في مجتمع مقسم للغاية، ماذا يحدث عندما يدعو أحد أفراد الأسرة شخصًا ما من طبقة اجتماعية أخرى لتناول العشاء؟ هذا هو موضوع فيلم “الضيف”، العمل السينمائي الدرامي الجديد للكاتب الصحفي إبراهيم عيسى ومن إخراج هادي الباجوري. وقد حقق هذا الفيلم نجاحًا باهرًا في شباك التذاكر، لكنه أثار في الوقت ذاته جدلاً واسعًا.
تبدأ القصة بدعوة عشاء، حيث تستضيف فريدة (جميلة عوض) صديقها أسامة (أحمد مالك) الذي يميل إلى تبني أفكار متشددة، لتعرفه إلى والدها الدكتور يحيى التيجاني (خالد الصاوي). وتكشف أحداث الفيلم مناقشة حامية بين الرجل والشاب حول الخطاب الديني. ويواصل الشاب الذي أتى لخطبة الفتاة، والذي يبدو أنه متأثرًا جدًا بالأصوليين الإسلاميين، الخوض في جدال مع يحيى. وقد فاز والد الفتاة على الشاب بفضل فطنته، لكن الأمور أخذت منعطفًا عنيفًا لتكشف عن الدوافع الحقيقية لأسامة.
الفيلم أشار إلى الطريقة التي يُساء بها تفسير الإسلام الذي يعتقد الكثيرون أنه يجبر المرأة على تغطية نفسها من رأسها حتى أخمص قدميها
يبدو أن ضيف عائلة الدكتور يحيى، يشبه في عدة نواحي شخصية الكاتب عيسى، وهو صحفي ومثقف عُرف بكتاباته الصريحة عن الدين. لقد كان عيسى معتادًا على إثارة الجدل حتى قبل إصدار “الضيف”، فقد سبق وأن أثار ضجة عند كتابة أول سيناريو له، فيلم “مولانا” الذي تحدث فيه عن الدعاة الإسلاميين النافذين عبر وسائل الإعلام وعن العلاقة بين الدين والدولة.
إبراهيم عيسى مؤلف فيلم “الضيف”.
قبل عرضه في قاعات السينما المصرية، فاز فيلم “الضيف” بجائزة الجمهور في مهرجان “تالين بلاك نايتس” السينمائي في شهر كانون الأول/ ديسمبر، على الرغم من أنه تلقى ردود فعل متباينة في مصر. وقد صرح الناقد المصري طارق الشناوي بأن فكرة الفيلم رائعة للغاية كما أنها تعرض السينما المصرية في ثوب جديد. وأضاف الشناوي أن “المنتجين لم يبحثوا عن مكاسب مالية، بل سعوا إلى خلق تجربة فنية، وأنا ألومهم فقط على تركيز الأحداث في مكان واحد، ولكن باختصار، إن الأداء المتميز للشخصيات الرئيسية الأربع قد جعلنا نتغاضى عن هذا الأمر”.
من المفارقات أن النقاشات والخلافات العنيفة التي تم تصويرها في فيلم “الضيف” تنعكس في حجج واقعية حول الفيلم، مما أدى إلى دعوات إلى حظر عرضه.
يشاطر المشاهدون الشناوي الرأي نفسه. وبينما كانت تهم بمغادرة قاعة سينما القاهرة، قالت نجوى علي، وهي محاسبة تبلغ من العمر 40 سنة، إن الفيلم “تطرق لمواضيع محرمة لم تناقش من قبل في السينما المصرية، حيث أشار إلى الطريقة التي يساء بها تفسير الإسلام الذي يعتقد الكثيرون أنه يجبر المرأة على تغطية نفسها من رأسها حتى أخمص قدميها”. كما أقرت نجوى بأن “الجدل القائم حول الحجاب الإسلامي للمرأة في هذا الفيلم مقنع للغاية، فهو يدعو الناس إلى التفكير عوضا عن إخبارهم بما يجب عليهم فعله”. في المقابل، قال نقاد آخرون إن الفيلم طويل وأحداثه تدور في المكان نفسه، على الرغم من أنهم أشادوا بمعالجته قضايا محرمة غالبا ما يتم تجاهلها في السينما المصرية.
