قبل أن ينتهي مؤتمر وارسو للسلام والأمن في الشرق الأوسط الذي أرادته “إسرائيل” رافعة لعلاقاتها مع دول عربية وخليجية وحتى مع الأوروبيين مقابل إيران، وقبل أن تطئ قدمه الأراضي المحتلة، فجَّر رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أزمة دبلوماسية جديدة مع بولندا، تحول معها من ضيف أفردت له بولندا سجادها الأحمر على أعتاب مؤتمر وارسو إلى شخصية منبوذة في بولندا بعد أيام قليلة.
المحرقة تلتهم قمة فيشغراد
ليس ابتداءً بعلاقته المشوبة بالسلبية مع الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، ولا انتهاءً بما جرى مع بولندا مؤخرًا، فقبل مغادرته وارسو نكأ نتنياهو جراحًا تاريخية استفزت البولنديين، إذ تناول في تصريحات له -عندما كان في زيارة رسمية لبولندا الخميس الماضي – دور البولنديين في المحرقة، وقال إنهم تعاونوا مع النازيين ضد اليهود في المحرقة (الهولوكوست)، وأنه لا يعرف أحدًا تمت مقاضاته على هذا الكلام.
كان الرد البولندي عدم المشاركة في مؤتمر مجموعة فيشغراد المقرر انعقاده في القدس المحتلة كما أعلن رئيس الوزراء البولندي ماتيوس مورافيتسكي
كلام نتنياهو هذا استدعى ردًا حازمًا من جانب الحكومة البولندية، فهددت بإلغاء قمة مجموعة فيشغراد، المعروفة أيضًا باسم V4″“، التي تُعقد للمرة الأولى في “إسرائيل” وخارج إطار الدول الأوروبية المشاركة فيها (بولندا وهنغاريا والتشيك وسلوفاكيا) منذ تأسيسها عام 1991، وكان مقررًا افتتاحها الخميس المقبل في القدس المحتلة، ما اضطره إلى تخفيف وقع أقواله بإصدار توضيح بأنه قصد بعض البولنديين لا الأمة البولندية، وهو الأمر الذي انعكس سلبًا على نتنياهو داخل “إسرائيل”، حيث انتقدته جهات إسرائيلية وطالبته بتجديد طلب الاعتذار البولندي من اليهود عمَّا فعلوه أيام الحرب العالمية الثانية.
كما دفعت تصريحات نتنياهو الخارجية البولندية إلى استدعاء السفيرة الإسرائيلية آنا أزاري لتقديم توضيحات بشأن تصنيف ما جرى ضمن التلاعب الصحفي، لكن التوضيحات الإسرائيلية التي نشرها نتنياهو والسفيرة الإسرائيلية لم تقنع الحكومة البولندية التي أعلن رئيسها إلغاء مشاركته في قمة مجموعة فيشغراد (أخذت اسمها من مدينة مجرية حيث التقى الملوك من وقت لآخر لإجراء مفاوضات اقتصادية وسياسية)، وتخفيض مستوى التمثيل فيها إلى مستوى وزير الخارجية.
زيارة نتنياهو إلى متحف تاريخ اليهود البولنديين في العاصمة وارسو
قرار لم تدم مفاعله كثيرًا، فلم تكد الأزمة تهدأ حتى أشعلها القائم بأعمال وزير الخارجية يسرائيل كاتس مجددًا بعد ساعات فقط من تعيينه في منصبه الجديد، وهذه المرة لم تكن تلاعبًا صحفيًا كما جرى تبريرها المرة السابقة، حيث أشعل أزمة دبلوماسية أخرى بقوله: “أنا ابن لوالدين حالفهما الحظ بالنجاة من النازية، وقد وُلدت وكبرت في مستوطنة سكنها ناجون من المحرقة وذكراها هي أمر لا يمكن التهاون معه، ونحن لن ننسى ولن نغفر، في الدبلوماسية يحرصون ألا تُهان أي جهة، ولكن أحدًا لا يستطيع تغيير الحقيقة التاريخية”.
