سؤال من الواجب طرحه قبل البداية في هذه المادة: هل الولايات الأمريكية مدفوعة بالمخاوف الإنسانية لما تقوم به من تغيير للأنظمة الاشتراكية؟ في الوقت الذي تضم فيه أمريكا اللاتينية 42 من أكثر 50 مدينة دموية في العالم، في إحصائية أعدها مجلس المواطن للسلامة العامة والعدالة الجنائية في المكسيك معتمدًا على بيانات من منظمات دولية ووسائل إعلامية.
في العالم السابق ثنائي القطبية كانت كثير من دول أمريكا اللاتينية تدين بالولاء لروسيا الاشتراكية، والأزمة الكوبية حاضرة حيث جاءت في الحديقة الخلفية تمامًا لأمريكا، وبعد انتهاء الحرب الباردة حاولت أمريكا مرارًا وتكرارًا إدخال المسار الرأسمالي لأمريكا اللاتينية من خلال الشركات الكبرى عبر منظمة التجارة الحرة للأمريكتين.
يكشف الكاتب جون بيركنز في “القاتل الاقتصادي” جزءًا من الخطة الأمريكية في الفترة بين عامي ١٩٦٣ و١٩٧١ عبر العديد من الشركات الاقتصادية الكبرى لمحاولة إقناع الأنظمة القائمة بالقروض الدولية الضخمة التي ستعيد الأموال إلى الشركات الكبرى والعمل على إفلاس الدول اللاتينية التي تتلقى القروض، وبدأ كتابه بالإكوادور التي شهدت أول عمليات اغتيال لرئيس منتخب عارض السياسة الأمريكية.
في العام ٢٠١٦ أصدر أرنست فولف كتابه المهم “صندوق النقد الدولي… قوة عظمى في الساحة العالمية”، وقد صنفت مقدمته من أجمل المقدمات وقال فيها فولف: “هذا الكتاب هدية لبني البشر في إفريقيا وآسيا وجنوب أمريكا، الذين لا يستطيعون قراءته، لأن سياسة صندوق النقد الدولي قد حرمتهم من الالتحاق بالمدارس”.
جل الكتاب كان يتحدث عن سياسات صندوق النقد الدولي عبر القروض لتدمير دول أمريكا اللاتينية وجعلها رهينة للسياسات الأمريكية التي تفرض سيطرتها على البنك الدولي وصندوق النقد الدولي منذ إنشائها في مؤتمر برتين وودز، الذي نشأ عنه ربط العملات العالمية وتقييم النفط بالدولار الأمريكي بدل الذهب، وقد تحدث فولف كيف سعت أمريكا لإحلال القواعد النيوليبرالية الجديدة وفق مدرسة شيكاغو الاقتصادية بمراحلها الثلاثة “تحرر واستقرار وخصخصة”، ضمن ثلاثة شروط وضعها صندوق النقد الدولي للموافقة على إقراض الدول وهي “المساعدة المالية والمساعدة الفنية والمراقبة”، وقد مكنت هذه الشروط إدارة صندوق النقد الدولي من التدخل المباشر في سياسات الدول الاقتصادية والاجتماعية، فقد أصبح يحدد أين ستنفق الأموال، ويتحكم بالوزراء والحكومات وقيادات البنوك المركزية لتحقيق مصالحه، بعد إضعاف الدول اقتصاديًا.
إغراق أمريكا اللاتينية اقتصاديًا
طبق صندوق النقد الدولي سياسة التكيف الهيكلي في تشيلي إبان فترة بيونشيه، وفي الأرجنتين، وبدأت أزمة المديونية الحديثة بعد إعلان المكسيك عام ١٩٨٢ التوقف عن تسديد ديونها البالغة ٨٠ مليار دولار، ما دفع دول لاتينية أخرى للتوقف عن سداد ديونها وقد تدخل صندوق الدولي لينقذها من الإفلاس هي وبنوكها، وتدخل كوسيط بين مصادر التمويل والدول المدينة، وكان دافعه الأساسي منع النظام النقدي العالمي الذي تسيطر عليه أمريكا من الانهيار.
