ترجمة وتحرير: نون بوست
لا يؤثر مرض الذئبة، كما يقول الأطباء، على مريضين متشابهين؛ حيث يتسبب هذا المرض في جعل الجهاز المناعي ينفلت من عقاله بطريقة يمكن أن تصيب أي عضو في الجسم تقريبًا، ولكن متى وأين فد يحدث هذه فهو أمر محير ومراوغ، فقد يعاني أحد المرضى من آفات في الوجه – والتي شبّهها طبيب القرن الثالث عشر الذي أطلق اسم الذئبة على مرض الذئبة بعضات الذئب – وقد يعاني مريض آخر من فشل كلوي، وآخر من سوائل حول الرئتين.
لكن ما يمكن أن يقوله الأطباء لكل مريض هو أنه سيصاب بالذئبة لبقية حياته، وغالباً ما تكون أصول أمراض المناعة الذاتية مثل هذا المرض غامضة، والجهاز المناعي الذي يرى الجسم الذي يسكنه كعدو لن يرتاح تمامًا، فلا يمكن علاج الذئبة، ولا يمكن علاج أي مرض مناعي ذاتي.
غير أنه قبل عامين؛ ظهرت دراسة من ألمانيا هزت كل هذه الافتراضات، فقد دخل خمسة مرضى مصابين بمرض الذئبة غير المنضبط في حالة هدوء تام بعد خضوعهم لعلاج سرطان معاد توجيهه يسمى “العلاج بالخلايا التائية “كار-تي””، والذي قضى إلى حد كبير على خلاياهم المناعية المارقة، ولم تظهر الأعراض على أول مريض خضع للعلاج منذ ما يقرب من أربع سنوات حتى الآن. وتقول أنكا أسكاناسي، أخصائية أمراض الروماتيزم في المركز الطبي بجامعة كولومبيا والمتخصصة في مرض الذئبة: “لم نجرؤ أبدًا على التفكير في علاج المرض”.
إلا أن هذه النتائج المذهلة – شفاء كل مريض – قد غذت موجة جديدة من التفاؤل، فقد خضع الآن أكثر من 40 شخصًا مصابًا بالذئبة في جميع أنحاء العالم للعلاج بالخلايا التائية “كار-تي”، ودخل معظمهم في حالة خمول بدون دواء، ولكن من السابق لأوانه الإعلان عن شفاء أي من هؤلاء المرضى مدى الحياة، ولكن يبدو ذلك الآن في نطاق الاحتمال.
وبعيدًا عن مرض الذئبة؛ فيأمل الأطباء في أن يكون نجاح علاج “العلاج بالخلايا التائية “كار-تي”” ” بداية لاختراق أكبر في علاج أمراض المناعة الذاتية، التي تشهد انتشارًا مقلقًا. تم استخدام “العلاج بالخلايا التائية “كار-تي”” بالفعل بشكل تجريبي لعلاج مرضى يعانون من أمراض مناعية ذاتية أخرى، مثل التصلب المتعدد، والتهاب العضلات، والوهن العضلي الشديد. وقد ألهم نجاح “العلاج بالخلايا التائية “كار-تي”” الباحثين لاستعارة إستراتيجيات أخرى – أكثر بساطة وأقل تكلفة – من علاجات السرطان للقضاء على الخلايا المناعية المتمردة. قد لا تنجح جميع هذه الأفكار، لكن إذا نجح أي منها، فقد نشهد في السنوات القليلة المقبلة نقطة تحول في علاج بعض الأمراض المزمنة والمستعصية التي تميز عصرنا الحديث.
تم تطوير “العلاج بالخلايا التائية “كار-تي”” في الأصل كوسيلة لقتل الخلايا الخبيثة في سرطان الدم. وتوصل العلماء لاحقًا إلى أنه يمكن أيضًا استخدامه لقتل نوع معين من خلايا الدم البيضاء، تُعرف بالخلايا البائية، التي تخرج عن السيطرة في بعض أمراض المناعة الذاتية. وجربت إحدى المجموعات علاجًا مشابهًا لـ”العلاج بالخلايا التائية “كار-تي”” لعلاج مرض مناعي ذاتي يسمى الفقاع الشائع، وجربت مجموعة أخرى “العلاج بالخلايا التائية “كار-تي”” لعلاج الذئبة. نجح الأمر ولكن هذه التجارب كانت فقط على الفئران.
وكان هذا كل ما توافر من الأدلة العلمية عندما جاءت شابة تبلغ من العمر 20 عامًا إلى أطبائها في إرلانغن، ألمانيا، طالبةً تجربة أي شيء لعلاج حالتها الشديدة من الذئبة التي لم يمكن السيطرة عليها. لم تنجح أي من الأدوية طويلة الأمد التي تُستخدم عادةً في علاج الذئبة معها. كانت كليتاها وقلبها ورئتاها في حالة فشل، ولم تكن تستطيع السير إلا لمسافة 30 قدمًا بمفردها، ورغم أن طبيبها وافق على أن علاج “العلاج بالخلايا التائية “كار-تي”” كان محفوفًا بالمخاطر، لكنه قال إن الذئبة كانت تقتلها بالفعل.
