حسنًا، وبعد مضي أكثر من ربع قرن من حكم قادة حزب المؤتمر الوطني للسودان، وهم يمتطون سفينتهم التي نحتوا على جدارها اسم الإنقاذ تصول وتجول في بحر السودان الواسع بلا حسيب ولا رقيب، يكتنزون فيها خيرات البلاد، ويسخرون شعبها لخدمتهم إلا من من علية الله برضاهم، ركب معهم ونجا من الغرق ومن ويلات الفقر المدقع والمرض، حيث إن لهم مرافقهم الخاصة من مستشفيات ومدارس وجامعات لا تستطيع أنت العامي الاتخاذ إليها سبيلا.
العسر في كل شيء هو السمة العامة في مرافق الدولة كافة، لا تستطيع أن تنجز عملاً طرفه جهة حكومية أو تحظى بوظيفة محترمة ما لم تكن منهم أو من المحاسيب أو المؤلفة قلوبهم، حالة من الغبن تعتري صدر المواطن السوداني عكستها تعرجات في الوجه غاضبة وساخطة من كل شيء، حيث تحولت المقاهي الليلية التي كانت تستخدم في الأنس والمغازلات الشعرية إلى بيت بكاء كبير ومناحة على الراهن السوداني الأسود، وبدأت الملامح السودانية الجميلة في الذوبان والتوهان بين طيات الراهن والواقع القاسي.
انفصال ومشروعات مدمرة
رغم النهب المنظم وغير المنظم لخيرات البلاد من حكامها والتفريط في جنوب السودان جراء سياسات إقصائية لأهله سواء كانت من قصد أم من دون قصد، والانهيار التام الذي أصاب جميع مرافق الدولة ابتداءً من الخدمة المدنية مرورًا بالصحة والتعليم.
الرئيس السوداني عمر البشير صعق من كمية الاحتجاجات التي تنتاب الشارع السوداني تجاه حكومتة التي لم تترك شبرًا في البلاد إلا وعبر أهله عن رفضهم له ومطالبتهم بتنحيه
وكذلك التعدي السافر لدول الجوار على الحدود السودانية ونهب سكانها وهجرات الخبرات والشباب بالآلاف كل يوم، والغلاء الفاحش الذي جعل أكثر من 90% من الشعب السوداني يعيش تحت خط الفقر وانتشار الأمراض والأوبئة، وآلاف النازحين والقتلى في دارفور ومنطقة النيل الأزرق وجنوب كرفان، وتدمير كل المشاريع الحيوية التي كان يعول عليها الاقتصاد السوداني ويتكئ على عائداتها خوفًا من الانهيار منها مشروع الجزيرة المشروع الزراعي الضخم والسكك الحديدية التي كانت تحل كل مشاكل النقل داخل البلاد من ركاب وبضائع والخطوط الجوية السودانية (سودانيز) والنقل النهري الذي كان إسطولها يحتوي على أكثر من 15 باخره تجوب كل بحار الدنيا، وضياع عائدات البترول بين الطبقة الحاكمة وتقدر ببلايين الدولارات التي لا يعرف إلى الآن أوجه صرفها، والفساد الذي ظل ينخر في عظم الدولة.
ثورة الوعي والفكر
كل ذلك وأكثر لم يكن ليحرك الشارع السوداني ويجعلة يحاول الانعتاق من القبضة الأمنية القاسية ويعود ذلك لعدة أسباب منها سياسة التمكين التي اتخذتها الحكومة بتدمير كل النقابات العمالية واختراقها والتعامل القاسي مع المعارضين في زنازين النظام فيما كان يعرف ببيوت الأشباح، وأكثرت الحكومة من تجنيد الشباب ودعتهم للانضمام للقوات النظامية لمجابهة الحروب التي ظلت توقد نارها في كل مكان شرقًا وغربًا وجنوبًا، وكانت لها واجهات إعلامية ضخمة سخرت لخدمة هذا الغرض منها برنامج شهير كان يبث على القناة السودانية يسمى “ساحات الفداء”.
وبذلك تكون الحكومة قد اخترقت البنية التركيبية للمجتمع وأصبح كل منزل لا يخلو من رجل أمن أو شرطة أو جيش، وبلورت الأمنيات في مخيلة الصغار بأن المستقبل الأفضل وتحقيق الأحلام لا يتأتي إلا من البوابة النظامية ولبس الكاكي واحترام قادتها وتتبع أوامرهم، وهكذا تحول حلم كل شاب إلى المؤسسة العسكرية.
