تصعِّد الجماعات الاستيطانية من دعواتها وحملاتها لإعادة الاستيطان في قطاع غزة، خاصة في منطقة محور نيتساريم، تصعيدًا تزداد وتيرته بالتوازي مع توسيع القوات العسكرية الإسرائيلية هجماتها على الأرض، ودفع أعداد كبيرة من أهالي القطاع إلى النزوح من منازلهم وتدمير البنى والأحياء القائمة، بهدف القضاء على أي معالم جغرافية وديموغرافية متبقية، وهو ما تجد فيه الحركات الاستيطانية ظروفًا مثالية لتحقيق مشاريعها الاستيطانية.
لكن هذا الأمل الذي تترقّبه الجماعات الاستيطانية، جنبًا إلى جنب مع السياسيين في أحزاب اليمين الصهيوني، لا يتماشى مع التطورات الميدانية في المحور الذي يقبع بين جنوب وشمال القطاع، إذ إن الصورة الأمنية معقدة ومختلفة عمّا تخيله رواد الاستيطان، وما خطط له جيش الاحتلال، الذي بات مشغولًا بعمليات دفاعية يومية بفعل ضربات المقاومة.
كيف تبني شبكة استيطانية من القاع إلى القمة؟
الجماعات الاستيطانية، خاصة جماعة نحالا، تواصل تنظيم المؤتمرات والفعاليات الاستيطانية منذ ديسمبر/ كانون الأول 2023، حيث بدأت في القدس المحتلة وآخرها في أكتوبر/ تشرين الأول 2024، في الموقع المطل على محور نيتساريم.
عكفت جماعة نحالا، التي تحظى بدعم سياسي من أحزاب اليمين الديني مثل عوتسما يهوديت والصهيونية الدينية، بالإضافة إلى حزب الليكود كبير الأحزاب اليمينية ورأس الحكومة الإسرائيلية، على اتخاذ خطوات متتالية بدأت بتسجيل 700 مستوطن محتمل للاستيطان في قطاع غزة، وصولًا إلى إجراء تدريبات عملية لإنشاء بؤر استيطانية “عشوائية” في مناطق الاستهداف.
هذه الخطوات التراكمية تتزامن مع التجربة الاستيطانية التقليدية في الضفة الغربية، حيث تحاول الجماعة الاستفادة من الخبرات السابقة في إقامة بؤر استيطانية وتوسيعها، ثم تثبيتها كواقع دائم.
في 3 مارس/ آذار 2024، نظّمت مجموعات من المستوطنين ما أسموه بـ”مسيرة العودة إلى غزة”، والتي شهدت تجمع مئات المتظاهرين عند معبر إيرز على حدود قطاع غزة، وحاول بعضهم عبور الحدود، إلا أن الجيش الإسرائيلي تصدى لهم. في أثناء هذه الاحتجاجات، تمكن 9 متظاهرين من اختراق الحدود والوصول إلى عمق 500 متر داخل القطاع، قبل أن يقبض الجيش عليهم ويسلّمهم إلى الشرطة.
تمثل هذه المحاولات الجماعية التي تتبناها حركة نحالا نهجًا يعتمد على فكرة “الاستيطان من الأسفل”، حيث تقوم الحركة غير الحكومية بدور أساسي في عملية التوسع الاستيطاني، يبدأ من خلال إقامة بؤر استيطانية ونشرها على الأراضي المستهدفة، ثم يأتي دور الحكومة لاحقًا لتسوية الوضع القانوني لهذه البؤر عبر تشريعات تدعم وجودها ونموها.
ورغم الدور الحكومي الأساسي في تسوية وضعية هذه البؤر ومستوطنيها من الناحية القانونية والمدنية، إلا أن الحركة تقدم نفسها وأنشطتها في إطار نضالي ضد الحكومة والجيش والإدارة المدنية، أي الأجهزة التي تزعم أنها تعرقل أهدافها التوسعية.
وحتى اليوم، ساهمت نحالا في إنشاء نحو 50 بؤرة استيطانية في الضفة الغربية، وتعتبر أن إخلاء مستوطنات قطاع غزة وشمالي الضفة الغربية كان بمثابة صدمة وضربة للسردية الصهيونية، وانتكاسة كبرى لمشروعها الاستيطاني.
