ترجمة وتحرير: نون بوست
لقد بدأ الأمر قبل حوالي 10 سنوات في جامعة سيراكيوز في نيويورك بالولايات المتحدة، مع مجموعة من المعادلات الرياضية المبعثرة على سبورة إحدى القاعات. لقد كان مارك هوارد، وهو يعمل حاليا كباحث في علم الأعصاب المعرفي في جامعة بوسطن، وكارثيك شانكار، الذي كان حينها واحدا من طلبته في مرحلة ما بعد الدكتوراه، يريدان فهم النموذج الرياضي لعملية استيعاب الزمن: وذلك من خلال إيجاد معادلة عصبية قابلة للاحتساب، تمكن من تمثيل الماضي، بشكل يشبه إلى حد كبير لوحة ذهنية يرسم عليها الدماغ كل ذكرياته وتصوراته. ويقول هوارد حول هذا الأمر: “يمكن التفكير في كيفية عمل شبكية العين كشاشة عرض تقدم كل المعلومات البصرية اللازمة. نفس الأمر ينطبق على علاقة الزمن بالذاكرة، ونحن نريد أن نتوصل إلى نظرية تفسر كيف يتم إظهار الذكريات في الدماغ.”
إلا أن الأمور ليست بهذه البساطة، وليس من السهل تقديم جدول بالمعلومات الحسية، مثل كثافة الضوء وسطوعه، مع وظائف أخرى مثل طول الموجة، لأن المستقبلات الحسية الموجودة في أعيننا تقوم بشكل مباشر باحتساب هذه الخاصيات المتعلقة بالأجسام التي نراها. أما الدماغ فهو لا يتمتع بهذه الخاصيات والمستقبلات الحسية، حيث يقول ماساميشي هاياشي، وهو باحث في علم الأعصاب المعرفي في جامعة أوساكا في اليابان: “إن استيعاب اللون والشكل هي مسألة واضحة بالنسبة لنا، ولكن كيفية استيعاب الوقت هي مسألة يصعب تفسيرها، إذ أنه من أجل فك هذه الشفرة يقوم الدماغ بعمليات معقدة، على عكس العملية البسيطة التي تحدث في العين.”
وقد أصبح الهدف الأساسي للباحثين هوارد وشانكار هو تفسير آليات عمل الخلايا العصبية. وفي البداية كان حدسهما فقط هو الشيء الذي يقود هذه الأبحاث، حيث يقول هوارد: “لقد كنا نسعى خلف حسنا الفني الذي يخبرنا بوجود عدد محدود من القواعد البسيطة والجميلة التي تنظم عمل الدماغ.”
التمثيل الرياضي يسمح للدماغ بالحفاظ على المعلومات حول الأحداث التي شهدها في شكل متغيرات يمكنه ترميزها رياضيا وليس في شكل معلومات زمنية لا يمكنه ترميزها
وقد ابتكر هذان الباحثان معادلات لتقديم وصف نظري لكيفية قيام الدماغ بترميز الوقت بشكل غير مباشر. وبناء على المخطط الذي طوراه، فإنه بينما تتفاعل الخلايا العصبية الحسية وترسل إشارات كرد فعل على الأحداث التي يعيشها الإنسان، فإن الدماغ في نفس الوقت يقوم برسم خريطة للجوانب الزمنية من ذلك النشاط، بالاعتماد على معادلة وسيطة لتبسيط تلك التجربة، وهي عملية تحويل Laplace (وهي تجري على الدوال الرياضية لتحويلها من مجال إلى آخر، وعادة يكون هذا التحويل من الزمن إلى التردد).
هذا التمثيل الرياضي يسمح للدماغ بالحفاظ على المعلومات حول الأحداث التي شهدها في شكل متغيرات يمكنه ترميزها رياضيا وليس في شكل معلومات زمنية لا يمكنه ترميزها. بعد ذلك يمكن للدماغ إعادة تفكيك المعادلة الرياضية الوسيطة في الجانب المعاكس من أجل التعرف على النشاط أو التجربة التي ارتبطت بها، بمعنى أنه يقوم بعملية تحويل Laplace معاكسة، من أجل إعادة بناء كل تلك الذكريات التي قام في مرحلة أولى باختزالها في معادلة رياضية.
