في الوقت الذي كانت تستعد فيه كل من ماليزيا وإندونيسيا لاستقبال ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، خلال جولته الآسيوية المقرر أن يستهلها اليوم بباكستان رغم تأجيلها يوم واحد، وتشمل الصين والهند، إلا أنه وفي قرار مفاجئ تم تأجيل الزيارة لأسباب غير معلومة حتى الآن.
رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد أشار إلى أنه تم إبلاغ حكومته بتأجيل زيارة ابن سلمان، دون ذكر سبب للتأجيل، وذلك وفقًا لوكالة الأنباء الماليزية الرسمية “برناما”، مضيفًا في تصريحات للصحفيين: “لا أعرف السبب، فقط أخبرني أنه لن يأتي، هذه هي المعلومات فقط التي أعرفها”.
أما عن سبب التأجيل فأفاد وزير الخارجية سيف الدين عبد الله، بأن الحكومة السعودية لم تذكر سبب تأجيل زيارة ولي العهد السعودي، مضيفًا أن وزير الشؤون الخارجية السعودي عادل الجبير أخبره عن تأجيل الزيارة، وأوضح: “أخبرني الجبير أن ولي العهد أعرب عن أسفه لأنه لا يستطيع المجيء (إلى هنا)، وعادة في الشؤون الدبلوماسية لا نسأله السبب (التأجيل)، لأن التفاهم متبادل (بين البلدين)…طبعًا، هناك أسباب معينة في تأجيل الزيارة”.
وفي الإطار ذاته أعلنت الخارجية الإندونيسية وعبر بيان لها تأجيل الزيارة، موضحة أن “السعودية وإندونيسيا تتواصلان لتحديد موعد جديد للزيارة ولتحقيق نتائج أفضل”، كاشفة أنه حتى الآن لم يتم تحديد مواعيد للجدولة الجديدة بشأن تلك الزيارة.
الاضطراب الذي شاب جولة ولي العهد الآسيوية والإلغاء المفاجئ لمحطتي ماليزيا وإندويسيا على وجه الخصوص مع استمراره في جولته لباكستان والهند والصين أثار الكثير من التساؤلات عن الأسباب الحقيقية وراء هذا القرار الذي لم يكن متوقعًا من المسؤولين في الدولتين، لاسيما وأنه جاء قبل موعد الزيارة بساعات قليلة.
ما الهدف من الزيارة؟
تأتي الزيارة في وقت يشتد فيه الخناق على ابن سلمان لتورطه في مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي أكتوبر الماضي داخل مقر قنصلية بلاده في إسطنبول، الأمر الذي جعله هدفًا للعديد من سهام النقد والتنديد الحقوقي والدولي، عززتها الإدانات الضارية التي تتعرض لها بلاده بسبب الانتهاكات الممارسة في اليمن.
بعض برلمانات العالم طالبت حكوماتها بإعادة النظر في علاقاتها مع المملكة وتقييم مستقبل تلك العلاقة في ظل التقارير الأممية التي تشين سياسات الرياض الإقليمية خلال السنوات الأخيرة، هذا بخلاف مطالبة بعض المسؤولين في دول الغرب على رأسها أمريكا بإدانة ولي العهد كونة متورطًا في جريمة خاشقجي، الأمر الذي ربما يضع مستقبله السياسي على المحك.
قرار التأجيل جاء بعد ساعات قليلة من إعلان عدد من المنظمات الحقوقية والإنسانية عزمها تنظيم مظاهرات واحتجاجات شعبية واسعة النطاق في مناطق عدة بالعاصمة الإدارية الماليزية بوتراجايا
وأمام تلك الوضعية لم يجد الأمير الشاب بدًا من محاولة غسل سمعته وتجميل صورته بشكل أو بآخر، فكانت الجولة الأولى له التي شملت مصر وتونس والإمارات والبحرين ومنها إلى قمة العشرين بالأرجنتين، ثم تأتي الجولة الآسيوية الحاليّة استكمالاـ لهذا الحراك الذي يهدف إلى استعادة جزء من شعبية الرجل المفقودة والمهزوزة منذ أكتوبر الماضي.
