عقب وصوله إلى السلطة وتقلده منصب الرئاسة، تعهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعدم السماح بتدخل فرنسا من خلال قواتها المسلحة في السياسة الداخلية للدول الإفريقية التي وصفها بالشريكة، مؤكدًا في أكثر من مرة انتهاء عهد الوصاية الفرنسية على القارة السمراء، إلا أن الواقع يؤكد عكس ذلك، فما فتئت هذه الدولة الأوروبية تدعم العديد من النظم الاستبدادية في القارة مقابل استمرار مصالحها هناك.
المصالح قبل حقوق الإنسان
تُتهم السلطات الفرنسية بتقديم دعم كبير وسخي لرؤساء وأنظمة في القارة الإفريقية، رغم سجلهم الحافل بانتهاكات حقوق الانسان والاستبداد، دون أن تراعي مصلحة الشعوب الإفريقية التي تتوق إلى الحرية والسلام والتمتع بثروات بلدانهم المنهوبة.
ليس المهم عند الفرنسيين الدفاع عن حقوق الإنسان، بقدر ما هو مهم عندهم الدفاع عن مصالحهم وإن كلفهم ذلك رمي المبادئ الإنسانية التي يتغنون بها ويتباهون بها في المحافل الدولية والإقليمية عرض الحائط، فمصالحهم أهم.
وتبين العديد من الوقائع أن لا قيمة للمبادئ والقيم الإنسانية لدى السلطات الفرنسية، حتى لو أدى ذلك إلى التورط في ازدواجية فاضحة بين ما يطفح به المسؤول الفرنسي من اعتبار قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان موجهًا رئيسيًا لسياسات الجمهورية، والواقع الذي يؤكد دعمًا كبيرًا لأنظمة ديكتاتورية.
صمام أمان للنظام التشادي
تقول فرنسا إن قواتها العسكرية المتمركزة بمناطق عدة في إفريقيا هدفها الأساسي والوحيد محاربة الإرهاب والجريمة المنظمة، غير أن بعض الوقائع تثبت عكس ذلك، ومن ذلك ما حصل مؤخرًا في التشاد من تدخل لسلاح الجو الفرنسي.
في الـ4 من شهر فبراير/شباط الحاليّ، أعلن الجيش الفرنسي في بيان له أن سلاح الجو الفرنسي قام بعملية عسكرية في شمال التشاد، وتمثلت العملية العسكرية في قصف أهداف، دعمًا لقوات من الجيش التشادي التي كانت تصد قافلة لمقاتلين حاولوا اختراق الحدود، قادمين من ليبيا.
وأضاف الجيش “تدخلت طائرة ميراج 2000 تابعة للقوات المسلحة الفرنسية بالتعاون مع جيش تشاد في شمال البلاد لقصف قافلة من 40 سيارة بيك أب تابعة لجماعة مسلحة من ليبيا بعدما توغلت في عمق الأراضي التشادية”، وتابع قائلاً “هذا التدخل جاء بناء على طلب من السلطات التشادية، وساهم في منع هذا التقدم المعادي وتشتيت الرتل”.
تعمل فرنسا، من خلال دعمها لهذه القوى الاستبدادية على مقاومة التغير في موازين القوى العالمية وانكماش نفوذها
لم يكن ذلك الرتل، إحدى الجماعات الإرهابية المقاتلة هناك، بل كانت جماعة تشادية معارضة تتخذ من جنوب ليبيا مقرًا لها، وتنتمي إلى صفوف اتحاد قوى المقاومة الذي يسعى للوصول إلى السلطة في التشاد وإنهاء حكم الرئيس إدريس ديبي.
وبعد أسبوع من الحادثة، أعلن وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، أن تدخل بلاده عسكريًا في التشاد، جاء لوقف انقلاب عسكري، كان سيطيح بالرئيس التشادي إدريس ديبي، وأوضح لودريان قائلاً “وجه الرئيس إدريس ديبي إلينا رسالة خطية، طالبًا التدخل لوقف الانقلاب الآتي من الجنوب الليبي، ولحماية بلده“.
وهذه المرة الثانية التي تتدخل فرنسا في التشاد وتساعد الرئيس، فقد سبق أن قامت بنفس الشيء سنة 2008، وساعدت الرئيس الذي يحمل في سجله جرائم كبرى وانتهاكات لحقوق الإنسان، وكان إدريس ديبي قد وصل إلى السلطة إثر انقلاب عام 1990.