ويمكن لـ”العلاج بالخلايا التائية “كار-تي”” يمكنه، بشكل أساسي، أن يجعل جهاز المناعة يهاجم نفسه. في البداية، استخرج الأطباء من دمها نوعًا من الخلايا المناعية يُعرف بالخلايا التائية (T cells)، والتي قاموا بتعديلها لتصبح خلايا “العلاج بالخلايا التائية “كار-تي”” (الخلايا التائية ذات المستقبلات الكيميرية) بحيث يمكنها التعرف على الخلايا البائية المسببة للذئبة وتدميرها. ويمكن لخلايا “العلاج بالخلايا التائية “كار-تي”” ” أن تتسبب في ردود فعل التهابية خطيرة ومفرطة لدى مرضى السرطان، وكان الأطباء قلقين من أنها قد تفعل الشيء نفسه مع مريضة تعاني من مرض مناعي ذاتي، حيث يكون جهازها المناعي في حالة نشاط زائد. ويقول فابيان مولر، اختصاصي أمراض الدم والأورام في المستشفى الجامعي في إرلانغن وأحد الأطباء في الفريق الألماني الذي طبق هذا العلاج: “نستخرج الخلايا التائية، وننشطها بشكل مكثف، ثم نعيد تلك الخلايا التائية فائقة النشاط إلى مرض نشط مناعيًا ذاتيًا. لذا إذا فكرت في الأمر، فهذا شيء مجنون بعض الشيء، أليس كذلك؟”.
لكن لحسن الحظ، لم تعاني المرأة المصابة بالذئبة من أي آثار جانبية خطيرة، ولم يعاني أي من المرضى الآخرين الذين تلقوا العلاج لاحقًا مع الفريق الألماني.، وجميعهم يعيشون حياتهم اليومية خالين من أعراض الذئبة ومن دون الحاجة إلى الأدوية، فالمرأة التي لم تكن تستطيع المشي إلا لـ 30 قدمًا الآن تجري خمس مرات أسبوعيًا – كما أخبرني مولر – ولقد عادت إلى الدراسة وتفكر في التحضير للحصول على درجة الماجستير في علم المناعة.
ويعتقد مولر وزملاؤه أن علاج “العلاج بالخلايا التائية “كار-تي”” يعمل من خلال القضاء على عدد كافٍ من الخلايا البائية لبدء “إعادة ضبط عميقة” لجهاز المناعة، فخلايا “العلاج بالخلايا التائية “كار-تي”” هي خلايا “قاتلة مثابرة”؛ حيث يمكنها العثور على الخلايا البائية وتدميرها حتى تلك المختبئة في أعماق أنسجة الجسم. في النهاية، تتعافى نسبة الخلايا البائية لدى المريض، لكن الخلايا الجديدة لم تعد تهاجم الجسم بشكل خاطئ. يُعتبر مرضى السرطان أحيانًا “متعافين” بعد خمس سنوات من العلاج، والمريضة الأولى التي تلقت “العلاج بالخلايا التائية “كار-تي”” لعلاج الذئبة ليست بعيدة عن هذه المرحلة الزمنية. غير أن هذا العلاج لا يمكنه القضاء على الاستعداد الوراثي لدى العديد من المرضى للإصابة بالمرض، كما يقول دونالد توماس، أخصائي الروماتيزم في ماريلاند. وسيستغرق الأمر وقتًا لمعرفة ما إذا كانت الهَدْأة دائمة بما يكفي لتعتبر “علاجًا”.
وأدت هذه النتائج الاستثنائية إلى إثارة موجة من الاهتمام لدى شركات التكنولوجيا الحيوية التي تتطلع إلى حل مشاكل أمراض المناعة الذاتية؛ فقد بدأت بعض الشركات الناشئة التي أُسست لعلاج السرطان بتوجيه اهتمامها إلى أمراض المناعة الذاتية، كما تعمل شركات الأدوية الكبرى مثل بريستول مايرز سكويب وأسترازينيكا ونوفارتيس على تطوير علاجاتها الخاصة. وتقول أسكاناسي من جامعة كولومبيا إنها تعمل الآن كمديرة بحثية في خمس تجارب مختلفة، جميعها تستخدم “العلاج بالخلايا التائية “كار-تي”” أو علاجات خلوية مماثلة، وتتلقى اتصالات من المزيد من الشركات باستمرار، وقالت لي: “هناك الكثير من الاهتمام لدرجة أنني لا أعرف إن كان هناك عدد كافٍ من المرضى” لاختبار العلاجات الجديدة. هناك حوالي 1.5 مليون أمريكي مصاب بالذئبة، لكن قلة منهم فقط – أولئك الذين يعانون من المرض بشكل كافٍ لتبرير العلاج التجريبي دون أن تكون أعضاؤهم قد تعرضت لتلف غير قابل للإصلاح – مؤهلون للمشاركة في التجارب.
