تنافس إقليمي محتدم متضارب يعكر صفو العلاقات بين الطرفين، يمتد من حوض شرق البحر المتوسط، ويمر بالتنافس الجيوسياسي والجيواقتصادي في بعض الدول الإفريقية، وصولًا إلى الساحة الليبية التي تُمثل محور التنافس بين الطرفين.
خلفًا للرئيس الرواندي بول كاغامي، تولى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، رئاسة الاتحاد الإفريقي على هامش القمة التي عُقدت بين 10 و11 من فبراير/شباط بمقر الاتحاد الإفريقي في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وفيما ركّز سلفه على الإصلاح المالي والإداري الذي كان يهدف من خلاله إلى تحقيق تمويل ذاتي للاتحاد بعيدًا عن تمويل المانحين الخارجيين، يُتوقع أن يركّز السيسي على آليات توظيف هذا المنصب في خدمة مصالح بلاده.
مهام رئيس الاتحاد الإفريقي
بالنظر إلى هيكلية الاتحاد الإفريقي، يُلاحظ ترتيبها على النحو التالي:
ـ الجمعية: تتألف من رؤساء الدول الأعضاء أو ممثلين عنهم، وهي الجهاز الأعلى مكانةً في الاتحاد.
ـ المجلس التنفيذي: يتألف من الوزراء أو الممثلين الذين يتم تعيينهم من الدول الأعضاء، ويضطلع المجلس بتنفيذ قرارات الجمعية، ويكون مسؤولًا أمامها.
ـ اللجنة: تتألف من رئيس الاتحاد ونائبه و8 مفوضين، وتُعد مهام اللجنة ثانوية، وهي تحقيق التوافق المطلوب بين دول القارة وبحث الأزمات التي تواجه الاتحاد وإيجاد حلٍ توافقي لها، وتُمنح فرصة لرئيس اللجنة الذي يُمثل منصب رئيس الاتحاد، صلاحيات لتنفيذ أجنداته في تحقيق التوافق وتوجيه تركيز الاتحاد عبر توصيات والسعي لتحقيق توافق مع الدول الأعضاء.
ـ لجنة الممثلين الدائمين: مؤلفة من ممثلين دائمين للدول الأعضاء في الاتحاد، يعملون على إعداد الأعمال الخاصة بالمجلس التنفيذي.
عبر ملف “مكافحة الإرهاب” قد تزيد مصر من لفت انتباه الدول الأعضاء لأجندتها حيال الملف الليبي
أجندات مصر تجاه القارة الإفريقية
وانطلاقًا من مهام رئيس الاتحاد يُلامس اقتصاره على النظر في إمكانات تحقيق التوافق بشأن أجندة معيّنة بين دول الأعضاء، لكن تجدر الإشارة إلى أن الدول التي ترأس الاتحاد، يمكّنها الركون إلى ميزة الاتحاد القائمة على توفير منافذ دبلوماسية أكثر انفتاحًا على الدول الأعضاء، بما يمكن إحراز لفت انتباه أوسع على توجهات مصالح البلاد المترأسة للاتحاد، فالتواصل مع ممثلي الدول الأعضاء يُصبح أكثر اتساقًا وحيويةً، وبالتالي تسهل مهمة جذب اهتمام هذه الدول نحو أجندة الدولة المترأسة للاتحاد.
أيضًا، يمكن لمصر استغلال هذا المنصب في تعزيز علاقاتها الثنائية والجماعية مع عددٍ من دول الأعضاء، لا سيّما القريبة من نطاق المصالح المصرية، كحوض شرق البحر المتوسط وليبيا ومحيط قناة السويس وحوض النيل.