بداية الهجوم
في الفيلم، يواجه يحيى تهمة ازدراء الدين بسبب آرائه حول تفسير الإسلام وتعاليمه التي ظهرت في كتبه ومقالاته. لقد كانت حياته في خطر، وهو الأمر الذي دفع الحكومة إلى تعيين رجال الشرطة لحمايته وأسرته ضد الهجمات المحتملة من المتطرفين. ومن المفارقات أن النقاشات والخلافات العنيفة التي تم تصويرها في فيلم “الضيف” تنعكس في حجج واقعية حول الفيلم، مما أدى إلى دعوات إلى حظر عرضه.
الملصق الدعائي للفيلم في مصر (شركة آي برودكشن)
من خلال التشكيك في مدى مصداقية علماء الدين القدماء والمعاصرين وتفسيرهم لتعاليم الدين خاصة فيما يتعلق بالحجاب، أثار فيلم “الضيف” سخط المحامي سمير صبري الذي تقدم بدعوى قضائية مستعجلة ضد إبراهيم عيسى أمام محكمة القاهرة ودعا إلى حظر عرض الفيلم. ويعتبر سمير صبري محاميا مثيرا للجدل معروفا بدعاويه القضائية ضد عدد من الأفراد ذوي الشأن في المجتمع بتهمة خرق قوانين الحياء العام.
في مقابلة له مع صحيفة “نيويورك تايمز” في شهر كانون الثاني/ يناير سنة 2018، قال صبري إنه رفع خلال أربعين سنة أكثر من 2700 دعوى قضائية ضد ممثلين ورجال دين وسياسيين وحتى ممتهنات الرقص الشرقي. وفي بيان إعلامي، أفاد صبري بأنه “من الواضح أن استمرار عرض الفيلم ستكون له أضرار جسيمة ناهيك عن التأثير السلبي الذي يمكن أن يتركه في قلوب ومعتقدات المصريين”. والجدير بالذكر أن الجلسة الأولى للمحكمة ستعقد يوم 23 شباط/ فبراير.
تجنب “الضيف” عرض الصورة النمطية للشخصية المتعصبة الدينية، وعوضًا عن ذلك قدم شخصية شاب وسيم خفيف اللحية وأنيق الملبس ينحدر من عائلة مرموقة ويدرس الهندسة في الولايات المتحدة الأمريكية
غضب ديني
يبدو أن فيلم “الضيف” لم يثر غضب صبري فقط، بل أثار كذلك غضب علماء الدين ومن بينهم خالد الجندي، وهو داعية بارز وعضو في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية. وأشار الجندي بغضب خلال مقابلة هاتفية مع المقدم التلفزيوني سيد علي بثت على قناة “الحدث اليوم” المصرية، إلى “أن ست مؤسسات دينية من بينها الأزهر (وهي أعلى سلطة إسلامية في مصر والمنطقة) تنص على أن الحجاب مفروض بأمر الله، في حين يحاول عيسى من خلال فيلمه إقناع الناس بخلاف ذلك”.
انتقد الجندي سلطة الرقابة المصرية، فعلى الرغم من أنها استغرقت بضعة أشهر للموافقة على الفيلم، إلا أنها لم تحذف منه أي مشاهد. وأورد الجندي أن “هذا الوضع يعد كارثة حقيقية. لدينا سلطة رقابة لا تولي اهتماما بالقرآن الذي أسيء تفسيره واقتباسه… إلى جانب الشيوخ [الذين لا يدافعون] عن دينهم”.
خالد الجندي داعية بارز وعضو في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية
من خلال هذا الفيلم، يلخص عيسى الأيديولوجيات التي كان يدافع عنها في كتاباته وبرامجه التلفزيونية طوال العقدين الماضيين، حيث صرّح خلال العرض الأول للفيلم بأن “قصة “الضيف” مستمدة من الواقع المصري والعربي، ومن الأفكار والمعتقدات المتطرفة السائدة ومن الإرهاب. فلطالما واجهنا الإرهاب بالفكر، واليوم، نحن بحاجة للتصدي له بالفن”.
كيف يثير موضوع الحجاب الغضب
تجنب “الضيف” عرض الصورة النمطية للشخصية المتعصبة الدينية، وعوضًا عن ذلك قدم شخصية شاب وسيم خفيف اللحية وأنيق الملبس ينحدر من عائلة مرموقة ويدرس الهندسة في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد تمكن هذا الشاب من التأثير على ابنة الدكتور إلى أن وافقت على ارتداء الحجاب على الرغم من نشأتها في وسط عائلي متحرر.
