لا يكاد الصومال يخرج من أزمة إلا ويدخل أزمة أخرى، فالأزمات المتلاحقة تطارد هذا البلد الإفريقي العربي الذي كثيرًا ما عانى من الحروب والصراعات الداخلية، وشهد عهد الرئيس الحاليّ المنتخب محمد عبد الله فرماجو قدرًا من الاستقرار والتعافي النسبي في مجالي الأمن وبعض المشروعات التنموية، لكن الأزمات السياسية على وجه الخصوص ظلت حاضرة خلال العامين الماضيين خلال فترة تولي فرماجو منصب الرئيس.
فعلاقات الصومال كانت متوترة مع عدد من دول الجوار مثل إثيوبيا وإريتريا وكينيا، بينما شهد النصف الثاني من 2017 بداية توتر علاقات مقديشو مع الإمارات، وبرودة في العلاقة مع السعودية ذلك بسبب امتناع الصومال عن الانضمام لمعسكر حصار قطر رغم الإغراءات التي قدمتها الدولتين لحكومة فرماجو.
وشهد العام الماضي “2018” ازدياد توتر العلاقات الصومالية الإماراتية حتى اقتربتا من إعلان القطيعة التامة، حين اكتشفت أجهزة الأمن الصومالي محاولة الإمارات إدخال مبالغ مالية ضخمة في حقائب من دون إخطار السلطات الصومالية، كما اعترضت حكومة فرماجو على اتفاق ثلاثي تم توقيعه بين الإمارات وأرض الصومال وإثيوبيا بخصوص الاستثمار في ميناء بربرة الذي يقع ضمن سيطرة حكومة أرض الصومال الانفصالية.
وفي مطلع العام الحاليّ اتخذ الصومال قرارًا بطرد مبعوث الأمم المتحدة في البلاد نيكولاس هيسوم، مبررًا تلك الخطوة بأن الأخير قام بتصرفات لا تليق، وتعد تدخلًا سافرًا في سياسة الصومال، وبقيت علاقة مقديشو كما هي مع أبو ظبي وظلت الأجهزة الإعلامية الإماراتية تهاجم حكومة فرماجو بشراسة حتى اليوم، بينما تمت معالجة قضية المبعوث الأممي بتفاهمات بين الرئيس الصومالي والأمين العام للأمم المتحدة.
أزمة دبلوماسية مع كينيا بسبب نزاع حدودي بحري
أحدث الأزمات التي يواجهها الصومال هذه المرة، قطيعة دبلوماسية مع إحدى جاراته، إذ استدعت الحكومة الكينية سفيرها لدى الصومال الجنرال لوكاس تومبو، كما أمرت السفير محمد نور ترسن سفير الصومال لديها بمغادرة البلاد بسبب نزاع على الحدود البحرية، وأوردت الصحافة الكينية التي وصفت الصومال بالعدو أنه سيتم إيقاف رحلات الطيران بين البلدين.
واتهمت الحكومة الكينية في بيان وزارة الخارجية، الصومال بتجاهل المعايير الدولية في حل النزاعات الحدودية والخلافات السياسية من خلال بيع حقول نفطية في المناطق المتنازع عليها بين الدولتين بالمزاد العلني، في إشارة إلى مؤتمرٍ بشأن النفط في الصومال عقد في الـ7 من شهر فبراير/شباط الحاليّ في لندن برعاية شركة “سبكترام”، تم خلاله عرض المسوحات التي أجريت في 50 حقلاً نفطيًا في البحر.
يُعد هذا أكبر تصعيد كيني للعلاقات بين البلدين، ويأتي التصعيد الكيني اعتراضًا على تنظيم الصومال مؤتمر لندن لطرح مناطق بحرية بهدف التنقيب عن النفط، والمنطقة التي عرضتها مقديشو تقول إنها تقع ضمن منطقة الحدود البحرية الصومالية التي بدأت كينيا بالمطالبة بها قبل بضع سنين، مع العلم أن قضية الخلاف الحدودي ما زالت منظورة أمام محكمة العدل الدولية بعد أن ربح الصومال الجولة الأولى من القضية أمام المحكمة وتعتبِر أوساط صومالية أن التصعيد الكيني الأخير يأتي استباقًا لحكم المحكمة الذي يُتوقع أن يكون في صالح الصومال، بحسب رؤيتهم.
الخلاف الحدودي البحري (بين الخطين الأخضرين) أساس المشكلة
الرد الصومالي سريع ومتوازن
لم يتأخر رد مقديشو على خطوة كينيا، فسرعان ما التقت القيادة الصومالية في اجتماع ضم كل من السفير الصومالي لدى كينيا محمد نور ترسن الذي عاد صباح الأحد إلى مقديشو بعد طرده من نيروبي، وحضر الاجتماع الطارئ كُلُّ من وزير الخارجية والتعاون الدولي أحمد عيسى عوض وكبار المستشارين في مكتبي رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء.
إذا أردنا التوقف عند بيان وزارة الخارجية الصومالية يمكن القول إنه جاء متوازنًا وعقلانيًا خاصة بعد أن بدأت كينيا بالتخفيف من لهجتها أمس، حيث ذكرت أن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين لم تقطع نهائيًا
مخرجات الاجتماع ظهرت في بيانٍ أصدرته وزارة الخارجية الصومالية عبرت فيه عن استيائها مما ورد في بيان نظيرتها الكينية، مشيرةً إلى أن تصريحات نيروبي التي وصفتها “بالبعيدة عن الواقع” تضمنت إساءة إلى كرامة الصومال ومساسًا بحسن الجوار بين الشعبين الصومالي والكيني، بحسب بيان وزارة الخارجية الصومالية.
