ترجمة وتحرير: نون بوست
بعد موجة من الأبحاث والمقالات التي تجادل بأن اليقظة الذهنية مهمة للصحة النفسية والسعادة، يبدو وكأن المسألة أصبحت محسومة؛ حيث تشعر أنك مضطر لاستعادة انتباهك في أي وقت يشرد فيه ذهنك بعيدًا عما تفعله، حتى لو لم يكن ما تفعله ممتعًا أو جذابًا بشكل خاص، ركز عليه على أي حال.
ولكن أليست هناك أوقات تستمتع فيها بقليل من الشرود الذهني؟ ربما تكون في منتصف تمرين متعِب جسديًا ولكنه غير متعِب ذهنيًا، وتطفو بعض الأفكار العشوائية في رأسك، وتستعيد أحد أيامك السعيدة في سنوات دراستك الثانوية، وقبل حتى أن تدرك ينتهي التمرين، وتشعر أنك قد استعدت نشاطك وأنك جاهز للاستكمال يومك.
قد تبدو هذه طريقة متناقضة لتحسين مزاجك، نظرًا لأن التركيز على الماضي أو المستقبل يُصوّر أحيانًا بشكل سلبي، ولكن هل هو كذلك بالفعل؟
بين الشرود الذهني واليقظة الذهنية
وفقًا لمادلين غروس وزملاؤها في جامعة كاليفورنيا سانتا باربرا، فعلى الرغم من أن بعض حالات الشرود الذهني قد تؤدي إلى الخوض في أوقات أكثر سعادة في الماضي، إلا أن “هناك وجهة نظر سائدة مفادها أن مزاج المرء يكون أكثر سلبية في المتوسط عند الشرود الذهني مقارنة بحالة التركيز على الحاضر”، وتستشهد هذه النظرة السائدة بمقولة: “العقل الشارد عقل تعيس”.
لكن إحدى المشاكل الكبيرة في هذه المقولة التي تبدو قاطعة في ظاهرها هي أن البحث الذي استندت إليه، كما لاحظت غروس وآخرون، قام بقياس المشاعر عندما كان المشاركون في حالة شرود الذهن فقط، ولم يقسها في حالة اليقظة ذهنية، لذا فالنتائج تترك المجال مفتوحًا لاحتمال أن يكون العقل في حالة مزاجية سيئة بالفعل عندما يبدأ في الشرود الذهني، وأن الشرود الذهني ليس هو المسبب للشعور بالحزن، بعبارة أخرى، قد يشرد العقل لأنه غير سعيد.
وبالعودة إلى مثال التمرين مع شرود الذهن السابق ذكره، إذا قام شخص ما بقياس حالتك المزاجية قبل التمرين وبعده، فمن المرجح أنك ستظهر تغيرًا في مزاجك من الملل إلى الإيجابية، وهذا من شأنه أن يدعم فكرة أن الهروب من موقف أقل تشويقًا إلى موقف أكثر إمتاعًا قد يكون له بعض القيمة التكيفية.
اختبار ارتباط العاطفة بالشرود الذهني
إذًا، يمكنك الشرود ذهنيًا لأكثر من سبب؛ حيث تعتقد غروس وزملاؤها أن الاختبار الحقيقي للعواقب العاطفية للشرود الذهني يعتمد على طبيعة أفكار الشخص، وللتحقق من هذه الفكرة البسيطة، صمم فريق البحث في جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو دراسة باستخدام جمع عينات التجربة لتتبع المشاركين من طلاب الجامعات ست مرات في اليوم لمدة سبعة أيام، وعلى الرغم من أن متوسط عمر العينة كان 21 سنة، إلا أن أعمار المشاركين كانت تتراوح بين 18 و44 سنة، مما سمح بإجراء تحليلات عمرية، وهو الأمر الذي كان مهمًا عند النظر إلى النتائج.
في كل مرة، أبلغ المشاركون عما كانوا يفعلونه (ردًا على سؤال يطلب منهم أن يكونوا صادقين) وقيموا تجربتهم اللحظية وفقًا لفئات محددة مسبقًا. انظر كيف يمكنك تقييم نفسك الآن باستخدام هذه المؤشرات:
- حالة الانتباه: التركيز مقابل شرود الذهن
- الحالة المزاجية: سيئة جدًا إلى جيدة جدًا على مقياس من 7 درجات
- طبيعة التفكير: الخطاب الداخلي (التحدث إلى نفسك) والتجربة الداخلية (عدم التحدث إلى نفسك)، وما إذا كان الخطاب الداخلي يتعلق بالأحاسيس الجسدية أو المشاعر أو البيئة أو الموسيقى/الأصوات أو الصور المرئية أو شخص آخر أو العقل الفارغ أو “أمور أخرى”.