ترتدي العديد من النساء المصريات الحجاب لأسباب اجتماعية وليست دينية، وخضوعا للضغوط الاجتماعية والأسرية، وسعيا منهن لتجنب التحرش الجنسي. ومع ذلك، أكدت بعض النساء اللواتي تحدثن إلى موقع “ميدل إيست آي” أن هذا اللباس لا يحمي المرأة حقا من الاهتمام والإساءة غير المرغوب فيهما.
يعبر بعض المدافعين عن حقوق المرأة والمفكرين المتحررين عن رأيهم الخاص في الحجاب على أنه مرتبط في الغالب بانتشار العقيدة الوهابية السعودية المحافظة التي برزت في المجتمع المصري في منتصف السبعينيات
حيال هذا الشأن، قالت الطالبة هبة مدحت إن “المضايقات اللفظية لم تتوقف حتى بعد ارتدائي للحجاب، على الرغم من التشجيع الذي أبدته أسرتي، وهو ما جعلني أصر على خلعه بعد ذلك. وفي العديد من المجتمعات المصرية، وخاصة الطبقات الدنيا والوسطى، ترتدي بعض النساء الحجاب فقط في الشارع، بينما يخلعنه عندما يكن رفقة الغرباء في المنزل! فهل هذا ما تنص عليه التعاليم الإسلامية المزعومة؟
يعبر بعض المدافعين عن حقوق المرأة والمفكرين المتحررين عن رأيهم الخاص في الحجاب على أنه مرتبط في الغالب بانتشار العقيدة الوهابية السعودية المحافظة التي برزت في المجتمع المصري في منتصف السبعينيات. وجادل المفكر الراحل جلال أمين في كتابه “مهما حدث للمصريين”، أن فكرة الحجاب قد وصلت إلى مصر عن طريق آلاف المصريين الذين هاجروا إلى دول الخليج، وخاصة المملكة العربية السعودية للعمل خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
تنوير “الخاطب”
على امتداد الفيلم، يتعرف الجمهور على عدة وجهات نظر حول العديد من القضايا التي أثارها المناضلون المصريون مرارا وتكرارا منذ السبعينيات، على إثر حلول الجماعات الإسلامية في البلاد. ومن بين هذه القضايا ذكر الفيلم ما إذا كان الحجاب لباسا اختياريا للنساء المسلمات أو فرضا ينص عليه دين الإسلام، وهو ما أيده علماء الأزهر والسلفيون المحافظون.
خلال الأسابيع الستة الأولى من العرض، حقق “الضيف” قرابة سبعة ملايين جنيه مصري (حوالي 400 ألف دولار) وظل في المركز الثالث في شباك التذاكر المصري
في حين يعتقد علماء الإسلام أن الحجاب هو فرض ديني يعبر عن طاعة المرأة لأوامر الله، فإن عيسى يجادل من خلال بطل الفيلم “التيجاني” بأن القرآن لم يتضمن ذلك بوضوح. وخاطب التجاني أسامة قائلا: “لا توجد أي آية في القرآن الكريم تدين النساء لعدم ارتداء الحجاب أو تهدد بإلقائهن في الجحيم لهذا السبب”. وأضاف التيجاني في محاولة لتنوير الخاطب المزعوم “يا بني، إلى حدود سبعينيات القرن الماضي، لم تكن أي من بنات وزوجات مشايخ الأزهر محجبات، ولا حتى زوجة زعيم الإخوان المسلمين حينها”.
إلى جانب ذلك، تطرق الفيلم إلى موضوع الزواج الحديث، حيث أن شخصية الحماة المستقبلية التي جسدتها شيرين رضا تخفي الأسرار الخاصة بها والتي تصدم شخصية أسامة المتزمتة.
عيسى: “يهدف الفن إلى تحريض العقل”
خلال الأسابيع الستة الأولى من العرض، حقق “الضيف” قرابة سبعة ملايين جنيه مصري (حوالي 400 ألف دولار) وظل في المركز الثالث في شباك التذاكر المصري، ويتواصل عرضه في معظم قاعات السينما المصرية. وصرح أحد المسؤولين من شركة إنتاج الفيلم “آي برودكشن” أن “الصفقات جارية حاليا لعرض الفيلم في عدد من الدول العربية والأوروبية”.
ردا على التفاعل الهائل الذي لقيه الفيلم الجديد، كتب عيسى على حسابه على تويتر: “أنا فخور بالآراء الإيجابية المتعلقة بالفيلم، وحتى الجدل الذي أثير حوله، أو الأشخاص الذين أبدوا استياءهم أو انتقادهم له. فهذه هي وظيفة الفن، أن يخاطب الوجدان ويحرض العقل”.
المصدر:: ميدل إيست آي