لكن ما أثار غضب البولنديين كان قوله: “البولنديون تعاونوا مع النازيين بالتأكيد”، مستشهدًا بقول رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق شامير عن البولنديين: “هم يرضعون معاداة السامية مع حليب أمهاتهم”، مضيفًا: “ومن غير الممكن تجميل هذا التاريخ ونحن سنواصل حمل موروث المحرقة في إشارة منه إلى العداء لليهود”.
القرار البولندي وجد صداه أيضًا لدى جمهورية التشيك التي اتخذت قرارًا مماثلاً بمقاطعة المؤتمر الذي كان مقررًا عقدها بعد يومين
وكان الرد البولندي عدم المشاركة في مؤتمر مجموعة فيشغراد المقرر انعقاده في القدس المحتلة، كما أعلن رئيس الوزراء البولندي ماتيوس مورافيتسكي، وعلى خلفية تصريحات كاتس، استدعاء وزارة الخارجية البولندية سفيرة “إسرائيل” في وراسو لتوبيخها، وهذه هي المرة الثانية التي يتم فيها استدعاء السفيرة الإسرائيلية إلى وزارة الخارجية البولندية خلال أسبوع واحد.
القرار البولندي وجد صداه أيضًا لدى جمهورية التشيك التي اتخذت قرارًا مماثلاً بمقاطعة المؤتمر الذي كان مقررًا عقده بعد يومين، وإن كان رئيس الوزراء التشيكي أندريه بابيش سيصل في زيارة عادية إلى دولة الاحتلال على ما يبدو، ما أدى إلى إلغاء المؤتمر، وسيكتفي نتنياهو بإجراء محادثات شخصية مع رؤساء وزراء هنغاريا والتشيك وسلوفاكيا الذين سيصلون إلى تل أبيب، فيما قد يُحدد موعد آخر للقمة يكون في النصف الثاني من العام الحاليّ.
نتنياهو الخاسر في كل الأحوال
تصف “V4” نفسها بأنها “تعكس جهود بلدان منطقة أوروبا الوسطى للعمل معًا في عدد من الميادين ذات الاهتمام المشترك ضمن التكامل الأوروبي بالكامل”، وعلى الرغم من اختلافاتهم وحقيقة أنهم ينتمون إلى تجمعات سياسية مختلفة داخل الاتحاد الأوروبي، فإن أحد الموضوعات، على وجه الخصوص، التي جمعت هذه الدول في السنوات الأخيرة كان قضية اللاجئين.
لكن هناك ما هو أبعد من ذلك، فكلام نتنياهو وكاتس الذي أثار غضب بولندا ووصفته بـ”المشين والعنصري وغير المقبول”، ثم أعلنت إلغاء مشاركتها في قمة فيشغراد، دفع خبراء إلى طرح تساؤلات عن الجدوى منه في هذا التوقيت بالذات الذي تبدو فيه “إسرائيل” بحاجة إلى دعم أوروبي مقابل إيران، فمنذ أيام قليلة كانت رغبة “إسرائيل” في الاستفادة من الصراعات الأوروبية الداخلية لزعزعة الإجماع ضدها تجاه سياساتها مع الفلسطينيين أكبر من رغبتها في محاسبة بولندا أو أي دولة أخرى على دورها في الحرب العالمية الثانية.
يمثل إلغاء القمة والتوتر مع بولندا خسارة سياسية لنتنياهو الذي يسعى لاستغلال المجموعة لتفكيك وإضعاف مواقف الاتحاد الأوروبي تجاه الصراع العربي الإسرائيلي
وكان نتنياهو قد شارك في هذا المؤتمر الذي عُقد قبل عام في هنغاريا محاولاً التقرب من دول شرق أوروبا، ومن أجل دق أسافين بينها وبين الاتحاد الأوروبي والمساس بالإجماع الأوروبي حيال الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وما زال نتنياهو يحاول حتى اليوم إقناع دول في شرق أوروبا بنقل سفاراتها من تل أبيب إلى القدس المحتلة، ونجحت مساعيه جزئيًا لدى التشيك التي قررت فتح “بيت تشيكي” في القدس.