وفيما يتعلق بموضوع الخلاف الحدودي الذي هو السبب الرئيس لاندلاع الأزمة، أوضح بيان مقديشو النقاط الآتية:
1- مؤتمر لندن بشأن النفط في الصومال تم فيه عرض خريطة الحقول النفطية في المناطق البحرية الصومالية.
2- لم يتم في أثناء المؤتمر بيع حقول نفطية في مزاد علني.
3- الحكومة الصومالية واثقة من الدعوى القضائية التي قدمتها إلى محكمة العدل الدولية.
4- أعربت عن أملها في أن تنظر المحكمة في النزاع على الحدود البحرية بين الصومال وكينيا بشكل عادل.
5- دعت إلى انتظار قرار المحكمة.
6- اعترفت الخارجية الصومالية بالدور الذي لعبته كينيا في الوقوف إلى جانب الصومال.
إذا أردنا التوقف عند بيان وزارة الخارجية الصومالية يمكن القول إنه جاء متوازنًا وعقلانيًا خاصة بعد أن بدأت كينيا بالتخفيف من لهجتها أمس، حيث ذكرت أن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين لم تقطع نهائيًا، ولكن حكومة نيروبي عادت وكشفت عن شروطٍ تطالب الحكومة الكينية الصومال بتنفيذها لتجاوز الأزمة الدبلوماسية بين البلدين.
شروط كينية لاستئناف العلاقات الطبيعية
تدعو كينيا في الشرط الأول الصومال إلى التراجع عمّا تسميه كينيا بتسويق أراضي كينية في مؤتمر لندن بشأن النفط في الصومال، كما يدعو الشرط الثاني الجانب الصومالي إلى إعلام شركات النفط العالمية بأن الصومال لا يملك الحقول النفطية التي عرضها للبيع في ذلك المؤتمر، ويطالب الشرط الثالث الحكومة الصومالية بالموافقة على حل النزاع في الحدود البحرية بين البلدين بشكل ودي بعيدًا عن محكمة العدل الدولية التي تنظر في هذه القضية.
“نون بوست” استطلع رأي المدون والناشط الصومالي باشي محمود سعيد الذي اعتبر أن التصريحات المخففة الأخيرة لكينيا لن تحل الأزمة نهائيًا، مشيرًا إلى أن الحكومة الكينية ربما شعرت بالإحراج بعد بيان الصومال الداعي إلى انتظار حكم المحكمة الدولية، وفيما يتعلق بموقف نيروبي الأول وتهديداتها بقطع العلاقات مع الصومال، قال سعيد لـ”نون بوست” إن الآثار ستكون سالبة للجانبين لأن كينيا تجني من الصومال ملايين الدولارات كعائدات لتجارة القات.
وتوقّع باشي سعيد أن يكون نائب رئيس جهاز المخابرات الصومالي فهد ياسين لعب دورًا في تراجُع كينيا عن قطع كامل العلاقات، لافتًا إلى أن الأخير كان موجودًا في نيروبي ولم يعد مع السفير أمس الأحد، ويختتم سعيد بأن ياسين ربما لعب دورًا آخر مع وزارة الخارجية الصومالية في صياغة الرد المتوازن حيث كان الكل يتوقع قطع العلاقات مع كينيا، وليس مجرد التعبير عن الأسف من الموقف الكيني.
المهددات الأمنية والصراعات تعصف بالمنطقة وحركة الشباب المصنفة إرهابية تهدد أمن دول المنطقة بأسرها ليس الصومال فحسب، لذلك لا مجال أمام قادة الدول المعنية وعلى رأسها الصومال وكينيا إلا الجلوس وحل الأزمات عن طريق الحوار
ولكن يبدو أن الشروط الثلاث التي وضعتها كينيا أمام الصومال مقابل استئناف العلاقات الطبيعية بين البلدين لن تجد استجابة من حكومة الرئيس فرماجو التي تتبنى نهجًا يقوم على التعامل بحسمٍ مع الملفات الخارجية، فهي لم تتردد في اتخاذ مواقف حاسمة أمام تدخلات أبو ظبي العام الماضي رغم حاجة البلاد إلى الدعم المادي، ثم جاء قرار طرد المبعوث الأممي نيكولاس هيسوم والإصرار على عدم إعادته بعد تدخل الأمين العام للأمم المتحدة ليؤكد قوة السياسة الخارجية الصومالية في عهد الرئيس فرماجو ورئيس الوزراء حسن خيري.
ومع ذلك فإنه يبقى من المرجح إمكانية الوصول إلى حل توافقي للأزمة بين الصومال وكينيا عن طريق قادة دول الجوار، فربما يتدخل الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني للتوسط بين الطرفين خاصة أن لديه زيارة مقررة إلى مقديشو خلال الفترة القريبة القادمة، أما الشخصية الأخرى المرجحة للتوسط بين الجانبين الكيني والصومالي فهو رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد الذي يقود مشروع المصالحات واتفاقات السلام في القرن الإفريقي ويتمتع بعلاقة جيّدة مع كل من الصومال وكينيا.
أخيرًا، المهددات الأمنية والصراعات تعصف بالمنطقة وحركة الشباب المصنفة إرهابية تهدد أمن دول المنطقة بأسرها ليس الصومال فحسب، لذلك لا مجال أمام قادة الدول المعنية وعلى رأسها الصومال وكينيا إلا الجلوس وحل الأزمات عن طريق الحوار أو الاحتكام إلى القانون الدولي فيما يتعلق بالحدود.