تأمَّلَ الكثيرون من مؤتمر وارسو، أن يخرج بقرارات تضع حدًا للفوضى التي يثيرها النظام الإيراني بالمنطقة، واعتبر الكثيرون أن هذا الحراك السياسي الذي تقوده الولايات المتحدة هو صحوة ضمير للإدارة الأمريكية، تريد من خلالها تصحيح الأوضاع التي نتجت عن سياسات التوسع الإيراني في المنطقة، التي لم تكن لتتسبب بهذا الخراب لولا غض الطرف الأمريكي عنها، لتصل الأمور الى ما نحن نشهده الآن.
لكنَّ أحلام الحالمين تحطمت على أعتاب أبواب وارسو، حينما تبين أن كل الجهود الأمريكية التي كانت تسعى لها خلال الفترة السابقة، لم تكن سوى محاولة لترويج عمليات التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني، ومحاولات التضخيم للخطر الإيراني على دول المنطقة (رغم أنه خطر حقيقي) كان الغرض منه تحقيق ما عجزت عنه الجهود السياسية المبذولة طيلة عقود، في جعل هذا الكيان جزءًا طبيعيًا من المنطقة، وأن شيئًا اسمه فلسطين أو حقوق الفلسطينيين، هو من ضروب الخيال، وليس له حقيقة في الواقع الفعلي.
ومن حيث يقصد أو لا يقصد، كانت سياسة النظام الإيراني، الأداة الفاعلة في هذا العمل كله، فقد أرهقت تلك السياسات النظام العربي واستهلكته، وأوصلت شعوب المنطقة إلى مرحلة اليأس من قدرتها على مواجهة الكيان الصهيوني، كما أن النموذج الذي طرحه النظام الإيراني للإسلام جعل كثيرًا من الشباب العربي يعزفون عن الإسلام أو يشككون بأن الإسلام يُمكن أن يكون حلاً لمعاناتهم.
تجربة النظام الإيراني المليئة بالدماء والفوضى وخراب الشعوب، التي جعلها النظام الإيراني لصيقة بالإسلام عنوة دون وجه حق، والنماذج التي طرحها للآخرين كالنموذج العراقي والسوري واليمني، خير دليل على ذلك، والفوضى السياسية والفشل الاقتصادي والتردي الثقافي في بلد مثل لبنان دليل آخر على هذا النموذج المأساوي للتجربة الإيرانية في الحكم، ناهيك عما تمثله الأيدلوجية التي تصدرها إيران، وجعلت الشعوب العربية تتمزق بسبب الانقسام الطائفي الذي غذَّته بكل قوة.
الولايات المتحدة والتحالف العربي الإسرائيلي الوليد، سيعمل فعلًا على محاربة النظام الإيراني، ولكن لن تسمح له الولايات المتحدة بالوصول إلى الحد الذي يُسقط فيه النظام الإيراني
الأمر الذي جعل للدعاية الصهيونية والأمريكية، فرصًا للنجاح بشكل كبير، في محاولتها لحرف شريحة مهمة من شباب الأمة إلى تبني النموذج الغربي وطروحاته، وأن الكيان الصهيوني ليس عدوًا إنما صديق، يساعد العرب في التخلص من التخلف الذي يصدره نظام إيران إليه.
وهذا هو السر في حرص الولايات المتحدة والكيان الصهيوني على عدم المساس بهذا النظام أو محاولة إسقاطه، رغم توافر الفرص لعمل ذلك عدة مرات، حينما شهدت شوارع مدن إيران التظاهرات الصاخبة ضده، ولكن مع ذلك لم تحرك ساكنًا لنصرة شعب إيران في نيل حريته والتخلص من هذا النظام، ذلك لأن هذا النظام وما يمثله من تحدٍ للأنظمة العربية الحريصة على عروشها، جعلته الولايات المتحدة، كفزّاعة يتم من خلالها استنزاف أموال تلك الأنظمة، وبنفس الوقت إيصالها لقناعة راسخة بأن النظام الإيراني يمثل تهديدًا قوميًا حقيقيًا على أنظمتها، على عكس الكيان الصهيوني الذي سوف يدافع عن أنظمتها ويحرص على بقائها جاثمةً على صدور شعوبها.