وحاليًا يتوفر علاج “العلاج بالخلايا التائية “كار-تي”” لعلاج الذئبة وأمراض المناعة الذاتية الأخرى بشكل رئيسي في الولايات المتحدة فقط من خلال التجارب السريرية، مما يعني فعليًا أنه غير متاح لمعظم مرضى الذئبة. ويعمل جوناثان جرير، وهو أخصائي روماتيزم في فلوريدا، في عيادة تضم سبعة أطباء يعالجون مئات المصابين بالذئبة، ومع ذلك لم يتلقَّ أي منهم علاج “العلاج بالخلايا التائية “كار-تي””، كما أنه لا يعرف مركزًا واحدًا في فلوريدا يجري هذه الدراسات حاليًا، لذا سيتعين على المرضى المهتمين السفر إلى ولاية أخرى.
وحتى إذا تمت الموافقة على “العلاج بالخلايا التائية “كار-تي”” من قبل إدارة الغذاء والدواء الأمريكية لأمراض المناعة الذاتية، فإن عملية العلاج بـ “العلاج بالخلايا التائية “كار-تي”” طويلة ومكلفة؛ فنظرًا لأن خلايا كل مريض يعاد هندستها، فلا يمكن بسهولة توسيع نطاق استخدامها. وتبلغ تكلفة “العلاج بالخلايا التائية “كار-تي”” للسرطان حوالي 500,000 دولار. كما يحتاج المرضى إلى العلاج الكيميائي لقتل الخلايا التائية الحالية لإفساح المجال لخلايا “العلاج بالخلايا التائية “كار-تي”، مما يزيد من المخاطر. وفي حالة الذئبة؛ عادة ما يحتاجون إلى تقليل جرعات الأدوية التي تتحكم في المرض، مما قد يتسبب في تزايد الأعراض. وتجعل كل هذه التعقيدات النسخة الحالية من “العلاج بالخلايا التائية “كار-تي”” مناسبة فقط لمرضى الذئبة الذين يعانون من حالات شديدة وقد نفدت لديهم الخيارات الأخرى للعلاج.
لقد عقدت القيود العملية لـ”العلاج بالخلايا التائية “كار-تي” مجال السرطان لفترة طويلة الآن، وقد توصل الباحثون بالفعل إلى أفكار للالتفاف حولها؛ فهناك عدد من الإستراتيجيات الأبسط للقضاء على الخلايا البائية بدأت في الانتقال من علاج سرطانات الدم إلى علاج أمراض المناعة الذاتية. وتشمل هذه الإستراتيجيات استخدام خلايا تائية من متبرعين، أو نوع مختلف من الخلايا المناعية يُسمى الخلايا القاتلة الطبيعية، أو جزيئات تربط الخلايا التائية بالخلايا البائية المستهدفة للتدمير، وتُعرف هذه الجزيئات باسم “المُشغِّلات ثنائية الخصوصية للخلايا التائية” (BiTEs)، ويقول مولر إنها “رخيصة وسريعة وغير معقدة”، لكنها قد لا تصل بعمق إلى الأنسجة التي تختبئ فيها الخلايا البائية. ومع ذلك؛ نشرت مجلة نيو إنجلاند جورنال أوف ميديسين في أيلول/سبتمبر تقريرين ناجحين عن علاج بعض أمراض المناعة الذاتية، بما في ذلك الذئبة، باستخدام BiTE يُسمى تيكليستاماب، ويمكن إعادة استخدام BiTEs الأخرى المتوفرة لعلاج أمراض المناعة الذاتية أيضًا.
ويقول أسكاناسي إن هذه العلاجات الأبسط قد تكون في نهاية المطاف “كافية”، وقد تجعل سهولة استخدامها تتفوق على علاج “العلاج بالخلايا التائية “كار-تي”” المخصص، الذي من غير المحتمل أن يصل إلى جميع المصابين بالذئبة حول العالم بسبب تكلفته العالية وتعقيده. وهذه المشكلة قد أعاقت أيضًا تبني علاجات مبتكرة أخرى كانت قد حظيت بترحيب كبير عند الموافقة عليها. ولكن حتى لو لم يُعتمد علاج “العلاج بالخلايا التائية “كار-تي”” على نطاق واسع لأمراض المناعة الذاتية؛ فقد فتح الأبواب أمام أفكار جديدة يمكن أن تُحدث ثورة في علاج هذه الأمراض يومًا ما.
المصدر: ذا أتلانتيك