وفي ضوء تلك الوضعية كان لا بد من الإعداد الجيد للزيارة بما يحقق الهدف المراد منها، حيث تصدير صورة تعكس شعبية الأمير في تلك الدول المشمولة بالجولة، عبر عدد من الأدوات، على رأسها الاستقبال الحافل والفخامة في الترحيب والتغطية الإعلامية القوية، كل هذا مقابل استثمارات من المقرر أن يضخها في كل دولة يحط فيها.. لكن ما الذي حدث ليضطر ابن سلمان تأجيل محطتي إندونيسيا وماليزيا على وجه التحديد؟
تنديد حقوقي دولي بتورط ابن سلمان في مقتل خاشقجي
الاحتجاجات الشعبية
أفادت بعض المصادر أن قرار التأجيل جاء بعد ساعات قليلة من إعلان عدد من المنظمات الحقوقية والإنسانية عزمها تنظيم مظاهرات واحتجاجات شعبية واسعة النطاق في مناطق عدة بالعاصمة الإدارية الماليزية بوتراجايا بالتزامن مع زيارة ولي العهد، حسبما أفاد مراسل “الجزيرة” في ماليزيا.
الحشد للقيام بتظاهرات منددة بزيارة ابن سلمان تأتي في إطار اتهام المنظمات الحقوقية الماليزية له بالمسؤولية عن خروق واسعة لحقوق الإنسان في بلاده والتطبيع مع “إسرائيل” واغتيال جمال خاشقجي، وكان مهاتير محمد رئيس الوزراء الحاليّ قد اعتبر مقتل الصحفي السعودي عملاً وحشيًا غير مقبول.
افتضح الدور السعودي في هذه القضية التي ألقت بظلالها على الشارع الماليزي بصورة أثرت بشكل كبير على موقف الماليزيين من المملكة، خاصة بعدما تم الكشف عن الهدايا والمنح والمعونات التي تلقاها عبد الرزاق من السعودية طيلة مدة حكمه
تشاندرا مظفر مؤسس “حركة العدل العالمي” الحقوقية الماليزية قال في تصريحات صحفية له إن هناك في ماليزيا حساسية كبيرة تجاه دور السعودية والإمارات في قضايا الفساد، خاصة فضيحة اختلاس مليارات الدولارات من الصندوق السيادي الماليزي، مشيرًا لأسباب أخرى لحرج الساسة الماليزيين من زيارة ابن سلمان أمام قواعدهم الشعبية بسبب سياساته الخارجية الخاطئة بينها تدخله لزعزعة استقرار لبنان وحصار قطر.
خشية الأمير السعودي من تحويل زيارته لماليزيا وإندونيسيا إلى منصات للهجوم عليه والتنديد بسياساته والتذكير بجرائمه في ظل عدم التيقن بصورة كاملة من إمكانية سيطرة السلطات في البلدين على حراك الشارع يبدو أنه الهدف الرئيسي وراء إلغاء تلك الزيارة بتلك الصورة المفاجئة، الأمر الذي يعيد إلى الأضواء مرة أخرى طبيعة العلاقات بين الرياض وتلك الدول لا سيما كولالمبور التي تشهد حالة من التوتر خاصة بعد الإطاحة برجل السعودية الأول هناك نجيب عبد الرزاق في الانتخابات الأخيرة التي فاز فيها المخضرم مهاتير محمد.
رئيس وزراء ماليزيا السابق والعاهل السعودي
العلاقات السعودية الماليزية الإندويسية إلى أين؟
منذ انتخابه رئيسًا للوزراء فتح مهاتير محمد، النار على إمبراطورية الفساد التي كان يحرسها رئيس الحكومة السابق الموالي للرياض وأبو ظبي، عبد الرزاق، فالبداية المبكرة للرجل في معركته مع الفساد نجح في الكشف عن واحدة من أكبر قضايا الفساد في تاريخ بلاده.
الفضيحة كان بطلها رئيس الوزراء السابق حيث تم مصادرة أموال ومقتنيات ثمينة قيمتها 273 مليون دولار، بينها مبالغ نقدية من 26 عملة قدرت بـ28,8 مليون دولار، و12 ألف قطعة مجوهرات بينها عقد قيمته 1,5 مليون دولار، ومئات حقائب اليد الفاخرة، وأكثر من 400 ساعة تقدر قيمتها بـ19,3 مليون دولار.
وبعد التحقيق افتضح الدور السعودي في هذه القضية التي ألقت بظلالها على الشارع الماليزي بصورة أثرت بشكل كبير على موقف الماليزيين من المملكة، خاصة بعدما تم الكشف عن الهدايا والمنح والمعونات التي تلقاها عبد الرزاق من السعودية طيلة مدة حكمه، وهي التي بلا شك لم تكن من باب الزكاة أو الكرم، إذ لا بد من مقابل كان ينتظر أن يدفع.