دعم حفتر المتهم بارتكاب جرائم حرب في ليبيا
رغم ادعائها الوساطة بين الفرقاء الليبيين والسعي المستمر لحل الأزمة الليبية والتأسيس لدولة ديمقراطية تحفظ الإنسان وتصون كرامته، عمدت باريس إلى دعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر، على حساب رئيس الوزراء المعترف به أمميًا فايز السراج الذي تسيطر قواته على العاصمة الليبية طرابلس وعلى غرب البلاد.
وسبق أن تم الكشف عن وجود عسكري فرنسي لدعم قوات حفتر ميدانيًا، ففي الـ20 من يوليو/تموز 2016، تم الكشف عن وجود عسكري فرنسي في ليبيا، رغم نفي فرنسا سابقًا نيتها التدخل العسكري المباشر هناك، حيث أعلنت باريس يومها ذلك عندما قال لي فول المتحدث باسم الحكومة الفرنسية: “نستطيع تأكيد وجود قوات خاصة فرنسية في ليبيا”، للمشاركة في محاربة من وصفهم بـ”الإرهابيين”.
يُتهم اللواء المتقاعد خليفة حفتر بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، كما يرفض قبول مشروعية حكومة الوفاق الوطني بقيادة فائز السراج، خاصة بعد الدعم الكبير الذي وجده من فرنسا سواء دبلوماسيًا أم عسكريًا.
وفي الـ9 من يوليو/تموز 2016، نشر موقع “ميدل إيست آي” البريطاني، تسجيلات صوتية مُسربة، لمحادثات الخطوط الجوية في بنغازي شرقي ليبيا، كشفت عن دعم عسكري فرنسي وغربي للقوات الموالية لحفتر شرقي البلاد، بوجود غرفة عسكرية غربية بقيادة فرنسية هناك، رغم أن فرنسا تدعم بشكل مُعلن حكومة الوفاق الوطني الليبي التي كانت من مخرجات اتفاق الصخيرات المدعوم غربيًا وأمميًا.
صفقات الأسلحة مقابل السكوت عن انتهاكات السيسي
غربًا إلى الجارة مصر، حيث كان هناك الرئيس ماكرون قبل أيام، في زيارة التقى فيها زعيم الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي، وهو ما يعتبر دعمًا قويًا لنظام السيسي القمعي، حتى وإن قال الرئيس إيمانويل ماكرون إن أوضاع حقوق الإنسان في مصر ازدادت سوءًا منذ أكتوبر/تشرين الأول 2017 حين زار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي باريس.
غير أن الحديث عن حقوق الإنسان في تلك الزيارة لم يستغرق ثوانٍ قليلة، ختمها ماكرون بالقول إنه يحترم توجهات الرئيس المصري وسياساته الداخلية، وفي ذلك إشارة أن هدف ماكرون الذي قتل أحد مواطني دولته في السجون المصرية سنة 2013، لم يكن دفع النظام إلى احترام حقوق الإنسان، فالصفقات أهم.
ووقعت فرنسا في تلك الزيارة قرابة ثلاثين اتفاقية أو عقدُا، تقدر بمئات ملايين اليوروهات في مجالات النقل والطاقة المتجددة والصحة ومنتجات الأغذية الزراعية، وضم الوفد الفرنسي 50 من رؤساء الشركات الفرنسية.
تعول فرنسا كثيرًا على الخيرات الإفريقية وليس من السهل أن تتخلى عنها مرة واحدة، لذلك عملت على تهيئة الأرض لضمان الوصول إلى المواد الخام الإستراتيجية للقارة
خلال زيارة قام بها السيسي لفرنسا عام 2017، سعى ماكرون لإقناع جنرال الانقلاب بالإفراج عن السجناء وتحسين أوضاع الحريات، لكنه ما لبث أن تراجع بقوله إنه ليس من حقه أن يلقي محاضرة على مصر في مجال الحريات المدنية، وكان من أسباب تراجعه الصفقات الدفاعية التي أبرمتها فرنسا مع مصر منذ 2015 بقيمة 6 مليارات يورو، وشملت تلك الصفقات 24 طائرة رافال، وهناك مفاوضات تجري لبيع 12 مقاتلة أخرى من الطراز نفسه لمصر.