تأسست حركة نحالا في عام 2005، بعد انسحاب “إسرائيل” من قطاع غزة وتطبيق خطة “فك الارتباط”، والتي أدّت إلى تفكيك المستوطنات هناك. أسّسها كل من موشيه ليفنجر (1935-2015) ودانييلا فايس (1945-)، حيث يُعتبر ليفنجر من أبرز الشخصيات في حركة الاستيطان في الخليل والضفة الغربية بعد حرب 1967، وكان أيضًا من المساهمين الرئيسيين في تأسيس غوش إيمونيم، وهي حركة استيطانية صهيونية دينية ظهرت في أوائل السبعينيات، أما دانييلا فايس، فهي التي تقود حركة نحالا حاليًا، ويشارك في النشاطات أيضًا حفيد ليفنجر.
تعود تسمية حركة نحالا إلى برنامج ناحال الاستيطاني الذي أطلقته دولة الاحتلال الإسرائيلي في صيف 1948، وكان عبارة عن مبادرة شبه عسكرية تجمع بين الخدمة العسكرية وتأسيس مستوطنات يهودية زراعية في المناطق النائية والحدودية، ويعدّ أحد الأساليب التي استخدمتها “إسرائيل” لتوطين اليهود في أراضٍ جديدة وتثبيت وجودهم فيها.
كانت تلك المستوطنات تتّصف بكونها تجمعات زراعية وعسكرية في آن واحد، تنطلق في تركيبتها من فكرة ديفيد بن غوريون المزدوجة والمتمثلة في التدريب القتالي والعمل الزراعي، حيث تم إرسال مجموعات من الجنود الشباب إلى المناطق الحدودية والمناطق الاستراتيجية لإنشاء نقاط استيطانية تعمل كحواجز أمنية ضد التهديدات الخارجية، وإلى جانب تدريبهم العسكري كان هؤلاء الجنود يمارسون الزراعة.
الهدف الأساسي من تلك المستوطنات كان تعزيز السيطرة على الأراضي الحساسة وتوفير وجود أمني دائم في المناطق الحدودية، بالإضافة إلى إرساء حضور مدني في المناطق النائية، وهو ما ساعد في ترسيخ السيادة الإسرائيلية، وبعد أن كانت هذه المستوطنات تحت الإدارة العسكرية، كان يتم تسليمها في مرحلة لاحقة للمستوطنين المدنيين.
حتى يونيو/ حزيران 1967، كانت الحدود بين “إسرائيل” والدول المجاورة عبارة عن خطوط هدنة، باستثناء الفترة القصيرة بين العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 والانسحاب الإسرائيلي الأول من سيناء، فخلال الأشهر الأربعة التي تلت العدوان الثلاثي، سارع الجيش الإسرائيلي إلى إقامة مستوطنتَين صغيرتَين في المناطق الواقعة على الحدود مع مصر، وهما “ناحال ترشيش” في شرم الشيخ و”ناحال رفح”.
ومع ذلك، تمّ تفكيك هاتين المستوطنتين لاحقًا بعد انسحاب” إسرائيل” من سيناء بموجب اتفاقات السلام، حيث لم تعد تعتبر تلك المستوطنات جزءًا من الحدود الإسرائيلية المستدامة، وكانت هذه الخطوة تجسيدًا واضحًا لطبيعة ناحال كوحدة عسكرية، فهي أشبه بوحدات قتالية أو دعم لوجستي تحرك وفقًا للأوامر في المناطق الحدودية والحساسة، وتنشأ وتفكَّك بناءً على التوجيهات العسكرية وتغيرات الوضع الأمني.
مثال على ذلك هو إقامة مستوطنات “ناحال” في قطاع غزة والمناطق المحيطة قبل حرب 1956، والتي تطورت لاحقًا إلى كيبوتسات، منها “ناحال عوز”، و”كفار عزة”، و”نير عوز”، و”كيرم شالوم”، و”تسيئليم”، بالإضافة إلى مستوطنة “ناحال قطيف” التي كانت أولى المستوطنات في قطاع غزة.