سيدني سكوت من جامعة بوسطن.
باحث علم الأعصاب المعرفي مارك هوارد، وهو الآن يعمل في جامعة بوسطن، قام بتخصيص جزء كبير من العشرية الماضية لتطوير إطار رياضي عام يفسر كيفية قيام الدماغ ببناء سياق مؤقت للذكريات العرضية.
وبعد أشهر قليلة من انطلاق هوارد وشانكار في تفكيك وتفحص هذه النظرية، اكتشف باحثون آخرون بشكل مستقل وجود خلايا عصبية قاموا بتسميتها “خلايا الوقت”، وأكدوا أنها أقرب ما يكون إلى امتلاك سجل واضح للماضي. ويقول هوارد إن هذه الخلايا كانت كل منها مرتبطة بنقطة معينة في مسار زمني، بمعنى أن بعضها مثلا كان يرسل إشارات حسية بعد ثانية واحدة من التعرض لمصدر تحفيز، والبعض الآخر كان يرسل إشارات بعد خمس ثوان من التعرض لهذا التحفيز، وهو ما يمكن من ملء الفراغ الزمني بين التجارب. ويمكن للباحثين النظر إلى نشاط هذه الخلايا وتحديد الوقت الذي تعرض فيه الإنسان لعامل التحفيز، بناء على الخلية التي أطلقت الإشارات العصبية. هذا الاكتشاف مثل عملية إنجاز لعملية تحويل Laplace معاكسة، وهو ما كان الباحثون قد تنبأوا به، في ما يتعلق بتمثيل الدماغ لزمن الماضي. حيث يقول هوارد: “لقد كنت متفاجئا وشعرت بالإثارة، إذ أن المعادلات الرياضية التي كتبناها على اللوح الأسود أصبح ممكنا إثبات صحتها. حينها عرفت أن الدماغ البشري سوف يتعاون معنا.”
منذ اكتشاف خلايا الوقت في 2008، تمكن العلماء من التوصل إلى أدلة مفصلة ومؤكدة حول نصف المعادلات الحسابية فقط، أما النصف الآخر، وهو المتعلق بالمعادلة المتعلقة بتمثيل الزمن
مدفوعين بنتائج التجارب العملية التي تدعم نظريتهم، واصل هوارد وزملائه العمل على وضع إطار أوسع، يمكن استخدامه لتوحيد مختلف أنواع الذاكرة الموجودة في الدماغ، بل وأكثر من ذلك، حاولوا الاستفادة من أن صحة نظرياتهم المطبقة على الخلايا العصبية سوف تعني أنها يمكن استخدامها ليس فقط لتوصيف عملية ترميز الوقت في العقل البشري، بل أيضا مجموعة من الخصائص الأخرى، منها التفكير.
إلا أن كل هذه تبقى مجرد فرضيات إلى حد الآن. ومنذ اكتشاف خلايا الوقت في 2008، تمكن العلماء من التوصل إلى أدلة مفصلة ومؤكدة حول نصف المعادلات الحسابية فقط، أما النصف الآخر، وهو المتعلق بالمعادلة المتعلقة بتمثيل الزمن، فهي بقيت عند المستوى النظري، إلى حدود الصيف الماضي.
الأوامر والأختام الزمنية
في العام 2007، أي قبل عامين من شروع هوارد وشانكار في ابتكار أفكار جديدة للإطار الذي كانا يعملان عليه، كان ألبيرت تساو، باحث مرحلة ما بعد الدكتوراه في جامعة ستانفورد، يخضع لفترة تدريبية في جامعة كافلي لعلم الأنظمة العصبية في النرويج. وقد قضى هذا الباحث كامل الصيف في مختبر تابع للعالمين ماري بريت موزر وإدوارد موزر، الذين اكتشفا مؤخرا خلايا شبكية، وهي الخلايا العصبية المسؤولة عن الملاحة المكانية، وذلك في منطقة من المخ تسمى القشرة المخية الأنفية الداخلية. وكان تساو يتساءل عن المنطقة الدماغية الشبيهة بها، وهي المسماة القشرة المخية الأنبوبية الجانبية، ودورها في الدماغ.