ومن الضروري العودة للأرجنتين في عهد “خورخي فيديلا” عام ١٩٦٧ الذي حاول تنفيذ برنامجه الاقتصادي على الأسس الليبرالية، معتقدًا أنه سيتمكن من خداع صندوق النقد الدولي، فقد ارتفعت الديون الخارجية للبلاد في عصره من ٨ مليارات إلى أكثر من ٤٣ مليار دولار، أدت في النهاية لاستقالة فيديلا، وفي عصر الرئيس الأرجنتيني الجديد “راؤول ألفونسين” أعاد صندوق النقد الدولي استخدام إستراتيجية “برنامج الصدمة” في الأرجنتين سيء السمعة الذي نفذه في تشيلي، وقد حاول ألفونسين التحايل على صندوق النقد الدولي لكنه فشل، وعانت البلاد من ركود اقتصادي مهيب هو الأكبر في تاريخ الأرجنتين الاقتصادي، وباعت فيما بعد ألفونسين 40% من الشركات المملوكة للدولة، و90% من القطاع المصرفي.
كثفت أمريكا في عهد ترامب عقوباتها الاقتصادية على فنزويلا كنهج أمريكي لتغير أنظمة الحكم
وفي عام 2001 حين أعلن أدولفو روديجت سا أن الأرجنتين دولة مفلسة، وأنها أنفقت كل احتياطاتها من النقد الأجنبي لتعاني من أكبر عملية إفلاس مرت بها أي دولة في التاريخ بعد أن تعثرت في سداد دينها البالغ قدره 132 مليار دولار، علق صندوق النقد الدولي دفعته التي كان من المفترض تسليمها في ديسمبر من نفس العام، وخسر على إثرها ٢٠٠ ألف عامل وظائفهم مرة واحدة خلال ثلاثة شهور، وانخفض الإنتاج الصناعي إلى 20% وانتشرت الأمراض ذات الصلة بالفقر وسوء التغذية وفقر الدم، وفي العام ٢٠٠٤ اعترف صندوق النقد الدولي بأن أخطاءه أغرقت الأرجنتين وأفلستها، وهكذا تحولت المعجزة الاقتصادية الأرجنتينية فترة التسعينيات إلى كابوس اقتصادي حاليّ.
ملاحظة: نرى أن تونس الدولة التي أخذت المرتبة الأولى في مؤشر الحريات على الصعيد العربي ومنطقة الشرق الأوسط تمر بنفس السياق من محاولات فرض صندوق النقد الدولي شروط الخصخصة وإعادة هيكلة الاقتصاد كشرط لتقديم القروض والمساعدات المالية لإنقاذ البلاد من أزمتها.
فنزويلا.. الفيل داخل الغرفة
تحالفت الولايات المتحدة الأمريكية كما المعتاد مع الأوليغارشية الفنزويلية للإطاحة بهوجو شافيز الرئيس الفنزيلي الذي فاز بتفويض من عمال فنزويلا، لتلبية احتياجاتهم في دولة تمتلك أكبر احتياطي نفطي مثبت عالميًا، وجاءت محاولة الانقلاب الأولى عام ٢٠٠٢ على شافيز حينما دعت أمريكا الجيش والأوليغارشية – جماعات المال والمصالح – للإطاحة بشافيز لكنهم فشلوا أمام شعبيته الكبيرة، شافيز الذي طالب شركات النفط أن تدفع حقوق ملكية أعلى للنفط الذي نهبته من فنزويلا، هذه الجرأة نفسها التي تمتع بها الرئيس الراحل صدام حسين وقبله الملك فيصل، هنا الحديث عن جدلية علاقة “النفط بالدولار”، وعن مسار الشركات متعددة الجنسيات، وعلى إثره دخلت فنزويلا حصارًا أمريكيًا، وقد كان حل الأزمة الإنسانية أولاً هناك سهل يتمثل بعدم زعزعة استقرار فنزويلا وتركها تدير إيراداتها الخارجية ورفع الحصار لتكون قادرة على استيراد السلع واستخدام الموارد لإحلال التنوع الاقتصادي، لكن هذا ما لا تريده الولايات المتحدة الأمريكية التي تسيطر على العالم من خلال سياساتها الرأسمالية التي بنت عليها مشروع مارشال، ومن خلال سيطرتها على الدولار الذي يتحكم بمسار النفط.