مارست المملكة وحلفاؤها العديد من الضغوط على ماليزيا لجرها نحو معسكر دول الحصار ضد قطر في الأزمة الخليجية التي اندلعت في يونيو/حزيران 2017
لم تكن السعودية وحدها المتورطة في تلك الفضيحة، إذ كشفت التحقيقات عن ضلوع أبو ظبي كذلك، عن طريق سفيرها في الولايات المتحدة، يوسف العتيبة، الذي كشف في يونيو/حزيران من عام 2017، أنه متورط في قضية صندوق (1MDB.) الحكومي، فقد بينت رسائل إيميل مسربة وجود علاقة وثيقة بين العتيبة والممول الماليزي المثير للجدل (جو لو) البالغ من العمر 27 عامًا، الذي ساعد عبد الرزاق في إدارة الصندوق الماليزي الحكومي.
الباحث في شؤون العالم العربي والإسلامي صلاح القادري، أشار إلى أن السعودية مع الإمارات تتفقان في وجوب لعب دور أساسي في ماليزيا لمحاصرتها كقوة من الممكن أن ترفض الهيمنة الغربية أو تتبنى ثورات الشعوب العربية وتطلعاتها، فالرياض في المجمل تتبني عملية التصدي لأي تجربة إسلامية تخالف توجهاتها الوهابية.
وأضاف الباحث أن السعودية تهدف جراء إسقاط النموذج الماليزي منع أمران: “الأول أنه أصبح ملهمًا للإسلاميين الذين نادوا بتطبيقه في بلادهم، ومنهم الإسلاميون في مصر عندما وصلوا للحكم، والثاني أن هناك في ماليزيا من سعى لإلحاق بلادهم بمشروع حضاري يضم عددًا من القوى الإسلامية والعربية الصاعدة منها وتركيا وباكستان وقطر ودول أخرى، وهذا يشكل خطرًا على نفوذ السعودية”.
احتجاجات في باكستان رافضة لزيارة ولي العهد السعودي
توتر العلاقات بين الرياض وكولالمبور لم يتوقف عند حاجز التورط في قضايا فساد فحسب، إذ مارست المملكة وحلفاؤها العديد من الضغوط على ماليزيا لجرها نحو معسكر دول الحصار ضد قطر في الأزمة الخليجية التي اندلعت في يونيو/حزيران 2017، وهو ما كشف عنه تقرير عن معهد الشرق الأوسط.
التقرير أفاد إلى أن دولاً آسيوية على غرار ماليزيا تشعر بالقلق من الضغوط التي تتعرض لها من دول الحصار لقطع العلاقات مع قطر و هو الضغط المقلق والمعقد للعلاقات الإقليمية في المنطقة، وتنظر بتخوف من تواصل الأزمة الخليجية في المستقبل، موضحًا حفاظ كولالمبور بشكل تقليدي على علاقات قوية مع كل دول الخليج العربية، وحرصها على البقاء محايدة في الأزمة، فضلاً عن دعمها للجهود الكويتية التي قام بها سمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح لحل النزاع.
رغم القيود والإجراءات الأمنية التي فرضتها السلطات الباكستانية، خرجت مظاهرات تندد بزيارة ابن سلمان الذي اعتبره المتظاهرون شخصًا غير مرحب به
كما كانت ماليزيا واحدة من المحطات التي شملتها الجولة الآسيوية لأمير قطر في خريف 2017 حيث تم توقيع عدد من مذكرات التفاهم الثنائية في مجالات مثل التعاون القانوني والدبلوماسي والتعليم، ما أغضب الرياض بصورة كبيرة، الأمر الذي انعكس بدوره على العلاقات بين البلدين.
الأمر لم يختلف كثيرًا بالنسبة للعلاقات مع إندونيسيا، فرغم العلاقات القوية التي تربط بين نظامي الحكم في الرياض وجاكرتا، فإن سادية تعامل السعوديين مع الجالية الإندويسية في المملكة تسبب في إحداث شروخ قوية في العلاقات بين الشعبين، وهو ما تعزز بصورة كبيرة عقب إعدام الخادمة الإندونيسية، توتي تورسيلاواتي، أكتوبر الماضي بتهمة قتل مشغلها الذي تقول منظمة للدفاع عن حقوق العمال في إندونيسيا إنه كان يحاول اغتصابها.
ويستهل ولي العهد اليوم جولته الآسيوية المضطربة بزيارة إسلام أباد، ورغم القيود والإجراءات الأمنية التي فرضتها السلطات الباكستانية، خرجت مظاهرات تندد بزيارة ابن سلمان الذي اعتبره المتظاهرون شخصًا غير مرحب به، الأمر الذي ربما يتكرر في محطاته القادمة سواء في الهند أم الصين، ما يضع دوافع جولته في مهب الريح.