وحين لم يعد هناك حاجة رسمية لاستمرار برنامج “ناحال” كبرنامج استيطاني عسكري، تم إيقافه، وأصبحت المستوطنات العسكرية ضمن هذا البرنامج جزءًا من التاريخ، لكن إرث البرنامج بقي محفوظًا في رمز “المنجل والسيف”، الذي يشير إلى الجمع بين الزراعة والقتال، والذي لا يزال مرتبطًا باللواء العسكري ناحال الذي يحمل الاسم نفسه، والذي يعمل اليوم كقوة مشاة في الجيش الإسرائيلي.
نيتساريم: ذاكرة الاستيطان في غزة
منذ بدء الغزو البري الإسرائيلي لقطاع غزة، أعطى الجيش أهمية استراتيجية للسيطرة على المناطق الواقعة بين المغراقة جنوبًا وحي الشيخ عجلين شمالًا، مرورًا بجحر الديك ومشارف حي الزيتون شرقًا، والتي كانت تتوسطها مستوطنة “نيتساريم”، التي تفكّكت في الانسحاب الأحادي من القطاع عام 2005.
السيطرة على محور نيتساريم مثّلت خطوة رئيسية في تقسيم شمال القطاع عن جنوبه، وقطعت الطريقَين الرئيسيَّين، شارع صلاح الدين وشارع الرشيد، ما مكّن الجيش الإسرائيلي من تثبيت نقاط انطلاق تمكّن القوات من التقدم نحو المناطق الغربية من غزة، وشملت المرحلة الأولى للعمليات محاولة الوصول إلى منطقة الرمال ومجمع الشفاء الطبي.
في أواخر فبراير/ شباط المنصرم، كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” نقلًا عن مسؤولين عسكريين قولهم إن جيش الاحتلال يعمل على توسيع طريق وسط قطاع غزة، في إطار تسهيل العملية العسكرية وتأمين حاجز عسكري يمنع عودة ما يقرب من مليون نازح فلسطيني.
أكدت “القناة 14” العبرية هذا الإجراء، مشيرة إلى إنشاء طريق معبّد يعبر القطاع من شرقه إلى غربه، بهدف فصل شماله عن بقية المناطق، ووفقًا للقناة ذاتها فإن الطريق الجديد، المعروف باسم “794”، يمتد من مستوطنة “ناحال عوز” الواقعة ضمن منطقة غلاف غزة، ويمتدّ غربًا إلى مشارف البحر المتوسط، قاطعًا القطاع إلى قسمَين ومساهمًا في إنشاء منطقة عازلة تمنع حرية الحركة بين شمال القطاع وجنوبه.
يتخذ جيش الاحتلال الإسرائيلي تمركزه في محور نيتساريم كأحد النماذج التي تلهم وتثير اهتمام داعمي الاستيطان، ويستخدم هذا التمركز كرمز للتوسع المستقبلي المحتمل، خاصة لدى النشطاء الاستيطانيين المتحمسين لهذه الفكرة، وكذلك أولئك المترددين في دعم مثل هذه التحركات.
صرّحت دانييلا فايس، القيادية البارزة في الحركة الاستيطانية، لموقع “زمن إسرائيل”، بأن الهدف المستقبلي يتمثل في إقامة مستوطنات على طول الحدود مع غزة، مشيرة إلى طموحات بتأسيس مستوطنات في داخل القطاع، عبر الاستفادة من المخيمات العسكرية، على غرار ما جرى في الضفة الغربية.
مع الانتهاء من مرحلتَي التوغل الأولى والثانية لجيش الاحتلال الإسرائيلي داخل قطاع غزة، التي تضمّنت انسحابه من معظم المناطق والتوجه إلى أسلوب العمليات الخاطفة أو المركزة، بات محور نيتساريم يمثل المنطقة الرئيسية التي يحتفظ فيها جيش الاحتلال بوجود ميداني دائم في القطاع. ونتيجة لذلك، تعرّض هذا المحور لاستهداف متواصل من قبل المقاومة، بهدف رفع تكلفة بقاء الاحتلال في هذه المنطقة عبر استهداف الجنود والبنى العسكرية.
