ترجمة وتحرير: نون بوست
كتب: أرشانا نارايانان ومحمد سيرجي وماثيو مارتن
عندما قطعت المملكة العربية السعودية علاقاتها مع قطر في منتصف سنة 2017، اختار العديد من المصرفيين الدوليين السعي وراء عمولة غير متوقعة ومحتملة في الرياض على حساب عقد صفقات مع جارتها الغنية والمعزولة. مع ذلك، يبدو هؤلاء غير مستعدّين للانحياز لأي طرف بعد الآن.
وفقا لمقابلات مع أشخاص مقربين من المقرضين والحكومة القطرية، يكثف المدراء التنفيذيون لشركات “إتش إس بي سي” “وغودلمان ساكس” والبنوك العالمية الأخرى جهودهم لإصلاح العلاقات مع وزارة المالية القطرية وصندوق الثروة السيادية. وعلى الرغم من أن المملكة لا تزال وجهة مهمة وأساسية للأعمال، إلا أن بعض المصرفيين يشعرون بالندم لصرف انتباههم عن الدوحة بعد أن وقع خداعهم عندما أخّر السعوديون بيع حصة في شركة النفط العملاقة أرامكو خلال تموز/ يوليو الماضي.
حيال هذا الشأن، قال أيهم كامل، رئيس قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مؤسسة “يوراسيا غروب” التي تتخذ من لندن مقرا لها: “لا تفضل البنوك إيجاد نفسها في موضع الاختيار بين الأطراف، لكن تقليل التوتر في هذه القضية يوفر فرصة للمديرين التنفيذيين للبحث في مسألة تطبيع نشاطهم. لقد تغير السياق الجيوسياسي لأزمة قطر، ولن تأخذ الأزمة منحا تصاعديا على أقل تقدير”.
علي شريف العمادي
وفقا لما ذكره أحد المطلعين على شؤون الحكومة، يحرص المصرفيون على استعادة ثقة وزير المالية القطري، علي شريف العمادي، وهو رجل يبسط نفوذه على أكبر بنوك البلاد وشركات الطيران الوطنية وصناديق الثروة السيادية. وخلال شهر كانون الأول/ ديسمبر، زار نحو 10 مدراء تنفيذيين لبنوك عالمية العاصمة القطرية، الدوحة، لحضور مؤتمر اليورومني، حيث كان للعمادي مداخلة. في الواقع، سافر بعضهم من دبي عبر عمان أو الكويت للوصول إلى قطر منذ أن وقع حظر الرحلات الجوية المباشرة بعد انفجار الأزمة، علما وأنه لم يشارك أي من هؤلاء في هذا الحدث خلال السنة الماضية.
وفقا لبعض المديرين التنفيذيين الذين رفضوا الكشف عن أسمائهم بسبب حساسية الموضوع، يبدو أنه في ذلك الوقت، كانت مخاطر الدخول في أعمال تجارية مع قطر أعلى بكثير، لأن كلا من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة كانتا قد حذرتا المصرفيين بشكل غير رسمي من عواقب إقامة علاقات وثيقة مع الدوحة. وقال أشخاص على دراية بهذا الموضوع، إن البنوك المركزية طالبت المُقرضين بكشف عمق علاقاتهم مع العملاء القطريين. وإلى جانب البحرين ومصر، قاطعت السعودية والإمارات دولة قطر اقتصاديا ودبلوماسيا وسياسيا بعد اتهامها بتمويل الإرهاب والتقرب من إيران، وهي المزاعم التي تنفيها الدوحة. وعلى نطاق أوسع، خلق ولي العهد محمد بن سلمان، زعيم المملكة الشاب، أعداء له من خلال اتباعه لسلسلة من السياسات الخارجية العدوانية.
في هذا الصدد، قال غريغوري غوز، أستاذ الشؤون الدولية وأخصائي في الشأن السعودي في جامعة تكساس “إي أند إم”، إن “بن سلمان غيّر قواعد اللعبة على مستوى السياسة الداخلية والاقتصادية السعودية، دون أن يكون للقواعد الجديدة أي معنى. في الواقع، ستُثبّط هذه الخطوات الاستثمار، كما أن المخاطر التي يواجهها على الساحة الدولية ستثير شكوك المستثمرين الدوليين”. وأضاف غزو أن “هناك صفقات مربحة للغاية في قطر لا يمكن تفويتها”.