حيث أن كلا المنطقتين توفران المعلومات التي تحتاجها منطقة أخرى تسمى قرن أمون، التي تنتج ذكرياتنا العرضية حول التجارب التي تحدث في مرحلة زمنية ومكان معين. وإذا كانت القشرة المخية الأنفية الداخلية مسؤولة عن تمثيل المكان، فإن تساو افترض أن القشرة المخية الأنبوبية الجانبية ربما تكون هي المسؤولة عن إشارات الزمن.
هذه المسألة المتعلقة بالعلاقة بين الذكريات والوقت، التي أراد تساو البحث فيها، مرتبطة بشكل كبير بتخصص علم النفس. وبالنسبة لنا نحن البشر، الوقت هو عبارة عن سلسلة من الأحداث. وهذا يفسر لماذا نتذكر الأحداث القريبة أكثر من تلك التي وقعت قبل وقت طويل، ولماذا عندما تعود بعض الذكريات إلى أذهاننا، نميل إلى تذكر الأحداث الأخرى التي وقعت في نفس الوقت. ولكن السؤال هو كيف أضيفت هذه الذكريات إلى التاريخ الزمني في أدمغتنا، وماهي العمليات العصبية التي مكنت من تخزين الأحداث ثم تذكرها؟
لاحظ الباحثون أن النشاط العصبي الذي يبدو مرتبطا بالزمن يحدث بشكل خاص في القشرة المخية الأنبوبية الجانبية
في البداية لم يتوصل تساو إلى أي نتيجة، ولم يتمكن حتى من تحديد الطريقة التي سيتعامل بها مع هذا اللغز. ثم بدأ بتفحص القشرة المخية الأنبوبية الجانبية للفئران، أثناء سعيهم للوصول إلى الغذاء داخل القفص، ولكنه لم يتمكن من قراءة البيانات التي أنتجتها هذه التجربة. حيث لم يتمكن من تحديد أي إشارات زمنية في نشاطها الدماغي.
فقام تساو بتجميد هذه التجارب، وعاد إلى الجامعة لمواصلة الدراسة، ولاحقا أثناء فترة بحثه في مختبرات موزر، قرر إعادة النظر في تلك التجارب، ولكن هذه المرة من خلال القيام بتحليل إحصائي للخلايا العصبية القشرية في العديد من المستويات. وهنا بدأ الأمور تتضح له، حيث انتبه إلى وجود نسق معين لإطلاق الإشارات العصبية، قد يعكس نمطا زمنيا معينا.
بعد ذلك بدأ تساو وبقية الباحثين في مختبر موزر بالقيام بتجارب لاختبار هذا الرابط أكثر. وفي سلسلة من التجارب، تم وضع فأر في صندوق، كانت له حرية التجوال والبحث عن الطعام. وقد قام العلماء بتسجيل نشاط النظام العصبي من القشرة المخية الأنبوبية الجانبية، ومناطق الدماغ القريبة منها. وبعد دقائق قليلة، أخذوا الفأر إلى خارج الصندوق وسمحوا له بالراحة، ثم أعادوه مجددا إلى الداخل. قاموا بهذه العملية 12 مرة خلال حوالي ساعة ونصف، مع تغيير ألوان الجدران الداخلية للصندوق، بين الأبيض والأسود في كل مرة.