إزاء هذا الواقع، تبنى جيش الاحتلال تكتيكات “الدفاع المتحرك”، محاولًا تعزيز العمق الأمني لمحور نيتساريم من خلال التوسع نحو المناطق المحيطة كأحياء تل الهوا والزيتون شمالًا، والمناطق المجاورة شمال شرق البريج وشمال النصيرات جنوبًا، وساعيًا إلى تقليص خطر المقاومة، التي تواصل شن هجمات من عدة جهات.
لكن رغم أن التوغل في محور نيتساريم كان يفترض أن يُستخدم كنقطة انطلاق للعمليات الهجومية، إلا أن واقع الاستنزاف الذي فرضته المقاومة جعل قوات الاحتلال منخرطة في عمليات دفاعية يومية وعمليات تأمين وقائية، ما أدّى إلى استنزاف قدر كبير من القوات في مهام دفاعية بدلًا من تحقيق أهداف هجومية أوسع.
يعود ذلك أيضًا إلى أن مستوطنة “نيتساريم” التي تأسّست في عام 1977 على أطراف قطاع غزة، تتوسط أحياء ذات كثافة سكانية عالية، ما جعل تأمينها وحمايتها مهمة صعبة للجيش الإسرائيلي، فالمستوطنة كانت تمتد على مساحة تقدَّر بألفين و325 دونمًا، لكن السيطرة عليها وتأمينها تطلبت منطقة أكبر بكثير، وصلت إلى حوالي 4 آلاف و300 دونم.
معركة الاستنزاف وثمن البقاء
أفاد المراسل العسكري لصحيفة “معاريف”، آفي أشكنازي، في تقريره بالتحديات الميدانية التي يواجهها الجيش الإسرائيلي ضمن عملياته في غزة، خاصة في منطقة محور نيتساريم، ويشير إلى استراتيجية “الدفاع الهجومي” التي يعتمدها الجيش، حيث يحاول توسيع المنطقة العازلة لتقليل الاحتكاك المباشر مع المقاومين وإبعادهم عن المحور.
يضيف التقرير أن 3 كتائب تابعة للواء 252 هي المسؤولة عن هذا المحور، ويرى أشكنازي أن هذا الوضع يمثل معضلة حقيقية لقوات الاحتلال، إذ بات الجيش عالقًا في ما يصفه بـ”الوحل الغزي”، ما يتطلب تحركات دفاعية وهجومية متواصلة للحفاظ على السيطرة ومنع الهجمات المتكررة.
ويذكر تقرير “معاريف” بأن المقاومة الفلسطينية تتبنّى تكتيكات حرب العصابات داخل محور نيتساريم، حيث تستخدم خلايا صغيرة لزرع عبوات ناسفة أو قنص الجنود وإطلاق صواريخ مضادة للدروع نحو الآليات الإسرائيلية.
ويرى المراسل العسكري أشكنازي أن استمرار هذه الاستراتيجية الدفاعية وتواجُد القوات الإسرائيلية في المحور، قد يضع الجيش في مواجهة حرب استنزاف طويلة الأمد، تعني في مجملها الغرق في “وحل الشتاء في غزة ولبنان”، وأوضح أن حل هذه الإشكالية يتطلب من الحكومة الإسرائيلية التفكير في خيارات لخفض التوترات، ربما عبر التوصل إلى تسوية سياسية أو إغلاق بعض الجبهات المفتوحة، لتجنُّب الوقوع في معارك استنزاف متعددة ومكلفة.
تستعرض تقديرات جيش الاحتلال الإسرائيلي في محور نيتساريم، التي وُضعت عند تدشينه، فترة استنزاف تتراوح بين 5 أشهر وسنة، اعتقادًا بأن هذا الوقت سيؤدي إلى إضعاف قدرات المقاومة التسليحية، وهو ما يعني منع المقاومة من تشكيل أي تهديد مباشر على القوات الإسرائيلية داخل المحور، وتضمّنت خطط الجيش تنفيذ عمليات متتالية تُعرف باسم “جز العشب” بهدف القضاء على أي جيوب متبقية للمقاومة.