وعبر ملف “مكافحة الإرهاب” قد تزيد مصر من لفت انتباه الدول الأعضاء لأجندتها حيال الملف الليبي، حيث تُقدم ذاتها على أنها دولة تبذل جهودًا حثيثةً “لحماية الأمن والسلم القاري”، فتطالب الدول الأعضاء ببذل جهود أكبر حيال تحركها تجاه الملف الليبي، بما يتضمن محاربة الإرهاب والهجرة غير الشرعية وتجارة الأسلحة والمخدرات، وغيرها من قضايا يتمحوّر ظاهرها في حماية أمن القارة، لكن باطنها يخدم الطموح المصرية، وقد ركّز السيسي في خطابه الأول بعد تولي رئاسة الاتحاد، على ضرورة “مكافحة الإرهاب ومموليه وداعميه ومواجهتهم في إطار جماعي”، فمن يقصد بمموليه وداعميه؟
ربما لا تحتاج الصورة الواضحة للكثير من التعليق، فقد عكفت بعض وسائل الإعلام المصرية والخليجية، بالإضافة إلى بعض القنوات الدبلوماسية على اتهام تركيا بتمويل ودعم الإرهاب في ليبيا، كان آخرها تصريح وزير الخارجية المصري سامح شكري، حين قال: “أنقرة تلعب دورًا مقلقًا في إفريقيا، خصوصًا ليبيا، لا بد من الوقوف أمامه”، فضلًا عن الادعاء لأكثر من مرة بضبط سفن ترفع العلم التركي، كانت في طريقها إلى الأراضي الليبية، وهنا نعود للتساؤل الأساسي للمقال: كيف سيؤثر تولي مصر رئاسة الاتحاد الإفريقي على الدور التركي في ليبيا؟
في الملف الليبي، يكمّن الدور التركي في التوجه الاقتصادي، حيث يبلغ حجم الاستثمارات التركية المباشرة في ليبيا مليار دولار، ويجمع بين تركيا وليبيا عدة اتفاقات اقتصادية سارية، كاتفاقية التجارة الحرة واتفاقية تبادل الأيدي العاملة واتفاقية التطوير التجاري والصناعي والزراعي المُشترك
بالنظر إلى الواقع، يتضح أن الدور التركي في إفريقيا يسير في مسارين متكاملين: المسار الأول يقوم على الانفتاح الاقتصادي الرامي إلى تحقيق تكامل متبادل الفائدة مع الدول الإفريقية، وفي هذا الصدد يُذكر أن حجم الاستثمارات التركية في إفريقيا باتت تبلغ 6.2 مليار دولار، أما المسار الثاني فهو مسار عسكري أمني، حيث تحاول تركيا بناء نفوذ لها في القارة، لا سيما بالقرب من خصومها المركزيين في المنطقة، لتوفير توازن قوى معتدل، وقد ظهر ذلك بوضوح في إنشاء قاعدة تركية في الصومال وتعزيز التعاون الأمني مع السودان، وترمي تركيا أيضًا إلى ترويج ذاتها على أنها مُزود جيد للأسلحة.
أما في الملف الليبي فيكمّن الدور التركي في التوجه الاقتصادي، حيث يبلغ حجم الاستثمارات التركية المباشرة في ليبيا مليار دولار، ويجمع بين تركيا وليبيا عدة اتفاقات اقتصادية سارية، كاتفاقية التجارة الحرة واتفاقية تبادل الأيدي العاملة واتفاقية التطوير التجاري والصناعي والزراعي المُشترك، ما يعني وجود ارتباط اقتصادي قانوني وثيق بين الطرفين، أي تركيا وحكومة طرابلس المُعترف بها دوليًا، يدفعهما نحو مضافرة الجهود لتفعيل هذه الاتفاقات لتنشيط حركة سوقي البلدين.
في إطار سياسة “التطويق” قد تحاول مصر تطويع دورها الجديد في الاتحاد الإفريقي، الذي يوفر لها مجالًا للانفتاح على دول القارة السمراء بتنسيق اتحادي مؤسسي رفيع المستوى، في مهمتها لسحب البساط من تحت الحكومة التركية المنافسة لها جيوسياسيًا وجيواقتصاديًا، في ليبيا
وفي إطار الملف الليبي أيضًا، ترغب تركيا في ترجيح كفة ميزان القوى في ليبيا لصالحها قدر الإمكان، فتركيا تتعاون مع حكومة طرابلس المتجنبة للتعاون مع بعض دول الخليج المنافسة لتركيا التي تسعى لإحراز تحرك دبلوماسي وميداني واقتصادي نشط في ليبيا، يوازن قوة ونفوذ بعض الدول الخليجية ومصر المناهضة لاتساع رقعة نفوذها في منطقة الشرق الأوسط، حيث ترى تركيا أن الميدان الليبي يُشكّل لها مساحة مهمة لمواجهة التحركات المناوئة لبعض الدول الخليجية، بالإضافة لمصر، انطلاقًا من أهمية الموقع الجغرافي لليبيا التي تطل على حوض البحر المتوسط الذي يحتضن المياه الإقليمية لتركيا وقبرص التركية، وتتحالف فيه عدة دول، لا سيّما مصر و”إسرائيل” واليونان وقبرص اليونانية، ضدها.
