً وخضرا، باسمك الأخضر يا أكتوبر الأرض تغني .. باسمك الشعب انتصر، حاجز السجن انكسر”.
رفع المتظاهرون شعار انتفاضتهم، “تسقط بس” أو “ارحل فقط، هذا كل شيء”، الذي كان بمثابة تأنيب واستنكار موجه للرئيس عمر البشير ونظامه
لكن المشهد السياسي لسنة 2019 لا يحمل الملامح ذاتها التي ميزت ثورتيْ 1964 و1985، ذلك أن المبادئ الأخلاقية التي كان يؤمن بها كل من إبراهيم عبود وجعفر النميري لم تسمح لهم بإعطاء الأوامر للجيش السوداني بإطلاق النار على المتظاهرين المدنيين العُزّل. وتجدر الإشارة إلى أن أيدي هذين الجنرالين قد تلطخت بالفعل بالدماء، لكن الأرواح التي سقطت في هاتين الثورتين كانت للمتمردين المسلحين في أطراف السودان في الجنوب وغرب البلاد، بيد أن هذا لا ينفي سقوط ضحايا من المدنيين الذين كانوا يعيشون في هذه المناطق.
رفع المتظاهرون شعار انتفاضتهم، “تسقط بس” أو “ارحل فقط، هذا كل شيء”، الذي كان بمثابة تأنيب واستنكار موجه للرئيس عمر البشير ونظامه. كان سفك دماء المتظاهرين السلميين العزّل في العاصمة أمرا غير مسبوق ولا يمت للسودان بصلة. وقد اقترح البعض إصدار عفو خاص عن البشير من المحكمة الجنائية الدولية، حيث يشتبه في ارتكابه لجرائم ضد الإنسانية، مقابل تخليه عن السلطة لتسهيل الانتقال السلمي للسلطة ومنع إراقة المزيد من الدماء.
يبدو أن السياسيين في الدول الغربية ووسائل الإعلام الرئيسية يواجهون صعوبة في تحديد رواية للانتفاضة السودانية الجديدة، فهي لا تتلاءم مع القصة التي غالبا ما يتم تناقلها عن هذا البلد. فلا يوجد انقسامات بين مختلف أفراد الشعب السوداني، بين عربي وأفريقي أو مسلم ومسيحي، التي ستدفع المشاهير في هوليوود للاستنفار للدفاع عن معاناتهم كما حصل في جنوب السودان ودارفور. هذه ببساطة قصة الشعب السوداني الذي ينتمي إلى مختلف الأعراق والخلفيات الذي نادى بأعلى صوته إن الوقت قد حان للتغيير ووضع حدٍ للفساد الذي ينخر البلاد.
“كلنا إخوة”
خلال سنة 2011، وبينما كنت أقوم بتصوير فيلمي الوثائقي “سوداننا الحبيب”، حاولت أن أكشف كيف يتحدث الشعب السوداني عن نفسه في الفترة التي سبقت تقسيم البلاد. كان الشعار الشعبي المنبثق عن الإذاعة الرسمية آنذاك هو “كلنا إخوة وكلنا السودان”. وبدلاً من الاعتراف بوجود مشاكل ومحاولة إيجاد حل لاستياء الشعب والتناقضات التي تدفع البلاد نحو الانقسام، كان لسان حال الدولة هو محاولة تهدئة الأمور باستخدام كلمات معسولة لا معنى لها.
لا يزال الفصل الأخير من هذه الانتفاضة قيد الإعداد. وسواء تم الإطاحة بالرئيس عمر البشير أم لا، فإن الشعب السوداني قد نجح في التوحد ككيان واحد
انطلاقا من منظورنا الحالي كمغتربين عن الوطن، من المحزن للغاية أن نشاهد صورا لشباب يحدوهم الإصرار على إحداث تغيير، ولكن لفحت أجسادهم أشعة الشمس، وتعرضوا للضرب المبرح على أيدي أعوان الأمن، وأطلق القناصة عليهم النار، ونزفت جراحهم إلى أن ماتوا في أحضان رفاقهم. ومن جهة أخرى، تعتبر المنشورات المتداولة على تطبيق واتساب التي تنقل ما يحصل في المظاهرات مقياسًا مثيرًا للاهتمام للاتجاه الذي يتم اتخاذه في الأحاديث المتعلقة بالقومية، وحول ما يعنيه أن تكون سودانياً.
محتج سوداني يحمل لافتة تحمل شعار مكافحة الفساد في 31 كانون الثاني/ يناير
يختلط في هذه المحادثات دم وعرق ودموع السودانيين. فعندما يعبر البعض منا عن شعوره بالصدمة إزاء التعامل العنيف للدولة مع المتظاهرين، فإن ذلك يذكّرنا بأنه على الرغم من أن ما يحصل في الخرطوم أمر مستجد على الشعب، إلا أن السكان في دارفور وجبال النوبة قد اعتادوا على هذه الممارسات العنيفة. ربما كانت الطبقات الوسطى في الخرطوم لا تزال عالقة في الماضي كما وصفه الفنان محمد وردي “الزمن الجميل”، عندما تراجع القائد الدكتاتوري إبراهيم عبود حين سُفكت دماء عدد قليل من المتظاهرين السلميين. لقد كان يتمتع حينها بنزاهة دفعته للتخلي عن السلطة، ووضع مصالح بلاده قبل مصالحه السياسية المحدودة.