مع ذلك، يعتبر الدكتور نمرود غورن رئيس قسم الخطط السياسية في المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية أن عقد مؤتمر فيشغراد في القدس المحتلة يرمز لمرحلة إضافية في مبادرات الاحتلال لبناء تحالفات مع دول معينة داخل الاتحاد الأوروبي، تتم هذه التحالفات كما قال نتنياهو علانية، من أجل زيادة الانشقاق بين دول الاتحاد الأوروبي ومنعه من اتخاذ قرارات ناقدة لـ”إسرائيل” في الشأن الفلسطيني.
لأجل هذه الغاية، فإن نتنياهو مستعد لاستضافة قادة أجانب بعيدين عن مبادئ الديمقراطية والليبرالية وبعضهم متورط باللاسامية، واستقبالهم استقبال الملوك، حتى مع تنامي حديث الإعلام العبري عن اتساع مظاهر العداء لليهود في أوروبا، تعتبر هذه الدول العلاقات مع “إسرائيل” مدخلاً للعلاقات مع واشنطن وبعضها يحاول رفع صبغة اللاسامية عنها لاتخاذ مواقف أكثر حدة تجاه سياسة اللجوء الرسمية للاتحاد.
تنامى حديث الإعلام العبري عن اتساع مظاهر العداء لليهود في أوروبا
لذلك يمثل إلغاء القمة والتوتر مع بولندا خسارة سياسية لنتنياهو الذي يسعى لاستغلال المجموعة لتفكيك وإضعاف مواقف الاتحاد الأوروبي تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، كما يبدو نتنياهو خاسرًا في أحسن حالاته، ومتكئًا على إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في معظم خطواته الدولية، وذاك جدل جديد يثيره نتنياهو عن أدائه، ومن المتوقع أن يكون إحدى نقاطه السود في السباق الانتخابي الإسرائيلي في أبريل/نيسان القادم.
وفي محاولة للتقليل من تداعيات الأزمة، كتب الصحفي أمنون لورد في صحيفة “إسرائيل اليوم” أن معاداة السامية “ليست أيدولوجية النظام أو الدولة البولندية الحاليّة”، وأضاف أن “بولندا تقف إلى جانبنا ضد قوة شرق أوسطية هي إيران، التي تعد معاداة السامية أيدولوجية رسمية” لها.
لكن قول أمنون لورد لم يصلح مساعي نتنياهو في للحصول على دعم دول المجموعة لسياسة “إسرائيل” تجاه الفلسطينيين، وبحسب مراقبين، كل شيء مرتبط بنتنياهو الآن وبما هو مستعد لتحمله لانعقاد المؤتمر والحصول على الصورة وعلى هذا الحلف داخل الاتحاد الأوروبي وإذا ما كان يُفضِّل الموقع السياسي على الحقيقة التاريخية التي لطالما نادى بها.
اجتماع سابق لقمة فيشغراد
معاداة السامية.. سلاح “إسرائيل” ضد من ينتقدها
عانت بولندا خلال الحرب العالمية الثانية من احتلال وحشي من النظامين النازي والسوفيتي، وتوفي أكثر من 5 ملايين مواطن بولندي، بينهم 3 ملايين يهودي، وفيما يتعلق بالمحرقة، اعترضت البلاد لسنوات طويلة على مصطلح “معسكرات الموت البولندية”، قائلة إنه قد يشير ضمنًا إلى تواطؤ في المعسكرات النازية المبنية على ترابها في أثناء الاحتلال النازي.
وتعود جذور الخلاف الإسرائيلي مع بولندا إلى قانون بولندي صادقت عليه بولندا في فبراير/شباط 2018، ويهدف للدفاع عن صورة بولندا، وينص على تجريم ربط معسكرات الموت البولندية إبَّان الحرب العالمية الثانية بالشعب البولندي، كما ينص على عقوبة تصل للسجن 3 سنوات لكل من ينتهكه سواء كان بولنديًا أم أجنبيًا.