رغم أن المسار الديمقراطي لنيكولاس مادورو لم ينته، وإن اتهمته العديد من الدول بتزوير الانتخابات الأخيرة التي فاز فيها بولاية رئاسية ثانية، فإن أمريكا ومعها دول الاتحاد الأوروبي رأت انعدام الديمقراطية مطلقًا في كثير من دول الشرق الأوسط وتصدر ديكتاتوريات على حكم البلاد ولم تحرك ساكنًا
وقد كثفت أمريكا في عهد ترامب عقوباتها الاقتصادية على فنزويلا كنهج أمريكي لتغير أنظمة الحكم، فقد زادت عقوباتها في أغسطس ٢٠١٧ على فنزويلا طالت السندات الفنزويلية وقال البيت الأبيض “هذه الإجراءات درست بعناية لحرمان نظام الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو من مصدر تمويل مهم للحفاظ على حكمه غير الشرعي وحماية النظام المالي للولايات المتحدة من التواطؤ في الفساد في فنزويلا، ولن نقف مكتوفي الأيدي ونحن نرى فنزويلا تنهار”.
وعودة إلي السياق لقد أعلنت الأرجنتين إفلاسها، وأعلنت المكسيك عجزها عن سداد الديون وكانت أمريكا ترى هذا الانهيار أمام عيونها، ثم مررت سياسات صندوق النقد الدولي، كما زادت واشنطن دفعة جديدة من العقوبات في مايو ٢٠١٨ على فنزويلا وحظرت واشنطن شراء أي من أدوات الدين التي أصدرتها الحكومة الفنزويلية، بما في ذلك الحسابات التي تتصل مباشرة بالنفط.
ورغم أن المسار الديمقراطي لنيكولاس مادورو لم ينته، وإن اتهمته العديد من الدول بتزوير الانتخابات الأخيرة التي فاز فيها بولاية رئاسية ثانية، فإن أمريكا ومعها دول الاتحاد الأوروبي رأت انعدام الديمقراطية مطلقًا في كثير من دول الشرق الأوسط وتصدر دكتاتوريات تنتهك حقوق الإنسان على حكم البلاد ولم تحرك ساكنًا.
سارعت ٥٠ دولة تدور في الفلك الأمريكي مباشرة للاعتراف بـ”خوان غوايدو” – ٣٥ عامًا – زعيم المعارضة رئيسًا للبلاد لإحداث انقلاب ناعم هناك يغير نظام الحكم تمامًا، ثم بدأت أمريكا بضخ المساعدات إلى فنزويلا التي تكدست بالأطنان على مقربة من حدود كولمبيا مع فنزويلا، تحت إطار التدخل لإنقاذ حياة الناس.
يرجعنا هذا إلى الفرضية الأساسية في المقال: هل فعلاً المساعدات الأمريكية مليئة بالمخاوف الإنسانية؟ يقول هنا مادورو: “لقد سرقت أمريكا 30 مليار دولار منا ويعرضون الآن كسرات على شكل مساعدات من الأغذية العفنة”، إذًا المساعدة الأمريكية مشروطة تمامًا بشكل النظام السياسي ومواءمته للسياسة الأمريكية وليس بإنسانية وعالمية هذه المساعدات وارتباطها بالإنسان أولاً.
ومع أن واشنطن زادت عقوباتها قبل يومين ١٥-٢-٢٠١٩ على خمسة مسؤولين مقربين من مادورو، ورحب زعيم المعارضة جوان بالعقوبات الجديدة، ووصف بعدها مادورو الوضع بأنه حرب “الأوليغارشية” وهم المتعطشون لرأسملة النظام والشركات لتحقيق أعلى ثراء مقابل إهلاك الطبقات الوسطى والفقيرة، وقد استهدفت العقوبات الجديدة شخصيات مرتبطة بشركة النفط الحكومية “بيديفيسا” ومسؤولين من الاستخبارات والأمن، وقد رحب غوايدو بها.
رغم أن سياسة التدمير الاقتصادي كانت هدفًا أمريكيًا تجاه أمريكا اللاتينية فإنها في نفس السياق تريد إعادة هندسة الأنظمة هناك سياسيًا واقتصاديًا
يتحدث غوايدو زعيم المعارضة أن ٣٠٠ ألف شخص قد يموتون ما لم تصل المساعدات الأمريكية، في حين أن سبب الأزمة العقوبات – الحصار الأمريكي – على فنزويلا أمام صادرات نفطها التي تمثل المورد الأساسي للبلاد، إذًا لقد حان الوقت لتغيير النظام وإخضاع أكبر مورد للنفط في العالم إلى سياسات صندوق النقد الدولي.