وقد لاحظ الباحثون أن النشاط العصبي الذي يبدو مرتبطا بالزمن يحدث بشكل خاص في القشرة المخية الأنبوبية الجانبية. ونسق إطلاق الإشارات العصبية في هذه الخلايا ارتفع بشكل مفاجئ عندما دخل الفأر إلى الصندوق. مع مرور الثواني والدقائق، انخفض نشاط هذه الخلايا العصبية. ثم عاد هذا النشاط ليرتفع مجددا في التجربة الموالية، عندما أعاد الفأر الدخول للصندوق. وفي الأثناء، في بعض الخلايا، لوحظ أن النشاط انخفض ليس فقط أثناء كل تجربة بل خلال كل التجارب، وفي خلايا أخرى ارتفع النشاط خلال كامل المراحل.
يقول ماثيو شابيرو، عالم الأعصاب في معهد ألباني الطبي في نيويورك: “هذه التجربة وضحت أنماط النشاط العصبي التي لا تعمل فقط على تثبيت المعلومات في الدماغ بل أيضا تحليل البنية العرضية للتجارب.”
وبناء على تجميع كل هذه الأنماط والملاحظات، تمكن الباحثون من تحديد العلاقة بين مختلف مراحل التجربة والإشارات العصبية، كما لو أن هذه الإشارات تمثل أختام زمنية، يمكن وضعها بشكل مرتب، بحسب المراحل. وقد بدا لهؤلاء الباحثين أن المئات من الخلايا العصبية كانت تعمل بشكل متزامن للحفاظ على ترتيب تلك التجارب في المخ، والمدة التي استغرقتها كل واحدة منها.
ويقول ماثيو شابيرو، عالم الأعصاب في معهد ألباني الطبي في نيويورك: “هذه التجربة وضحت أنماط النشاط العصبي التي لا تعمل فقط على تثبيت المعلومات في الدماغ بل أيضا تحليل البنية العرضية للتجارب.”
وقد بدا الأمر كما لو أن الفئران استخدمت مختلف الأحداث التي مرت بها والتغييرات في السياق المحيط بها، مثل تغيير لون الجدران، لفهم المدة الزمنية التي استغرقتها كل تجربة. وافترض الباحثون أن الإشارات العصبية كانت ستبدو مختلفة تماما لو أن التجارب التي مرت بها الفئران لم تكن مقسمة إلى حلقات منفصلة بشكل واضح، من خلال تغيير السياق والمحيط في كل مرة. ولتوضيح هذا الأمر قاموا في المرة الثانية بجعل الفئران تركض في مسار على شكل الرقم ثمانية، في سلسلة من التجارب، بعضها في الاتجاه الأول وبعضها الآخر في الاتجاه المعاكس. وخلال تكرار هذه التجربة، حدث تداخل في الإشارات الزمنية الصادرة عن القشرة المخية الأنبوبية الجانبية، ما يشير إلى أن الفئران لم تكن قادرة على التمييز بين مختلف التجارب التي مرت بها، وهو ما جعل الإشارات الزمنية الصادرة عن هذه المنطقة في المخ تتداخل وتتشابه. إلا أن الخلايا العصبية من جانب آخر بدت كما لو أنها تتابع مرور الزمن داخل كل مرحلة من التجربة.
وقد شعر تساو وزملائه العلماء الباحثون بالحماس الشديد لأنهم شعروا بأنهم بدأوا بتفكيك هذه الآلية التي تقف وراء استيعاب الزمن في الدماغ، وهي التي تمكن من ترتيب وتمييز الذكريات. حيث يقول شابيرو: “هذه النتائج تظهر مدى مرونة استيعابنا للوقت. إذ أن الثانية يمكن أن تستغرق إلى الأبد، والأيام يمكن أن تختفي، هذه الطريقة في ترميز الزمن من خلال تفكيك التجارب إلى حلقات مختلفة، هي التي تفسر طريقة شعورنا بالوقت. نحن نقوم باستيعاب الأشياء التي تحدث بشكل تسلسلي، وما يحدث في هذه التسلسلات يمكن أن يحدد كيفية تقديرنا للوقت المقضي في تلك التجربة. والآن يريد الباحثون أن يفهموا كيف يحصل هذا الأمر.”