- الوضوح: غير واضح جدًا إلى واضح جدًا على مقياس مكون من 7 نقاط
- التكافؤ الفكري: سلبي جدًا إلى إيجابي جدًا على مقياس من 7 نقاط
- الاهتمام: ليس مثيرًا للاهتمام على الإطلاق إلى مثير جدًا للاهتمام على مقياس مكون من 7 نقاط.
ولتصنيف أنشطتهم، أبلغ المشاركون عما إذا كان ما يقومون به اجتماعي أو بدني أو مريح أو موجه نحو المهام (أعمال منزلية) أو معرفي (المذاكرة، الواجبات المنزلية، حل الألغاز، التواجد في الفصل الدراسي).
قد تبدو المشاركة في هذه الدراسة عملية مكثفة، وبالفعل، فإن غالبية العينة قد انسحبت قبل انتهاء الأسبوع، بينما لم يأخذها بعضهم على محمل الجد. وبالتالي، قد يختلف الـ 337 شخصًا الذين استمروا في المشاركة في الدراسة بطريقة منهجية عن العدد المساوي لهم تقريبًا الذي انسحب منها.
وكان التحليل الإحصائي الرئيسي اختبارًا للنموذج الذي كانت فيه حالة الانتباه تستخدم للتنبؤ بإيجابية الأفكار والتي بدورها ستتنبأ بالمزاج، وتماشيًا مع المبدأ القائل بأن شرود الذهن مرتبط بمزاج أكثر سلبية، أظهرت النتائج أن هذا كان مرتبطًا بمدى ايجابية أو سلبية الأفكار ذاتها.
وكان هذا الرابط أكثر وضوحًا لدى المشاركين الأكبر سنًا في الدراسة (أي أولئك الذين تزيد أعمارهم عن 30 سنة)؛ فمن المحتمل أن تجذب التجارب الحياتية الأكبر الناس إلى التفكير في شيء آخر غير الذي يفعلونه، أو ربما يكون طلاب الجامعات الأكبر سنًا أكثر انشغالًا من الأصغر سنًا. قد تكون قادرًا على فهم هذه الفكرة إذا كان ذهنك قد شرد فيما يجب أن تفعله في الوقت الحالي عندما نظرت إلى فئات تصنيف الخبرات أعلاه.
وقد أظهرت النتائج أيضًا أن تصنيفات التشويق والوضوح عدّلت تأثير حالة الانتباه في الحالة المزاجية، وهذا الأمر يدعم الأبحاث السابقة التي أظهرت أن “الأفكار غير المرتبطة بالمهمة تعد أكثر إثارة للاهتمام خلال الحياة اليومية وترتبط بمزاج أفضل”، لذلك فإن التفكير في الأوقات المثيرة للاهتمام عندما تشعر بالملل، كما هو الحال في ممارسة التمارين الرياضية اليومية، قد لا تكون فكرة سيئة.
كيف تجعل ذهنك الشارد مفيد لك؟
على الرغم من أن دراسة جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو تدعم فكرة أن العقل الشارد قد يكون عقلًا تعيسًا، إلا أنها تؤكد أن هذا يكون صحيحًا فقط إذا انجرف العقل الشارد إلى أفكار غير سارة؛ ويعتقد الباحثون أن العلاج لا يكون بالتركيز على الحاضر، بل بالتركيز على طبيعة تلك الأفكار، وكما يؤكد العلاج المعرفي السلوكي، فإن تغيير أفكارك يمكن أن يغير حالتك المزاجية.
يبدو إذًا أن طبيعة الأفكار، وليس الشرود الذهني، هي السبب هنا، بل إن مؤلفي الدراسة يذهبون إلى الشرود الذهني قد يوفر فوائد ترفيهية، ويزيد مشاعر الترابط والتواصل الاجتماعي، والراحة العاطفية، والتفكير الإبداعي، ويمكن أن يكون الاستماع إلى الموسيقى الإيجابية إحدى طرق تحفيز هذا الشرود في أفكارك.
باختصار، في المرة القادمة التي تجد أنك تركز على شيء آخر غير تجربتك الحالية، لا تفترض أنك بحاجة إلى الانغماس في تفاصيل اللحظة الحالية، وإذا كانت أفكارك تجعلك سعيدًا، فلا مانع من الانغماس فيها، حتى ولو كان ذلك من أجل الإلهاء اللحظي الذي توفره لك.
المصدر: سايكولوجي توداي