بعد اتصالات كثيرة مع البولنديين وتشكيل طاقم خاص تم حل الخلاف بشأن قانون المحرقة البولندي في العام الماضي ووافقت بولندا على تغيير القانون الذي لم يعد ينص على عقوبة السجن
ويحظر القانون فرض أي مسؤولية على البولنديين في موضوع المحرقة وجرائم النازية، وهو ما أثار غضبًا في “إسرائيل” وتسبب في أزمة دبلوماسية بينها وبين بولندا، وقال نتنياهو وقتها إن القانون البولندي فارغ وتعارضه “إسرائيل” بقوة، لأنه من غير الممكن تغيير التاريخ ويحظر إنكار المحرقة.
وبعد اتصالات كثيرة مع البولنديين وتشكيل طاقم خاص تم حل الخلاف بشأن قانون المحرقة البولندي في العام الماضي ووافقت بولندا على تغيير القانون الذي لم يعد ينص على عقوبة السجن لمدة تصل إلى ثلاث سنوات، وتوصل نتنياهو ونظيره البولندي إلى اتفاق على الخروج بتصريح مشترك يؤكد دور المقاومة البولندية في مساعدة اليهود، وبدت المكاسب السياسية في التصدي لسياسات الاتحاد الأوروبي تجاه “إسرائيل” من خلال تعزيز العلاقات مع دول مجموعة فيشغراد أكثر أهمية حينها من الخلافات في الخلافات التاريخية رغم أهميتها في “إسرائيل”.
لكن الاتفاق اعتُبر نجاحًا دبلوماسيًا بالنسبة لبولندا، وواجه نتنياهو انتقادات من مؤرخين في “إسرائيل”، من ضمنهم متحف “ياد فاشيم”، لموافقته على البيان الذي رأوا أنه يحرَّف التاريخ، وانتقد مؤرخون إسرائيليون بارزون البيان المشترك بشدة، وقالوا إنه يتبنى بشكل غير دقيق الرواية البولندية للمحرقة، ويبالغ في الجهود البولندية لإنقاذ اليهود ويقلل من حجم الفظائع المعادية لليهود التي ارتكبها بولنديون.
ومع علمه بوجود قانون في بولندا ينص على فرض عقوبة السجن على كل من يتهم الشعب البولندي بالمسؤولية عما ارتكبته النازية، يبدو السؤال ملحًا: هل هي نباهة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في استغلال مواقف خارجية في صراعاته الداخلية فتنقلب عليه مزيدًا من التحفظ بشأن صورته؟
يقر الكثيرون بوجود المحرقة، لكن اليهود بالغوا فيها، واتخذتها دولة الاحتلال كأساطير وخرافات لتأسيس كيانها واحتلال فلسطين، واستخدمتها كسلاح ضد أي فرد أو دولة تنتقدها أو تكِّذب هذه الأسطورة.
لافتتان كتب عليهما “هذا معسكر اعتقال بولندي” تركت على سكة حديد خلال المسيرة السنوية إلى معتقل أوشفيتز بيركناو في بولندا
معاداة السامية، المصطلح الذي ابتدعه الصحفي الألماني وليام مار عام 1879 يعني التمييز ضد اليهود عرقيًا أو دينيًا، أي أنه يحضر العرق السامي في اليهود فقط، ورغم أن العرب يندرجون تحت التصنيف ذاته، حيث ينتشر الساميون الذين يُنسبون إلى سام بن نوح عليه السلام في جنوب غرب آسيا وشمال إفريقيا، إلا أن تهمة معاداة السامية تطالهم أيضًا، خصوصًا مع تطور المقاومة ضد “إسرائيل”.
وكانت معاداة السامية دافعًا حقيقيًا لاعتداءات طالت اليهود، لكن المصطلح تحول إلى سلاح تستغله “إسرائيل” لإسكات الأصوات المعارضة لسياساتها، حتى أصبح التفريق بين معاداة اليهود كمجموعة عرقية أو دينية ومعاداة “إسرائيل” أمرًا صعبًا.
وبحسب تعريف وزارة الخارجية الأمريكية، “أنتم معادون للسامية إذا رفضتم الاعتراف بشرعية “إسرائيل” أو حمَّلتم “إسرائيل” مسؤولية التوترات الدينية والسياسية في المنطقة أو أنكرتم حق اليهود في تقرير مصيرهم أو شككتم في الأرقام المنشورة عن الاعتداءات التي تعرضوا لها”.