لوسي ريدينغ – إيكاندا / مجلة كوانتا
ويمكن لأبحاث هوارد الرياضية المساعدة في هذا الأمر. وقد شعر هوارد بسعادة كبيرة لدى سماعه بالنتائج التي توصل إليها تساو، والتي تم تقديمها في مؤتمر في سنة 2017 قبل أن يتم نشرها في مجلة في مجلة “الطبيعة” في أغسطس/ آب الماضي، حيث تطابقت الاختلالات التي وجدها تساو في الأنشطة الدماغية للفئران، مع ما تنبأت به نظرية هوارد، الذي قال: “إنها تشبه عملية تحويل Laplace للوقت”، وهي القطعة التي كانت تنقص العمل الكبير الذي قام به إلى جانب شانكار.
وأضاف هوارد: “كان الأمر غريبا، كانت لدينا على السبورة هذه المعادلات لتحويل Laplace وعكسه، وفي الوقت نفسه كان الناس يكتشفون خلايا الزمن. قضينا السنوات العشر الماضية في رؤية الأمر من جهة معاكسة، لكننا لم نشاهد التحويل الفعلي، الآن حصلنا عليه. لقد تأثرت كثيرا “. وقال كريم زغلول، وهو جراح أعصاب وباحث في المعهد القومي للصحة في ولاية ماريلاند: “كان الأمر مثيراً، لأن البيانات التي أظهرتها تجارب تساو كانت متسقة مع أفكار هوارد.” ومن خلال عمل نُشر الشهر الماضي، أظهر زغلول وفريقه كيف أن التغيرات في الحالات العصبية في الفص الصدغي للبشر ترتبط مباشرة بأداء ذاكرته.
وأضاف هوارد: “لم نفكر للحظة في أن العمل الذي قمت به أنا وزملائي وتلاميذي كان مجرد خيال، كان الأمر يتعلق فقط بجزء مفقود من المعادلة، وهذا الجزء لم نستطع الوصول إليه. رؤية ذلك الجزء الذي كان ينقصنا في نتائج عمل فريق آخر هو أمر رائع”.
بناء الجداول الزمنية للماضي والمستقبل
إذا كان نموذج هوارد صحيحًا، فإنه يخبرنا كيف نخلق ونحافظ على جدول زمني للماضي، وهو ما يصفه بأنه “ذيل المذنب المتأخر”، والذي يمتد خلفنا بينما نمضي في حياتنا، ويجعلنا نشعر بضبابية وتوتر أكبر كلما كانت عودتنا إلى الماضي أبعد.
ويعتقد هوارد أن تسجيل الأحداث لا يخدم فقط الذاكرة، بل عملية الإدراك ككل
يمكن أن يكون هذا الجدول الزمني غير مستخدم فقط للذاكرة العرضية في قرن آمون، بل يستخدم أيضا للذاكرة العاملة في قشرة الفص الجبهي، وهو السبب وراء الاستجابات الموجودة على المخطط الناتج عن التجارب.
وقال هوارد: “يمكن فهم هذه العمليات على أنها عمليات مختلفة تعمل على نفس شكل التاريخ الزمني”. فعلى الرغم من أن الآليات العصبية التي تسمح لنا بتذكر حدث مثل يومنا الأول من المدرسة، تختلف عن تلك التي تسمح لنا بتذكر الحقائق مثل رقم الهاتف أو المهارات مثل كيفية ركوب الدراجة، فإن هذه الآليات قد تعتمد على هذا الأساس المشترك”.
واكتشاف هذه الخلايا الزمنية، التي وبحسب هوارد “عندما تبحث عنها، تراها في كل مكان”، في تلك المناطق الدماغية يدعم الفكرة. لذا، فإن النتائج التي توصل إليها مؤخرا، والتي ستنشر قريبا من قبل هوارد وإليزابيث بوفالو في جامعة واشنطن وغيرهم من المشاركين، تظهر أن القرود التي تشاهد سلسلة من الصور تمارس نفس النوع من النشاط الذهني الزمني في القشرة المخية الأنفية الداخلية، وهو ما لاحظه تساو مع الجرذان، حيث يقول هوارد: “الأمر الذي ستفكر فيه هو قطعا التالي: الوقت الذي قدمت فيه الصورة”.