على أرض الواقع، كانت المعطيات مغايرة تمامًا، فمنذ أن ثبّت الاحتلال تمركزه في المحور، كثّفت المقاومة عمليات الاستهداف بوسائط نيران متعددة، كان أبرزها قذائف الهاون الموجودة لدى المقاومة بعيارات ومديات متنوعة، أبرزها الهاون من عيار 120 ميليمترًا، بمدى يصل إلى ما بين 6 و8 كيلومترات، مع وجود قدرات متقدمة لدى المقاومة لتحقيق دقة الإصابة.
إضافة إلى القذائف الصاروخية من طراز غراد 107، وقد يصل بعضها -طُوِّر في القطاع- إلى مسافة 12 كيلومترًا، وكلها خيارات فعّالة جدًّا في استهداف التحصينات وخطوط الإمداد ومواقع التمركز، ناهيك عن الكمائن الهندسة وحقول الألغام والعبوات الناسفة التي تستدرج إليها قوات الاحتلال.
قدرة المقاومة على استمرار التوجيه شبه اليومي لهذه الضربات، وبأدوار تكاملية بين الأجهزة العسكرية التي تنشط في استهداف المحور بكل تلاوينها، لم يبدُ عليها أي شكل من أشكال التأثر أو الاستنزاف، إذ إن الوجبات اليومية من المقذوفات المطلقة على المحور شبه ثابتة من حيث كميتها وكثافتها.
ورغم جهود الاحتلال التأمينية، والاستهداف الموسع من الطيران الحربي والمسيّر لكل المرابض المحتملة للصواريخ ومدافع الهاون في محيط نيتساريم، فإن هذه القدرة لم تحيد أو تجهض.
في أغسطس/ آب الماضي نشرت المقاومة مقطعًا مصوّرًا يوثّق عملية تسلُّل لـ 4 مقاتلين، نصبوا كمينًا ضد رتل قوات لجيش الاحتلال، وأوقعوا 4 جنود ما بين قتيل وجريح، وهو ما أعطى نموذجًا مصغّرًا لما يمكن أن تتطور إليه شكل ونوعية ضربات المقاومة مستقبلًا.
السيناريو الذي يخشاه جيش الاحتلال الإسرائيلي يتضمن نجاح المقاومة في تنفيذ عمليات نوعية ضد القوات المتواجدة في محور نيتساريم، مشابهة لتلك التي شهدتها مستوطنة “نيتساريم” خلال “انتفاضة الأقصى”، مع الأخذ بالاعتبار أن المقاومة قد تستفيد من القدرات التسليحية المتطورة والتدريبات المستمرة، ما يجعل من عمليات الاقتحام أو الهجمات النوعية أكثر فاعلية، ويؤدي إلى تكبُّد جيش الاحتلال خسائر كبيرة في الأرواح والمعدّات.
في أكتوبر/ تشرين الأول 2003، نجح مقاومان فلسطينيان في اقتحام المستوطنة وتنفيذ عملية استشهادية أسفرت عن مقتل 3 جنود وإصابة آخرين، وهذه العملية كانت بمثابة نقطة تحول في النقاشات السياسية الإسرائيلية حول تكلفة بقاء المستوطنات في غزة، حيث أصبحت مسألة الانسحاب من نيتساريم من بين المطالب المطروحة في لجنة الخارجية والأمن في الكنيست.
الاستنزاف المستمر الذي شكّلته ضربات المقاومة والعمليات الفدائية ضد مستوطنة “نيتساريم” خلال سنوات “انتفاضة الأقصى”، كان له تأثير كبير على المواقف السياسية في دولة الاحتلال، ما أدى في النهاية إلى اتخاذ أرييل شارون، الذي كان قد وصف نيتساريم بأنها “بنفس أهمية تل أبيب”، قرارًا بالانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة في عام 2005، وفي مقدمتها نيتساريم.
ما بين المطامع وحسابات الواقع
تُعتبر مستوطنة “نيتساريم” نقطة محورية في الجدل القائم حول التوسع الاستيطاني في قطاع غزة ومدى معقوليته، فما بين أطماع الجماعات الاستيطانية، التي ترى في العودة إليها خطوة مهمة نحو استعادة الوجود الاستيطاني في غزة، وما بين الجيش الإسرائيلي الذي ينظر تكلفة هذه الخطوة، خاصة في ظل الظروف المعطاة بما تشمل استنزاف الموارد والقدرات القتالية على أكثر من جبهة.