على الرغم من احتفاظ هؤلاء المصرفيين بمكاتبهم وموظفيهم في الدوحة والتزامهم الصمت حيال المأزق السياسي الذي تعيشه قطر، إلا أن الكثيرين اختاروا سرا البقاء على الجانب الآمن والنأي بأنفسهم عن قطر
خلال فترة محددة، كان الضغط والإكراه المفروض على قطر ناجحا. فقد أمضى المصرفيون سنوات في تقديم قروض وسندات رخيصة للمقترضين في المملكة، لذلك وقع تفضيلهم مرة أخرى في عمليات العروض العامة الأولية المربحة، وعمليات الاندماج والاستحواذ التي آتت أكلها. ومع وجود شركة أرامكو التي من المفترض أن تجمع ما يصل إلى 100 مليار دولار خلال العرض العام الأولي و40 مليار دولار أخرى في عمليات الخصخصة، كان التردد وعدم اختيار جانب واحد للانحياز إليه مسألة محفوفة بالمخاطر.
على الرغم من احتفاظ هؤلاء المصرفيين بمكاتبهم وموظفيهم في الدوحة والتزامهم الصمت حيال المأزق السياسي الذي تعيشه قطر، إلا أن الكثيرين اختاروا سرا البقاء على الجانب الآمن والنأي بأنفسهم عن قطر. في هذه الأثناء، وبدلا من دبي، التي تعتبر المركز المالي للشرق الأوسط، أصبحت الكثير من الأعمال القطرية تُنفذ انطلاقا من لندن أو نيويورك. ووفقا لبيانات جمعتها وكالة الأنباء “بلومبرغ”، لم يقم بنك “إتش إس بي سي”، وهو أكبر صانع صفقات في المنطقة، بترتيب صفقة عامة واحدة في قطر منذ بداية الأزمة خلال شهر حزيران/ يونيو 2017. وقد كشفت البيانات أن هذا البنك قد أنجز 15 عملية بيع لسندات في البلاد خلال السنتين اللتين سبقتا 2017.
لم يكن بنك ميزوهو الياباني حذرا. فبعد أن كلفته قطر بإدارة 12 مليار دولار من السندات في السنة الماضية، تراجع هذا البنك في وقت لاحق عن الصفقة لأن مسؤولين من مكتب إدارة الدين العام في المملكة العربية السعودية، وهي وحدة تابعة لوزارة المالية، جعلت البنك يختار الطرف الذي يجب عليه العمل معه، وفقاً لشخص كان مطلعا بصفة مباشرة على الأحداث.
لم يكن خيار السلام الذي اتخذه البنك كافيا، فقد انتهى الأمر بتخلي السعوديون عن التعامل مع بنك ميزوهو وحرمانه من إدارة سندات اليوروبند الخاصة بهم، التي تقدر قيمتها بحوالي 11 مليار دولار. وفي حين رفض بنك ميزوهو التعليق على ما بدر من الحكومة السعودية، صرح متحدث باسم الوزارة أن “وزارة المالية تختار البنوك على أساس قدراتها والوفاء بالتزاماتها ناهيك عن استعدادها للعمل مع المملكة”.
لم تجد كل البنوك التي تعاملت مع كلتا الجبهتين نفسها في ورطة، فقد تحصل بنك ستاندرد تشارترد على سندات بقيمة 12 مليار دولار من الحكومة القطرية سنة 2018، وتمكن من تأمين اتفاق مماثل مع جهات سعودية بقيمة 1.4 مليار دولار. نتيجة لذلك، تفوّق “ستاندرد تشارترد” على بنك “إتش إس بي سي” للمرة الأولى، الذي كان يعتبر في السابق من أكبر مديري السندات الإقليمية.
تحاول البنوك الدولية تحسين علاقاتها من جديد مع قطر في كنف الهدوء؛ حتى لا تتأثر علاقاتها المالية مع الحكومة السعودية، التي تسير نحو خصخصة الكثير من الشركات الكبرى، على أمل الحصول على أرباح تصل إلى 11 مليار دولار من مبيعات الأصول هذه السنة.