وكانت منظمات غير حكومية مدافعة عن حقوق الإنسان قد اتهمت، خلال النصف الثاني من 2018، فرنسا بأنها قدمت لمصر منذ خمس سنوات أسلحة وآلات وأنظمة مراقبة يستخدمها نظام السيسي لـ”سحق الشعب المصري”.
وفي تقرير مشترك من 64 صفحة، أكد كل من الاتحاد الدولي لرابطات حقوق الإنسان ومركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان ورابطة حقوق الإنسان ومرصد الأسلحة، أن “الدولة الفرنسية والعديد من الشركات الفرنسية شاركت في القمع الدموي المصري في السنوات الخمسة الأخيرة”.
امتيازات كبيرة
لم تكتف فرنسا بالتدخل في التشاد ومصر وليبيا فقط، بل في العديد من الدول الإفريقية الأخرى، على غرار الجزائر وموريتانيا وبنين وبوركينا فاسو وكوت ديفوار وغينيا بيساو ومالي والنيجر وجمهورية إفريقيا الوسطى وتوغو، وغيرها من الدول.
وتعمل فرنسا من خلال دعمها لهذه القوى الاستبدادية على مقاومة التغير في موازين القوى العالمية وانكماش نفوذها، في ظل إحداثيات نمو الصين وروسيا وقوى إقليمية أخرى في إفريقيا، وتخلفها عن الصراع على الهيمنة التكنولوجية الذي تقوده الصين والولايات المتحدة، فمنذ سنوات صرح شيراك أن دون إفريقيا ستصبح فرنسا في مصاف العالم الثالث، وللأسف كان ذلك على حساب مصالح الدول وحقوق الإنسان.
وذكر نائب رئيس الوزراء الإيطالي دي مايو، مؤخرًا، أن هجرة الأفارقة إلى أوروبا سببها السياسات الفرنسية نحو إفقار إفريقيا، فما زالت العملة الرسمية للمستعمرات الفرنسية هي “الفرنك الإفريقي”، وهي 14 دولة إفريقية من السنغال وتشاد إلى الكونغو.
ويرتبط الفرنك الإفريقي بـ”الفرنك الفرنسي”، ليصبح مؤخرًا مربوطًا باليورو، وهذه الدول بها أقل دخل في العالم وأكثر فساد رغم أنها تمثل كنزًا وموردًا للموارد الطبيعية لفرنسا بأقل الأسعار، وتعداد سكان هذه الدول 150 مليون شخص، ولذا يذهب السياسي الإيطالي إلى أن المكتسبات الفرنسية التاريخية أصبحت اليوم عبئًا على أوروبا وإفريقيا على السواء.
تنتشر القوات الفرنسية في مناطق واسعة من إفريقيا
تعول فرنسا كثيرًا على الخيرات الإفريقية وليس من السهل أن تتخلى عنها مرة واحدة، لذلك عملت على تهيئة الأرض لضمان الوصول إلى المواد الخام الإستراتيجية للقارة (النفط واليورانيوم وغيرها) ومحاولة توفير منافذ متميزة للشركات متعددة الجنسيات الفرنسية.
وتسيطر فرنسا على اليورانيوم الموجود في الصحراء الإفريقية، إذ تعتمد فرنسا في تلبية نحو 75% من احتياجاتها من الكهرباء على الطاقة النووية، وهو ما يفسر اعتماد فرنسا الكبير على خام اليورانيوم، كما تسيطر على أبرز آبار النفط والغاز.
وضمنت باريس من خلال هذا التمشي عشرات المليارات النقدية المتدفقة باستمرار لخزائنها لتمويل العجز المزمن بموازنتها، وعن طريقها تمكنت من الاستئثار بمعظم العقود المربحة على حساب الشركات الإفريقية المحلية أو الأجنبية، بداية من العقود الزراعية وحتى عقود الأمن وتوفير الأسلحة ومرورًا بالأدوية والنقل والطاقة وغيرها.
لطالما ادعت فرنسا أنها راعية حقوق الإنسان، ولكن من أجل مستقبلها أدارت ظهرها عن جرائم الأنظمة وانتهاكات حقوق الإنسان، ما جعلها محل اتهامات عديدة بالازدواجية في الخطاب وحماية الأنظمة الديكتاتورية في القارة الإفريقية، فإلى متى يتواصل هذا الحال؟