في الحقيقة، لا يزال الفصل الأخير من هذه الانتفاضة قيد الإعداد. وسواء تم الإطاحة بالرئيس عمر البشير أم لا، فإن الشعب السوداني قد نجح في التوحد ككيان واحد. إننا نأمل في أن يتعرض أي مشروع يهدف لتقسيم السودان إلى نكسة. ومن خلال معاناتهن، تتشارك الأمهات في الخرطوم التجارب والآلام التي تعيش على وقعها الأمهات المتواجدات في مناطق الحروب النائية. وقد أصبحت الظروف ملائمة أكثر من أي وقت مضى لإجراء حوار صادق حول معنى أن تكون مواطنا سودانيا.
تشويه سمعة الإسلام السياسي
من بين الإنجازات البارزة الأخرى للانتفاضة تشويه سمعة الإسلام السياسي. لقد خرج نائب الرئيس السابق علي عثمان محمد طه، شبه المتقاعد، مؤخرا ليعلن على شاشة التلفزيون الرسمي أن أبناء وبنات الثورة الإسلامية السودانية مستعدون للقتال من أجل حمايته. وبعد لحظات، انتشرت رسالة من قبل عضو سابق في الحزب على تطبيق واتساب تدحض تصريحات طه، جاء فيها: “لا تتكلم بالنيابة عنا. لم نعد جيشك النائم. لن نموت من أجل شعاراتك المزيفة باسم الله مثلما خُدعنا خلال الحرب الأهلية مع الجنوب. دع أولئك الذين استفادوا من الثورة الإسلامية يدافعون عنها”.
ربما تعتبر الدروس المستخلصة من انتفاضة 1964 مهمة بشكل كبير بالنسبة لقيادات النخب السياسية السودانية التي تنتظر دورها في المشهد السياسي السوداني
يقوم العديد من الإسلاميين المؤيدين للنظام بإعادة النظر في موقفهم أو النأي بأنفسهم عن الحزب الحاكم. ونظرا لأنه من الخطأ تصنيف الحروب الأهلية في السودان على صعيد الثنائيات، سيكون من الخطأ أيضا اعتبار الانقسامات السياسية التي تقوم عليها هذه الانتفاضة على أنها انشقاقات علمانية/ إسلامية. وعموما، إن الشعب السوداني مؤمن جدا. وبالنسبة لأولئك الذين ينتمون إلى الطيف العلماني مثلنا، فيتمثل أملنا في أنه بعد انكشاف الإفلاس الأخلاقي للإسلام السياسي المطبق على مدار الثلاثين سنة الماضية في السودان، سيكون الشعب أقل عرضة لتأثيره.
الموت من أجل سودان أفضل
من شأن استخلاص الدروس من ثورة تشرين الأول/ أكتوبر 1964 أن يساعدنا على إعداد هذا الجيل للفرص التي سوف تقدمها هذه الانتفاضة في حال نجحت في إسقاط الحكومة. وخلال سنة 1964، كانت النقابات العمالية والجمعيات المهنية هي التي تقود الانتفاضة وتحافظ على انضباطها، ومكنت من نجاحها في النهاية، من خلال العصيان المدني.
أما هذه المرة، يقوم المواطنون السودانيون بتنظيم احتجاجاتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ولا سيما تطبيق واتساب. ويحثون بعضهم البعض بشكل كبير على المحافظة على سلمية الانتفاضة. وسوف يتطلب الحفاظ على هذا السلم عند مواجهتهم للاستفزاز العنيف الذي تتبعه الدولة الكثير من العزيمة والانضباط. وسيؤدي أي بديل آخر إلى انهيار السودان.
ربما تعتبر الدروس المستخلصة من انتفاضة 1964 مهمة بشكل كبير بالنسبة لقيادات النخب السياسية السودانية التي تنتظر دورها في المشهد السياسي السوداني. وتتعلق الانتفاضات بالأفكار بقدر ما تتعلق بالاستياء السياسي والاقتصادي. ويضع الشباب حياتهم على المحك في كل مرة يخرجون فيها إلى الشوارع للاحتجاج وهم يستحقون أن يصبحوا قادرين على المشاركة في اتخاذ القرارات وصياغة جدول أعمال سياسي جديد للبلاد. وستكون السياسات القديمة القائمة على الامتيازات والدين والمال بمثابة خيانة لأولئك الذين إما فقدوا حياتهم أو يفقدونها الآن من أجل سودان أفضل.
المصدر: ميدل إيست آي