أصبح منظر الصفوف أمام المخابز والصرافات الآلية أمام البنوك واصطفاف السيارات أمام محطات الوقود من المناظر المألوفة
فكان من الصعب إحداث تحول في بنية المجتمع لإحداث ثورة شاملة تقتلع هذا النظام العسكري من جذوره، إلا من خلال وعي شعبي عام ومعرفة شاملة بحقوق المواطنة، وطاقة شبابية طموحة تستطيع أن تكسر الأطر الفكرية التي حوصرت بها من خلال السياسات التعليمية ومناهجها التي كرست لخدمة مشروع النظام في السودان أولاً، دون التركيز على العائد الأكاديمي الذي يمكن أن ينتج جيلاً يستطيع أن يمسك دفة القيادة مستقبلاً، فكان من العسير ميلاد هذه النوعية من الشباب في ظل ظرف تعليمي متردِ وموجه.
ولكن الثورة الثقافية التي أصابت كل طبقات المجتمع وساعد على قيامها سهولة الحصول على المعلومة من خلال الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي والالتحام بتجارب الدول الإفريقية الناجحة التي كانت تعيش ظروفًا اقتصادية مماثلة واستطاعت أن تخرج من نفق الظلم والطغيان إلى مرافئ العدل والديمقراطية، هذه الثورة بدأت تشكل جيلاً أكثر وعيًا ومعرفة بحقوقة، ومن الغرائب أن هذا الجيل الشاب الثائر اليوم هو من نشأ وتربى في عهد هذا النظام، ورغم كل ذلك لم تكن هناك الكثير من الأصوات المناديه برحيل النظام أو لا يسمع صداها في الشارع العام إلا في الأماكن المخصصة لتلك النوع من النقاشات أو وسائل الإعلام المناوئة للنظام، وهذا التصرف ليس فطريًا وإنما نتاج ممارسات قاسية تجاه المعارضين من الأجهزة الأمنية بالبلاد.
تكتلات سياسية
لكن مع تزايد الإخفاقات الحكومية في توفير الخدمات الأساسية للمواطنين، وأصبح منظر الصفوف أمام المخابز والصرافات الآلية أمام البنوك واصطفاف السيارات أمام محطات الوقود من المناظر المألوفة، أدى ذلك لحالة من الاحتقان تسود العامة من الناس والشباب خاصة، اختلطت هذه الحالة بالوعي الشبابي العام مما أحدث تكتلات سياسية كبيرة منها تجمع المهنيين السودانيين الذي يقود الثورة السودانية الآن وينطوي تحت لوائه عدد من الأحزاب السياسية وما زال التجمع يزداد مع كل يوم بانضمام حزب جديد أو شخصيات بارزة أو مؤثرة في المجتمع.
بداية الثورة
في الـ19 من ديسمبر/كانون الأول اندلعت شرارة الثورة السودانية في شمال البلاد بولاية نهر النيل بمدينة عطبرة ثم انتشرت في مدن السودان كافة، واستمرت لأكثر من شهرين وما زالت نيرانها لم تخمد ولهم مطلب واحد فقط لا غير وهو رحيل النظام، ويعبر عنه الثوار بـ”تسقط بس” أي لا خيار إلا بسقوط النظام.
مع تزايد وتيرة الاحتجاجات تغيرت اللهجة الحكومية من صيغة التهديد والوعيد إلى البحث عن الأسباب التي جعلت الشباب يعبر علنًا عن رأيه الرافض لحكومة الإنقاذ
الرئيس السوداني عمر البشير صعق من كمية الاحتجاجات التي تنتاب الشارع السوداني تجاه حكومتة التي لم تترك شبرًا في البلاد إلا وعبر أهله عن رفضهم له ومطالبتهم بتنحية، مما دعا قادة حزبه إلى المساعدة في رفع الحالة المعنوية له من خلال تجمعات شعبية تأييدية ردًا على مسيرات الرفض ترفع شعارًا واحدًا وهو “تقعد بس”، بدأت مسيرات التأييد من الساحة الخضراء في الخرطوم ووصف الرئيس من خلالها الشباب الثائر بأنهم خونة ومندسون وشبكات للحركات المسلحة تسعى لتقويض أمن البلاد، داعيًا المواطنين لعدم الالتفات لهم، وزار بعدها عددًا من المدن السودانية شرقًا وغربًا وفي كل مرة يحاول أن يقلل من نسبة الاحتجاجات وعدم تأثيرها على مسيرة حكمة على البلاد مع تجديد دعوته لشعبة بعدم الالتفاف حولها.
