قد لا يعرفه الكثير من المصريين فضلا عن الساكنين بجواره، أما الصوفيون فهم أكثر أهل مصر دراية به، فهو قبلتهم الأولى، ومحط حضارتهم الخالدة، وفيه تعزف أجمل الأناشيد والأذكار، وفوق مسرحه الكبير يلتقي عشاق التصوف، شيوخا ومريدين، على ألحان أوركسترالية تطرب الأذان وتنعش القلوب.
“التكية المولوية”.. النقطة المضيئة التي تجمع بين جنباتها أهم تراث المولويين والطرق الصوفية عموما، والذي يعد الوحيد من نوعه في مصر، تقع في شارع السيوفية بحي الحلمية في قلب مدينة القاهرة القديمة، حيث المساجد التاريخية والأسبلة والكتاتيب والتكايا من مختلف العصور.
المؤرخون يرجعون نشأة التكية إلى العثمانيين قبل 400 عام، إذ كانت تستخدم بادئ الأمر كاستراحة للحجيج العثمانيين ثم تحولت إلى ملجأ لمن لا عائل لهم ولا يقدرون على الكسب كالأرامل من النساء وكبار السن، بالإضافة إلى الفقراء وعابري السبيل، ليستقر بها الحال الآن إلى مسرح للطرق الصوفية يمارسون فيه طقوسهم.
والتكية بما تتمتع به من إمكانيات تعد واحدة من أشهر المعالم السياحية والأثرية في القاهرة القديمة، تحوي ما تبقى من تراث المولويين “جماعةٌ صوفية من أتباع جلال الدين الرومي، يُطلق عليهم كذلك “الجلاليون” دخلوا أرض المحروسة في عصر بن قلاوون، الأمر الذي يجعلها أهمَّ موقعٍ يروي قصةَ التصوف في مصر”
ماذ يعني بالتكية؟
التكية هي مكان يقيم فيه الفقراء وغير القادرين والدراويش، يأكلون ويشربون دون مقابل، ويقضون أوقاتهم في العبادة والذكر الذي كان كثيرًا ما يُصطحب بالطقوس الصوفية على أنغام الموسيقى التراثية،، كما دأب مشايخ الطريقة على بناء التكايا وإدارتها والاعتناء بها لأنها الموقع الأساسي لانطلاق الطريقة وانتشارها بين جموع المسلمين.
تباينت وجهات النظر حول أصل التسمية لـ “ألتكية” فالبعض أرجعها للفعل العربي “وتأ” أو”اتكأ” بمعنى استند أو اعتمد، وآخرون يشيرون إلى أنها تركية الأصل وتعني الاتكاء والتوكؤ والاستناد إلى شيء للراحة والاسترخاء ومن هنا تكون التكية بمعنى مكان الراحة والاعتكاف، بينما يعتقد المستشرق الفرنسي “كلمان هوار” أنها جاءت من كلمة “تكية” الفارسية التي تعني جلد، فقد كان شيوخ الزوايا الصوفية يتخذون من جلد الخروف أو غيره من الحيوانات شعارًا لهم.
التكية في تصميمها تشبه الدائرة المستديرة، حيث تجمع بين جنباتها نخبة من المعالم الأثرية الرائعة المتسقة فيما بينها كأنها لوحة سيريالية تبهر الناظر إليها من بعيد
وقد عرف المصريون التكية مع قدوم العثمانيين، وهى امتداد لطراز معماري أطلق عليه “الخانقاه” ظهرت في العصر الأيوبي وانتشرت في العصر المملوكي وكانت مثل المعابد يلزمها المسلمون بل ويحبسون أنفسهم داخلها بغرض التعبد من دون مزاولة أي عمل آخر معتمدين على ما يوقفه عليهم الأغنياء من مأكل وملبس.
وظلت التكايا في مصر مرتبطة في أذهان الشعب بالعمارة العثمانية التركية القديمة، والتي تشبه في كثير من تصميمها مساجد القاهرة التراثية كمسجد أحمد بن طولون والجامع الأزهر ومحمد علي وغيرها من المعالم التي أرخت للحضارة الإسلامية في مصر على مدار قرون طويلة مضت.
صحن التكية
أقسام التكية
التكية في تصميمها تشبه الدائرة المستديرة، حيث تجمع بين جنباتها نخبة من المعالم الأثرية الرائعة المتسقة فيما بينها كأنها لوحة سيريالية تبهر الناظر إليها من بعيد، فمع أول وهلة لدخولك التكية تخطف الأنظار قاعه «السمع خانة» أو «مسرح الدراويش»، ذلك المكان المخصص لأذكار المولويين.
يتكون المسرح من طابقان، الأول به منصة خشبية مستديرة تتوسطها دائرة بلون مغاير للون المنصة ويحيط بها «درابزين خشبي» له بابان لدخول الدراويش وخروجهم قبل وبعد تأديتهم الذكر المولوي، أما الطابق الثاني منه فهو عبارة عن سلم خشبي يؤدي إلى مساحات مخصصة لجلوس الجماهير، مقسمة إلى أماكن للرجال وأخرى للنسا عليها باب خشبي.