وفي إطار سياسة “التطويق” قد تحاول مصر تطويع دورها الجديد في الاتحاد الإفريقي، الذي يوفر لها مجالًا للانفتاح على دول القارة السمراء بتنسيق اتحادي مؤسسي رفيع المستوى، في مهمتها لسحب البساط من تحت الحكومة التركية المنافسة لها جيوسياسيًا وجيواقتصاديًا، في ليبيا، من خلال إقناع عدد من الدول الإفريقية بضرورة التعاون أمنيًا ودبلوماسيًا “لمكافحة الإرهاب” والهجرة والانفلات الأمني في حوض شرق البحر المتوسط ومحيط ليبيا، وربما داخلها، مما قد يؤثر، بوضوح، في طبيعة النفوذ التركي في ليبيا، وربما في إفريقيا عامةً.
وفي سياق سياسة توازن القوى قد تركن مصر لرفع مستوى التعاون القاري مع فرنسا وروسيا اللتين تدعمان قوات “حفتر” ضد حكومة طرابلس.
يبدو من الصائب الاعتقاد باحتمال ميل تركيا نحو رفع مستوى تنسيقها السياسي والأمني مع بريطانيا التي ترمي إلى إفقاد روسيا فرصة ترسيخ نفوذها في محيط حوض شرق البحر المتوسط الذي تملك هي وتركيا معًا نفوذًا مشتركًا فيه عبر وجودهما كضامنين عسكريين في جزيرة قبرص
وبذلك تستطيع رفع مستوى دعم دول القارة، قدر الإمكان، لسياستها المتقاطعة مع بعض دول الخليج وروسيا وفرنسا ذات النفوذ السياسي الواضح أصلًا في إفريقيا، وبالتالي حصر النفوذ التركي في ليبيا وحوض شرق المتوسط ولو على نحوٍ نسبي، وعلى نحوٍ ملموس، قد تنعكس نشاطات مصر من خلال رفع مستوى الهجوم الدبلوماسي والإعلامي ضد تركيا في المحافل الإقليمية والدولية، والاجتماعات الثنائية.
ويُطلق على الهجوم الدبلوماسي والإعلامي ضد دولة ما “لغة القول الإنشائي” التي من خلال تكرارها تُصبح بمثابة العُرف السياسي تُشرعن أي تحرك وقائي ضد الدولة المُستهدفة، وعلى الأرجح تستند مصر إلى هذا الأسلوب الدبلوماسي في استغلال منصبها الجديد كرئيسة للاتحاد الإفريقي.
وفي سياق توزان القوى أيضًا، يبدو من الصائب الاعتقاد باحتمال ميل تركيا نحو رفع مستوى تنسيقها السياسي والأمني مع بريطانيا التي ترمي إلى إفقاد روسيا فرصة ترسيخ نفوذها في محيط حوض شرق البحر المتوسط الذي تملك هي وتركيا معًا نفوذًا مشتركًا فيه عبر وجودهما كضامنين عسكريين في جزيرة قبرص، كما قد تميل لرفع مستوى دعمها المالي والخدماتي لعددٍ من الدول الإفريقية، لشقق صفوف دول القارة ومواجهة التحرك الدبلوماسي المصري.
في الختام، تتقاطع بعض الدول القومية في المصالح وتتصارع أخرى، أما المتقاطعة مصالحهم فيذهبون إلى تأسيس حلفٍ يُعزز مساحة مصالحهم المُتبادلة، بينما المتصارعة مصالحهم فينتهجون سياسة “المحاور” التي تؤسس أقطاب متضاربة مع أقطاب أخرى.