تزداد أهمية هذه المنطقة أيضًا مع التصعيد المستمر في المواجهات، حيث تعتبر أي عملية ناجحة للمقاومة ضد هذه القوات في نيتساريم خطوة قد تؤدي إلى تغيير المعادلة العسكرية، وهو ما يراه الجيش الإسرائيلي تحديًا حقيقيًا في ظل استعدادات المقاومة المتزايدة.
كما يعتبر محور نيتساريم نقطة استراتيجية حساسة في قطاع غزة، حيث يقع بين أربع كتائب ناشطة للمقاومة التي تتمركز في مناطق مختلفة مثل تل الهوا والشيخ عجلين، الزيتون، البريج، والنصيرات، وهي كتائب أثبتت قدرتها على توجيه ضربات قوية ومؤثرة ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي في العديد من المحطات.
المواجهات في هذا المحور ستظل عاملًا حاسمًا في مصير أي استيطان جديد في غزة. وكلما ازدادت تكلفة هذا التواجد، سواءً من ناحية الأرواح أو العتاد، كلما تضاءلت فرص نجاح أي محاولة استيطانية.
تولي المقاومة أهمية خاصة لفكرة رفع التكلفة، لتضع حسابات المسؤولين الإسرائيليين أمام مقاربات الثمن الدموي لأي تواجُد على أراضي قطاع غزة، وبالتالي تركّز استراتيجيتها على تحويل كل مكان من أماكن التمركز الإسرائيلي إلى عنوان مستمر للاستنزاف والكمائن، وهدف لقذائف الهاون والنيران القوسية، وفي قلب هذه المعادلة تكمن معادلة استنزاف القوات المتمركزة في محور نيتساريم.
بينما تتحيّن جماعات الاستيطان الفرصة للوصول إلى داخل المحور المحتل، وإقامة بؤرتها الاستيطانية الأولى، تتحيّن المقاومة فرصتها لتوجيه ضرباتها الكبرى لحسم هذا الطموح، وإعطاء صورة واضحة حول مصير أية بؤرة استيطانية يمكن أن تقام على أية بقعة في قطاع غزة.
يتمسك قادة الاستيطان بطموحاتهم، لكنهم يحتاجون إلى إقناع جمهورهم (المستوطنون المفترَضون) أولًا، والمستويات الحكومية والسياسية ثانيًا، بإمكانية نجاحهم في إقامة بؤرهم الاستيطانية من جديد، أي توفر المستوطنين المستعدين، والإمكانية الفعلية، وهو ما سيفقدونه بلا شك في حالة التكلفة المرتفعة لهذه الطموحات، فأي المستوطنين سيختار المضيّ إلى طريق هلاكه؟ وأي مستوى سياسي سيختار الزجّ بمستوطنيه إلى مقتلة يكونون فيها هدفًا سهلًا لمقاومين متمرّسين ومستعدين؟
يبدو أن المواجهات في هذا المحور ستظل عاملًا حاسمًا في مصير أي استيطان جديد في غزة. وكلما ازدادت تكلفة هذا التواجد، سواءً من ناحية الأرواح أو العتاد، كلما تضاءلت فرص نجاح أي محاولة استيطانية، ما يعني أن الطموحات الاستيطانية قد تتعرض لهزيمة عملية إذا استمرت المقاومة في تكتيكاتها الموجهة نحو رفع التكلفة العسكرية والسياسية لهذا التواجد.
ختامًا، إن التجربة التاريخية لبرنامج الناحال الاستيطاني في السبعينيات والثمانينيات كانت قد أظهرت، كما لخّص أحد قادة البرنامج الاستيطاني موشية نيتسر، خلاصة تجربة تحويل الاستيطان إلى أمر واقع في مناطق التماسّ، بالجملة التالية: “لقد اصطدمت أوهام “فرض الحقائق على الأرض” بفرض حقائق جديدة من الجانب الآخر: لن يكون هناك قبول للحقائق التي تمّ فرضها. والمستوطنات لم تخلق ردعًا في نفس الطرف الآخر، بل إنها لم تفعل شيئًا سوى استفزازه”.