حيال هذا الشأن، امتنع ممثلون عن “إتش إس بي سي” “وستاندرد تشارترد” “وغولدمان ساكس” عن التعليق عن كيفية تعاملهم مع الاضطرابات السياسية، في حين لم تستجب وزارة المالية القطرية وجهاز قطر للاستثمار لطلبات التعليق حول هذه المعطيات. وقد جرت السفن بما تشتهي رياح الدوحة بعدما أجلت السعودية الاكتتاب العام لأسهم شركة أرامكو، حيث كانت العديد من البنوك تعتمد على دفعات الرسوم الضخمة، وفقا لمصادر على دراية بحيثيات هذا الصراع.
علاوة على ذلك، لم يتم تنفيذ الخطط المتعلقة بخصخصة الكثير من المشاريع الكبرى؛ على غرار بيع مطار الرياض وحصص من البورصة وغيرها. لذلك، تحاول البنوك الدولية تحسين علاقاتها من جديد مع قطر في كنف الهدوء؛ حتى لا تتأثر علاقاتها المالية مع الحكومة السعودية، التي تسير نحو خصخصة الكثير من الشركات الكبرى، على أمل الحصول على أرباح تصل إلى 11 مليار دولار من مبيعات الأصول هذه السنة.
كما خدم الاحتجاج الدولي الذي جاء على خلفية مقتل الصحفي، جمال خاشقجي، مصالح قطر. وقبل أسابيع من دعوة القطريين للبنوك العالمية إلى مؤتمرَين استثماريين، قرر بعض المديرين التنفيذيين تجنب حضور مؤتمر موسع نُظم في الرياض لتجنب الدعاية السلبية. وقد أخفى عدد من الممثلين الإقليميين الذين حضروا المؤتمر في الرياض بطاقات هوياتهم، وهو ما لم يفعلوه في مؤتمر اليورومني ومنتدى الدوحة، اللذين عُقدا خلال شهر كانون الأول/ديسمبر.
أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أثناء إلقاء كلمة خلال الجلسة الافتتاحية لمنتدى الدوحة في 15 كانون الأول /ديسمبر
على سبيل المثال، اعتذر مدير مصرف “دويتشه بنك“ الألماني، كريستيان سوينغ، عن حضور فعاليات مؤتمر الرياض في اللحظة الأخيرة ليظهر على منصة في الدوحة، التي تعد موطن أكبر المساهمين في البنك. وحضر بعض المصرفيين إلى المؤتمر بهدف مصافحة وزير المالية القطري، علي شريف العمادي، ومقابلة مسؤولين عن الصندوق السيادي للبلاد، على حد تعبير بعض المصادر.
وفقا لروري فايف، كبير الخبراء الاقتصاديين في مركز أبحاث “مينا إيدفايزر”، الذي يتخذ من لندن مقرا له، فإنه على الرغم من أن الكثيرين يعتقدون أن قطر ستتردّد في إصلاح العلاقات مع البنوك ذات العلاقات العميقة مع السعودية، إلا أنها قد ترحب بالمبادرات التي ستتلقاها من الآخرين من أجل التعاون في الصفقات التي تعتبر في طور إعدادها.
خلال هذه السنة، خصصت قطر 25 مليار دولار لإنفاقها على تطوير البنية التحتية تحضيرا لكأس العالم لسنة 2022، كما تعمل على الرفع من قدرة إنتاجها للغاز الطبيعي المسال لتحقيق أرباح إضافية بقيمة 40 مليار دولار بحلول سنة 2024، وكذلك تزويد الصندوق السيادي القطري الذي تبلغ قيمته 320 مليار دولار بمزيد من السيولة. من جهة أخرى، يتطلع الصندوق إلى امتلاك حصص في شركات تكنولوجيا أمريكية لموازنة ما تملكه في الأسواق المالية الأوروبية والعقارات.
في الختام، صرّح فايف أن “هناك صفقات قادمة نحو قطر التي من شأنها أن تكون مربحة للغاية، وبالتالي، سترحب قطر بمعظمها. وأظن أنه، في ظل التغير الواقع، من المرجح أن تفرض السعودية ضغوطا أقل” على البنوك الدولية التي تعمل معها.
المصدر: بلومبيرغ