ربط الاقتصادي بالسياسي.. البرازيل نموذجًا
رغم أن سياسة التدمير الاقتصادي كانت هدفًا أمريكيًا تجاه أمريكا اللاتينية فإنها في نفس السياق تريد إعادة هندسة الأنظمة هناك سياسيًا واقتصاديًا، يمكن قراءة هذا السياق من خلال تهديد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الدول التي تتلقى المساعدات الأمريكية إذا صوتت في الأمم المتحدة ضد قرار اعتبار القدس عاصمة للاحتلال الإسرائيلي، يكشفه ذلك استجابة غواتيمالا مباشرة لنقل سفارتها إلى القدس، لكن الدخول للساحة اللاتينية عبر إعادة هندسة الأنظمة وتصعيد اليمين على حساب اليسار كان هدفًا إستراتيجيًا تسعى إليه أمريكا ويستفيد منه الاحتلال الإسرائيلي، في ساحة تعتبر بكرًا بالموارد الطبيعية.
سياسيًا في عام ٢٠١٤ وصفت الرئيسة البرازيلية ديلما روسيف الحرب على قطاع غزة بأنها مجزرة وسحبت سفيرها من تل أبيب، وقد اشتاط الاحتلال غضبًا وكان هذا موقف غالبية دول أمريكا اللاتينية التي تمثل ثقلاً مهمًا في الأمم المتحدة لصالح فلسطين، وقد وصف المتحدث باسم الخارجية الإسرائيلية وقتها تصريح روسيف قائلاً: “إنه تجسيد مؤسف للسبب الذي يجعل البرازيل العملاق الاقتصادي والثقافي أن تبقى قزمًا دبلوماسيًا”.
ثم ركز الاحتلال الإسرائيلي جهده مع أمريكا للوصول إلى الساحة اللاتينية، وكانت زيارة بنيامين نتيناهو رئيس حكومة الاحتلال هي الأولى في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي للبرازيل بعد فوز الرئيس الجديد خاير بولسونارو اليميني المتطرف أمام خسارة اليسار الاشتراكي، وقد توعد الأخير بإغلاق السفارة الفلسطينية في البرازيل وفتح سفارة بلاده في القدس.
قتل الدول اقتصاديًا من خلال العقوبات الاقتصادية والحصار وإخضاعها بعد الإفلاس لسياسات الصندوق الدولي والنيوليبرالية الجديدة هو طريق ذو نفس طويل لكنه أقل تكلفة من الحرب مثلما حدث في العراق بعد فشل سنوات الحصار
لكن الحديث كان اقتصاديًا تقنيًا بامتياز، مع الأخذ بعين الاعتبار أن بولسونارو هو إنجيلي متدين ينتمي إلى تيار يدعم الاحتلال الإسرائيلي من منطلقات دينية، وركز حديثه مع نتنياهو الذي حظر حفل تنصيبه على مشاريع مختلفة متعلقة بالتكنولوجيا والزراعة ومصايد الأسماك والأمن والتقانة العسكرية، وهي مشاريع يبرع فيها الاحتلال الإسرائيلي وتحتاجها البرازيل في المستقبل لتكون موردًا أساسيًا لأمريكا اللاتينية، وهنا ينجح الاحتلال الإسرائيلي في تعزيز العلاقات الدبلوماسية أولاً ثم إنشاء مركزًا موزعًا لتقانته هناك، ولا ننسى زيارة نتنياهو للهند أيضًا كمركز جديد في شرق آسيا.
خلاصة القول إن قتل الدول اقتصاديًا من خلال العقوبات الاقتصادية والحصار وإخضاعها بعد الإفلاس لسياسات الصندوق الدولي والنيوليبرالية الجديدة هو طريق ذو نفس طويل لكنه أقل تكلفة من الحرب مثلما حدث في العراق بعد فشل سنوات الحصار، وتهدف هذه السياسة أساسًا لإعادة هندسة أنظمة الحكم وفق الرؤية الأمريكية وليس وفق معايير الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولا مبرر آخر للتناقض الأمريكي الغربي في التعامل مع أسس الديمقراطية العالمية وحقوق الإنسان التي تختلف من دولة لدولة، والشرق الأوسط بعد الربيع العربي أكبر دليل.