في عراق ما بعد “الخلافة” كان هاجسنا الأساسي كشباب من مدينة قدمت 40.000 ضحية للخلاص من سواد التطرّف، هو عدم تكرار التجربة بأي شكلٍ من الأشكال، لأنها ستكون القاضية بعد ضربة قوية استطعنا بجهود محلية محاولة تجاوزها رغم أن أجساد مدننا التي ضربها التنظيم ما زالت تنزف من كل اتجاه.
بعد عامين تقريبًا من نهاية الوجود العسكري لداعش في المدن العراقية، تعود الممارسات التي أنتجت التنظيم سابقًا لتظهر على السطح من جديد، ما يدفعنا لتسليط الضوء على هذه الممارسات لعلها تستدرك فتحقن دماء العراقيين في المستقبل.
سجن التسفيرات وتكرار تجربة بوكا وأبو غريب
المتتبع للحراك المسلح في العراق ما بعد 2003 سيجد أنه تطور ضمن مراحل متعددة، بداية بقاعدة الجهاد في بلاد الرافدين بقيادة الزرقاوي مرورًا بحلف المطيبين وصولاً لدولة العراق الإسلامية بقيادة البغدادي الأول ثم الدولة الإسلامية في العراق والشام وصولاً لخلافة البغدادي، ستجد أن ما منحه الأمريكان في سجني أبو غريب غرب بغداد وبوكا في البصرة هو العامود الفقري لهذه التنظيمات جميعًا من ناحية التطور والتجنيد والتنظيم وحتى التدريب.
سجن التسفيرات في تلكيف شرق الموصل زارته النائبة في البرلمان العراقي بسمة بسيم رفقة قائد عمليات نينوى، ورغم أن التصوير مُنِع داخل السجن، فإن النائبة أكدت أن ما شاهدته داخل السجن مؤسف من الناحية الإنسانية للسجناء، مع وجود خطورة دمج للمعتقلين على خلفيات إرهابية مع المعتقلين الجنائيين
ما يحدث اليوم في سجون العراق بعد دحر داعش هو عملية شبيهة لما حدث سابقًا على يد الإمريكان، فعملية تكديس المعتقلين على خلفيات تهم إرهابية مع أصحاب الأحكام الجنائية والمدنية في مكان واحد وتحت أوضاع إنسانية قاسية تخلق بيئة خصبة لإعادة تشكيل الخلايا التنظيمية وكسب عناصر جديدة في هذه التنظيمات، ما سيجعلها جاهزة للعمل فور خروجها من المعتقلات، كما حدث في معتقلي أبو غريب وبوكا.
سجن التسفيرات في تلكيف شرق الموصل زارته النائبة في البرلمان العراقي بسمة بسيم رفقة قائد عمليات نينوى، ورغم أن التصوير مُنِع داخل السجن، فإن النائبة أكدت أن ما شاهدته داخل السجن مؤسف من الناحية الإنسانية للسجناء، مع وجود خطورة دمج للمعتقلين على خلفيات إرهابية مع المعتقلين الجنائيين وهو الأمر الخطير الذي نوهنا له، لكن الأخطر من ذلك هو ما ذكرته النائبة بوجود 50.000 مذكرة أمر إلقاء قبض قضائية لم تنفذ بسبب تكدس المعتقلات، الأمر الذي يدفع للتساؤل عن عدد المعتقلين الحقيقي اليوم في العراق؟
عوائل داعش ومخيمات القنبلة الموقوتة
ما يقارب الـ50.000 يمثلون قوام سكان مخيمات ما يسمى بـ”عوائل داعش” يقطنون في محيط مدينة الموصل ضمن مخيمات مغلقة عليهم تشرف عليها الأمم المتحددة، ويبلغ تعدادهم في عموم العراق 100.000 وفق منظمات دولية، هذه المخيمات التي يقبع فيها عوائل مقاتلي التنظيم الذين لقوا حتفهم أو الهاربين من المعارك وأوامر إلقاء القبض، يسكن ذويهم الخيام نتيجة خوف هذه العوائل من عمليات الانتقام التي قد تطالهم من الأهالي نتيجة الجرائم المرتكبة من شباب ورجال هذه الأسر الذين شاركوا في الكثير من القتل الممنهج الذي أداره التنظيم فترة حكمه لمدن شمال وغرب العراق بين 2014 و2017.
الإهمال للمناطق المحررة من سيطرة داعش طال ملفات التعليم والصحة والتأهيل وإعادة الإعمار وغيرها في كل الجوانب، إضافة لانتشار الفساد والتهميش والمحسوبية، يدفع الكثيرين للقول إن الأرضية التي خلقت داعش سابقًا ما زالت قائمة
هذه العوائل تركت في بيئة مغلقة دون أي برنامج حقيقي لإعادة الدمج والتأهيل لنزع فتيل التطرّف من عقول من تأثر منهم بفكر داعش، فهذه العوائل وفق تقارير دولية تتعرض لعمليات استغلال متعددة الأشكال ستساهم مستقبلاً في خلق بيئة حاضنة وتزعزع استقرار المدينة كما ذكرت لما فقيه نائبة مديرة قسم الشرق الأوسط في هيومن رايتس ووتش قائلة: “تهمش قوات الأمن العراقية آلاف عوائل العناصر المشتبه بانتمائهم إلى داعش، إذ تحرمهم من الوثائق الأساسية اللازمة لإعادة بناء حياتهم، ما لم يكف هذا العقاب الجماعي، ستمعن السلطات في إضعاف الاستقرار في الموصل”.
الإهمال عنوان المرحلة
مؤتمرات وتصريحات تكررت بشكل كبير خلال وبعد العمليات العسكرية التي أنجزت مهمة طرد داعش عسكريًا من العراق، لكن بعد مرور عامين تقريبًا من نهاية المعارك ما زال الإهمال هو السمة والعنوان الأساسي لهذه الحقبة، فالوعود بالإعمار تبخرت، فمدينة الموصل أكبر مدن العراق بعد العاصمة بغداد وأكثرها دمارًا نتيجة الحرب، لم ينجز بها غير جسر واحد من أصل خمسة جسور رئيسية رابطة بين نصفي المدينة، ولم تطلق أي تعويضات للآلاف الذي فقدوا منازلهم أو ذويهم نتيجة الحرب.
ركام جامع النبي يونس -عليه السلام- في مدينة الموصل
الوعود الحكومية والدولية على حد سواء ما زالت وعودًا إعلامية، فمشروع إعادة بناء جامع النوري الكبير ومنارة الحدباء والمنطقة المحيطة به الذي تشرف عليه اليونسكو بتمويل إماراتي ما زال حبرًا على ورق لم يضع به لبنة واحدة، بينما ينتظر جامع النبي يونس الذي وضع حجر الأساس لإعادة إعماره من رئيس ديوان الوقف السني قبل أكثر من عام دون أي تحرك على الأرض منذ ذلك اليوم!
الإهمال للمناطق المحررة من سيطرة داعش طال ملفات التعليم والصحة والتأهيل وإعادة الإعمار وغيرها في كل الجوانب، إضافة لانتشار الفساد والتهميش والمحسوبية، يدفع الكثيرين للقول إن الأرضية التي خلقت داعش سابقًا ما زالت قائمة ويمكنها أن تحمل لنا المزيد من التطرّف في قادم الأيام إذا لم يُنتبه لها وتُعالج بشكل حقيقي في عراق ما بعد “الخلافة”.