وفي قلب المسرح تقع القبة المبهرة، التي تعد أحد أهم علامات التكية، فهي مقامة على اثني عشر عمودا خشبيا يحوي كل واحد منها اسما من أسماء الأئمة الاثني عشر عند الشيعة المسلمين، وتليها مناطق مستطيلة تضم كتابات تراكمية بحروف عربية، فيما زينت باطنها بمناظر طبيعية عبارة عن عمائر وأعلام تركية وزخارف نباتية وعدة رسوم معبرة عن الفلسفة الصوفية التي تقوم عليها الطريقة المولوية.
عروض فنية للصوفية تقام داخل التكية
وفي الجنوب الشرقي من القبة، تقع حجرات التكية المقسمة إلى جزئين، الأول: مكون من طابقين، يحتوي الطابق الأرضي منهما على ثماني غرف مربعة ذات أسقف خشبية، ويضم الطابق الثاني أيضا ثماني غرف شبه مربعة مختلفة من حيث المساحات والأغراض.
أما القسم الثاني فهو عبارة عن مدرسة “سنقر السعدي” التي أنشاها شمس الدين سنقر السعدي، نقيب المماليك السلطانية في عام 721هـ (1321م)، كما هو مُسجل بالشريط الكتابي الموجود في قبة المدفن الموجود في المكان، يتوسطها صحن مكشوف لم يتبقى منه سوى فسقية مياه (أي نافورة).
في الوقت الذي تنفق فيه الحكومة مئات الملايين على مدن ومناطق أقل أهمية سياحية وتاريخية وثقافية تقف مكتوفة الأيدي حيال تراث البلد الذي يُفقد جزءًا يوما تلو الآخر
وعلى جانبي هذا الصحن الذي يتوسط المدرسة توجد بقايا غرف مربعة صغيرة يعتقد أنها كانت مخصصة لإقامة الأرامل والمطلقات، بالإضافة إلى أربعة إيوانات، من أبرزها الإيوان الشمالي الغربي المنفتح على الصحن والمشيد على الطراز العثماني، وفي أرضية هذا الإيوان توجد تركيبة خشبية لآخر مشايخ المولوية وهو الشيخ محمد غالب درة المتوفى 1334هـ (1915م).
كما تضم التكية المولوية مجموعةً من الأضرحة لكبار المتصوفةِ الذين عاشوا في مصر قبل أكثر من أربعة قرون، أشهرها ضريح سيدي حسن صدقة، الذي يرجع تاريخه إلى عصر الأمير سنقر السعدي، وزير الداخلية والدفاع في عهد الناصر محمد بن قلاوون . وإلى جانب الضريح يوجد ما كان في الماضي ملجأً للأرامل والمطلقات واليتامى، لكنه تحول فيما بعد إلى مدرسةٍ لعلوم الفقه.
مسرح التكية
من الإبهار إلى الإهمال
رغم ما تتمتع به التكية من أهمية تاريخية عظيمة، كونها تجسد لواحدة من أروع محطات الحضارة الإسلامية في أرض المحروسة إلا أن الحال الذي وصلت إليه بات وصمة عار في جبين المسئولين عن هذا الأثر الهام، حسبما أشارت تقى محمود، رئيس قسم السياحة بصحيفة”البيان” المصرية.
محمود في حديثها لـ “نون بوست” كشفت أنه من المخجل ابتداء أن يكون هذا المعلم مجهولا لقطاع كبير من المصريين، بعضهم من المهتمين بالشأن الأثري فضلا عن متخصصين في المجال ذاته، موضحة أنها لأجل أن تصل لهذا المكان قبل عدة سنوات قضت ما يقرب من ساعتين بين سؤال عدد من السكان المحيطين بالتكية وهم لا يعرفون مكانها.
وأضافت أنه في الوقت الذي تنفق فيه الحكومة مئات الملايين على مدن ومناطق أقل أهمية سياحية وتاريخية وثقافية تقف مكتوفة الأيدي حيال تراث البلد الذي يفقد جزءًا يوما تلو الآخر، لافتة إلى حادثة هدم وكالة “العنبريين” بوسط القاهرة قبل عدة أيام والتي وصفتها بـ “الفضيحة”.
رئيس قسم السياحة بالصحيفة المصرية دعت حكومة بلادها ممثلة في وزراء الأثار والثقافة والسياحة بزيارة التكية للوقوف على حجم ما وصلت إليه من إهمال وتدني، مطالبة إياهم بالعمل يدًا واحدة لإنقاذ تراث مصر وتاريخها الذي يتسلل من بين أيديهم أثرًا تلو الأثر في الوقت الذي تتشبث فيه دول أخرى بمعالم عندها لا يتجاوز عمرها تاريخ اللبنة التي تُرمم بها تلك المباني الأثرية.
وفي المجمل تنضم “التكية المولوية” رغم ما تملكه من أهمية تراثية، إلى قائمة المعالم الأثرية المعرضة للانقراض في ظل إهمال واضح وتجاهل شديد لقيمتها التاريخية، الأمر الذي يهدد مستقبل التراث المصري خلال السنوات القادمة، فالمجتمعات التي تفشل في الحفاظ على ماضيها من الصعب أن تحمي حاضرها فضلا عن مستقبل غير معلوم.