ويعتقد هوارد أن تسجيل الأحداث لا يخدم فقط الذاكرة، بل عملية الإدراك ككل. كما يمكن لهذه الأبحاث الرياضية نفسها، بحسب هذا الباحث، أن تساعدنا على فهم إحساسنا بالمستقبل أيضًا: كل ما علينا فعله هو إعادة تطبيق العمليات الرياضية المستخدمة لتحليل ما حصل في الماضي. وقد يساعدنا ذلك جيدًا في فهم الوقت، حيث أنه يشارك في التنبؤ بالأحداث القادمة (وهو أمر يستند إلى المعرفة التي تم الحصول عليها من تجارب الماضي).
كما بدأ هوارد في إثبات أن نفس المعادلات، التي يمكن أن يستخدمها الدماغ لتمثيل الوقت، يمكن أيضًا تطبيقها على الفضاء، والعد (تصورنا للأرقام)، واتخاذ القرارات بناء على الأدلة المجمعة، وفي الحقيقة، يمكن استخدامها على أي متغير يمكن وضعه في لغة هذه المعادلات.
وفي الشهر الماضي فقط، قام العلماء ببناء نموذج جديد للشبكة العصبية لإدراك الوقت، والذي كان يعتمد فقط على القياس والتعامل مع التغيرات في المشهد المرئي
وقال هوارد: “بالنسبة لي، ما يثيرني في هذا الموضوع هو أنك تبني نوعا من العملة العصبية للتفكير، إذا كنت تستطيع أن تكتب حالة الدماغ، ما تفعله عشرات الملايين من العصبونات، كمعادلات وتحولات للمعادلات، هذا هو التفكير”.
وعمل هوارد وزملاؤه على توسيع هذه النظرية لتشمل مجالات أخرى من الإدراك. وفي يوم من الأيام، يمكن أن تؤدي مثل هذه النماذج المعرفية إلى نوع جديد من الذكاء الاصطناعي المبني على أساس رياضي مختلف عن أساليب “التعليم العميق” الأساسية اليوم.
وفي الشهر الماضي فقط، قام العلماء ببناء نموذج جديد للشبكة العصبية لإدراك الوقت، والذي كان يعتمد فقط على القياس والتعامل مع التغيرات في المشهد المرئي. ولكن النظرية ركزت على جزء المدخلات الحسية من الصورة: ما كان يحدث على السطح، وليس في عمق مناطق الدماغ ذات الصلة بالذاكرة التي يدرسها كل من تساو وهوارد.
ولكن قبل أي تطبيق في مجال الذكاء الاصطناعي، يحتاج العلماء إلى التأكد من كيفية قيام الدماغ نفسه بهذا الأمر. ويعترف تساو بأنه لا يزال هناك الكثير مما يجب معرفته، بما في ذلك ما يدفع القشرة المخية الأنفية الجانبية للقيام بما تفعله وما الذي يسمح لبعض الذكريات بأن تبقى محفورة في الذاكرة خلافا لغيرها. لكن نظريات هوارد تقدم تنبؤات ملموسة يمكن أن تساعد الباحثين على الحصول على إجابات.
ولا شك في أن نموذج هوارد حول كيفية تمثيل الدماغ للوقت ليس هو الفكرة الوحيدة الموجودة. فبعض الباحثين، على سبيل المثال، يفترضون وجود سلاسل من الخلايا العصبية، ترتبط بالمشابك العصبية، التي تنطلق بالتسلسل. كما يمكن أيضا أن يتوصل العلماء إلى أن نوعًا مختلفًا من التحويل، وليس تحويل Laplace، هو الأنسب لتمثيل الوقت. هذه الاحتمالات لا تثني هاورد عما يقوم به، وهو يقول: “يمكن أن يكون كل شيء خاطئا، ولكننا على كل حال متحمسون ونعمل بجد”.
المصدر: مجلة وايرد الأميركية