اللافت في الأمر أن كل فئات المجتمع الصفوية المتعلمة من طلاب ودكاترة وصيادلة وقانونيين وأساتذة جامعات يقفون في الصف المناوئ للنظام، بينما يحاول النظام إنتاج قاعدة له من خلال استقلال فئات المجتمع البسيطة من غير المتعلمين وأنصاف المتعلمين لنصرته واستقبال الرئيس في زياراته وذلك بتوفير وسائل الترحيل من قراهم إلى مكان التجمع وإعادتهم مرة أخرى وهو ما وصفة كثيرون بأنه محاولة لتغبيش الحقائق وتغييب القيادة عن انحسار قواعدهم بل انعدامها.
ومع تزايد وتيرة الاحتجاجات تغيرت اللهجة الحكومية من صيغة التهديد والوعيد إلى البحث عن الأسباب التي جعلت الشباب يعبر علنًا عن رأيه الرافض لحكومة الإنقاذ، حيث لخصها الرئيس بقوله إن كل المحتجين من الشباب الذين نالوا التربية والنشأة في عهد البترول وصدمتهم السياسات الاقتصادية الأخيرة ولم يستطيعوا أن يتكيفوا معها مما دعاهم للخروج للشوارع، وهذا الحديث أيضًا أثار جدلاً كثيفًا في الشارع السياسي السوداني وفي منابر الشباب بصورة خاصة، مما يوضح حالة الارتباك الواضحة وعدم إيجاد حلول كافية للخروج من النفق المظلم الذي أدخل فية النظام نفسه.
قتلى وجرحى
احتجاجات لم تكن متوقعة من الترسالة الأمنية مما جعلها في ذهول وتهور أدى لاستعمالها العنف المفرط تجاه الشباب الثائر مما راح ضحيته أكثر من 50 شهيدًا ومئات الجرحى، وكانت التبريرات لم يقتنع الرأي العام بها وأشهرها على الإطلاق قول السيد صلاح قوش رئيس جهاز الأمن السوداني عن مقتل الدكتور الشهيد أبو بكر عبد الحميد الذي قتل وهو يعمل على إنقاذ شاب مصاب – حسب قول شهود عيان – بأن هناك فتاة شيوعية أخرجت بندقية من حقيبتها وأطلقت النار عليه، مما أثار سخط الشارع السوداني من عدم المسؤولية التي تتعامل بها الجهات الأمنية جراء التنتهاكات التي تمت ضد المحتجين.
في ظل صمود الحكومة والمحتجين، ينتظر الشارع السوداني مآل الحال في ترقب وحذر
انتصار الثورة
تبارت القيادات الحكومية في التعليق على الحالة الثورية التي عمت جميع أرجاء البلاد وكان آخرها من وزير الداخلية أحمد بلال عثمان الذي اعتبر أن المحتجين على حق ويجب الاستجابة لهم وطالب بضرورة إلغاء الإقصاء السياسي في السودان وحذر مما وصفه موجة كراهية تنتاب الشارع السوداني، مقرًا بأن جيلة من السياسين فشلوا في إدارة التنوع الثقافي والعرقي بالبلاد وأنهم فقدوا بسبب ذلك ثلث البلاد مما يحتم عليهم المحافظة على المتبقي وفقًا لتعبيره، ويعتبر حديث وزير الداخلية انتصارًا للثورة ومحفزًا للثوار بأنهم ماضون في الطريق الصحيح وأن نصرهم آت وإن طال الأجل.
وبذلك يربك استمرار الاحتجاجات في السودان لنحو شهرين السيناريوهات المتوقعة التي يمكن أن يؤول إليها المشهد السياسي، خاصة أن تجمع المهنيين السودانيين مستمر في رفض المبادرات الساعية للحلول ولم يتزحزح عن مطلبه بتنحي الرئيس عمر البشير في حين ترفض الحكومة تقديم إي تنازل، وفي ظل صمود الحكومة والمحتجين، ينتظر الشارع السوداني مآل الحال في ترقب وحذر.