ومن هذا كله ربما يتبادر سؤال عن جدية الولايات المتحدة ومن خلفها “إسرائيل” والأنظمة العربية، في محاربة نظام إيران والعمل على إسقاطه أو على الأقل تحجيم نفوذه في الدول العربية المتضررة منه، ومن رؤيتنا للأحداث، يتبين لنا أن الولايات المتحدة والتحالف العربي الإسرائيلي الوليد، سيعمل فعلًا على محاربة النظام الإيراني، ولكن لن تسمح له الولايات المتحدة بالوصول إلى الحد الذي يُسقط فيه النظام الإيراني، فالفائدة من منه ما زالت باقية، وتحالف الأنظمة العربية مع الكيان الصهيوني (حديث الولادة) يحتاج لعدو مشترك ليديمه ويعمقه، وبقاء نظام إيران سيفيد الولايات المتحدة الأمريكية في محاولة إقناع الشعوب العربية بأن العدو ليس الكيان الصهيوني كما كنتم تظنون، إنما هو النظام الإيراني الذي يريد الخراب لشعوب المنطقة، وبالتأكيد فإن مهمةً مثل هذه المهمة، تحتاج لسنين طويلة لترسيخها، مما يزيد من عمر النظام الإيراني وبقائه في الواجهة لعدد غير محدد من السنوات.
إن حقيقية موقف الشعوب العربية، تختلف بالكلية عما يحاك لها من مؤامرات، يتم فيها قلب الأمور وجعل الحق باطل والباطل حق
مع ذلك فإن الشعوب تنظر إلى تلك التغيرات السياسية من باب مصلحتها وما سيصب فيها، رجاء أن تتحرر من عدوٍ قريب يتمثل بإيران، وبانتظار التخلص من عدوٍ إستراتيجي يتمثل بـ”إسرائيل” لاحقًا، ومن تلك الشعوب الشعب العراقي الذي ذاق الأمرين من التدخل السافر للنظام الإيراني في شؤونه الداخلية حتى وصل الأمر إلى ما يمكن وصفه باحتلالٍ إيرانيٍ حقيقي للبلد، لكن هل يتوجب على الشعب العراقي أن تكون الضريبة التي يدفعها للتخلص من احتلال إيران، أن يكون من المطبّعين مع الكيان الصهيوني؟ وهل سنشهد في الفترة المقبلة مساومة الولايات المتحدة للشعب العراقي ونخبته السياسية المعارضة، بالاعتراف بحق الكيان الصهيوني بالوجود والتطبيع معه لقاء حرية الشعب العراقي؟
إنها ضريبة باهظة للتخلص من هذا الاحتلال، والمقولة التي كانت يروج لها أيام النظام العراقي السابق التي تقول “سنقبل بأي حكمٍ سوى حكم صدام حسين”، جلبت علينا حكم إيران وأذنابها، هل ستعود بصيغة أخرى بأن أي حكم يرضى به الشعب العراقي سوى حكم هؤلاء السراق والخلاص من الاحتلال الإيراني؟ إن البديل سيكون أسوأ بكثير مما نحن فيه، وسيتطلب من الشعب العراقي ونظامه المستقبلي أن يطبّع مع “إسرائيل”، وأن يناقض عقيدته التي تربى عليها، ليجعل من الكيان دولة صديقة وما سواها هو العدو اللدود، فإذا فعلنا ذلك، سندفع ثمنها من قيمنا وتاريخنا، وستلاحقنا لعنة الله قبل لعنة التاريخ الذي لا يرحم المتخاذلين وبائعي قيمهم.
إن حقيقية موقف الشعوب العربية تختلف بالكلية عما يحاك لها من مؤامرات، يتم فيها قلب الأمور، وجعل الحق باطل والباطل حق، والشعوب العربية التي خرجت في ربيعها العربي رافضةً كل الأنظمة القمعية والمتخاذلة، لم تكن تطمح لأن تكون ذيلاً للكيان الصهيوني وتطبّع معه، ولم تكن تريد أن تكون منطقة نفوذ لإيران أو ما سواها من الدول الطامعة بأرض العرب، إنما خرجت للتظاهر من أجل نيل حريتها وتحرير أرضها من دنس المحتلين، وجعل الشعوب العربية تتنفس الحرية والاستقلال بقرارها.
لكن الأنظمة الجاثمة على صدرهم تأبى إلا أن تسوقهم وبالقوة ليكونوا صفًا بصف من عدوها التاريخي الصهيوني، بحجة الخلاص من خطر النظام الإيراني، لكن يبقى لسان حال الشعوب يقول: “لا لشرعية “إسرائيل” ولا لشرعية الاحتلال الإيراني لدول المنطقة، ونعم لحرية شعب فلسطين وشعوب المنطقة واستقلالها وامتلاك إرادتها بيدها”.