يحتفل العالم في العشرين من فبراير باليوم العالمي للعدالة الاجتماعية، التي باتت مبدأ أساسيًا من مبادئ التعايش السلمي داخل الأمم وفيما بينها، فحين يقر العالم مبادئ تحقيق المساواة بين الجنسين أو تعزيز حقوق الشعوب الأصلية والمهاجرين، ويزيل الحواجز التي تواجهها الشعوب بسبب نوع الجنس أو السن أو العرق أو الانتماء الإثني، أو الدين أو الثقافة أو العجز، يكون بذلك أعلى من مبادئ العدالة ومقتضياتها.
يأتي الاحتفال هذا العام في الوقت الذي تشير فيه تقديرات منظمة العمل الدولية إلى أن حوالي ملياري شخص يعيشون حالياً في أوضاع هشة متأثرة بالنزاعات، منهم أكثر من 400 مليون تتراوح أعمارهم بين 15 و 29 سنة، ومن ثم تسعى الأمم المتحدة عبر رسالتها السنوية إلى كفالة العدالة الاجتماعية للجميع وتحقيق التنمية وصون كرامة الإنسان.
وتحت عنوان ” العمل لأجل العدالة الاجتماعية طريقنا للسلم والتنمية” حددت الأمم المتحدة مجال إحياء هذا اليوم للعام الحالي، منوهة إلى أن خلق فرص عمل وتوفير نوعية أفضل من المهن وتحسين فرص الوصول إلى الأشغال لـ40% ممن هم في أمس الحاجة للعمل، كفيل بزيادة الدخل العام والمساهمة في بناء مجتمعات أكثر تماسكاً وإنصافاً.
العدالة طريق التنمية
في العاشر من يونيو 2008، اعتمدت منظمة العمل الدولية بالإجماع إعلان المنظمة بشأن العدالة الاجتماعية من أجل عولمة عادلة، هذا الإعلان المنبثق عن بيان المبادئ والسياسات الرئيسي الثالث الذي اعتمده مؤتمر العمل الدولي منذ صدور دستور منظمة العمل الدولية لعام 1919، والمبني على إعلان فيلادلفيا لعام ،1944 والإعلان المتعلق بالمبادئ والحقوق الأساسية في العمل لعام 1998.
وفي السادس والعشرين من نوفمبر 2007، أعلنت الجمعية العامة أنه اعتبارا من الدورة الثالثة والستين للجمعية، تقرر إعلان الاحتفال سنويا بيوم 20 فبراير بوصفه اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية، هذا الاحتفال الذي جاء تتويجًا للجهود الدولية الرامية للنهوض بالعدالة في شتى القطاعات.
رغم التحسن النسبي في مؤشرات اللامساواة خلال الربع قرن المنصرم، فإن دخل أعلى 1% و 10% من السكان يساوي 27% و 61% على التوالي من اجمالي الدخل القومي
ومع اعتماد هذا الإعلان يشدد ممثلوا الحكومات وأرباب العمل ومنظمات العمال من 182 دولة من الدول الأعضاء على الدور الرئيسي للمنظمة في المساعدة على تحقيق التقدم والعدالة الإجتماعية في سياق العولمة، ملتزمين بتعزيز قدرة منظمة العمل الدولية على تحقيق هذه الأهداف، من خلال برنامج العمل اللائق.
الجمعية العامة للأمم المتحدة تسلم بأن لا غنى عن التنمية الاجتماعية والعدالة الاجتماعية لتحقيق السلام والأمن وصونهما داخل الدول وفيما بينها وأن لا سبيل، بالتالي، إلى بلوغ التنمية الاجتماعية والعدالة الاجتماعية دون أن يسود السلام والأمن ويشيع احترام جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية.
غياب العدالة الاجتماعية عززت من معدلات الهجرة
1% يحصلون على 23% من الدخل
تشير بعض التقديرات إلى أن الدول الأوروبية، وخصوصاً شمال أوروبا، تتمتع بأحسن توزيع للدخل بين دول العالم، ويستدل من الأرقام المتاحة أن نسبة دخل أغنى عشرة في المائة إلى أفقر عشرة في المائة في هذه الدول لا تتجاوز 1:7، وحتى أن بعضها، مثل السويد، ربما يكون 1:5.
في دراسة تحت عنوان “اللامساواة في الدخل والثروة وغياب العدالة الاجتماعية في العالم والوطن العربي” للباحثين ابراهيم شريف و رضى الموسوي، نشرها مركز الخليج لسياسات التنمية، كشفت أن أحد أسباب زيادة قدرة الأغنياء في التحكم في قرار توزيع فائض القيمة لصالح رأس المال والمدراء على حساب العمال وصغار الموظفين يرجع إلى اختلال موازين القوى بين العمل ورأس المال.
الدراسة أشارت إلى أنه في ثلاثيات القرن الماضي وحتى نهايته ساهم نشاط الحركة العمالية في تقليل الفجوة بين الأغنياء والفقراء، الأمر الذي انعكس بدوره على المجتمعات التي كانت تعاني وقتها من تماسك وانصهار كبير، لكن الأمور تبدلت بشكل جذري بداية القرن الحادي والعشرين.
فمع بدايات هذا القرن سيطر ما يقرب من 1% من العالم على 23.9% من إجمالي الدخل القومي، ورغم أن انهيار أسواق المال عام 1929 ثم الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية والسياسات الاقتصادية التقدمية كلها أدت إلــى تقليص حصة هذه الفئة من الدخل إلى 8.9% من الإجمالي، إلا أنها ومنذ السبعينيات استعادت موقعها بفعل قانون التراكم المستمر لرأس المال الذي تعطل أربعة عقود بسبب عوامل خارجية.
ورغم عمومية انتشار تلك الظاهرة “سيطرة فئة قليلة على الجزء الأكبر من الدخل” في كثير من الدول إلا أنها – مقارنة بأمريكا- لديها شبكات أمان اجتماعي أفضل تساهم في إعادة توزيع الثروة، ففي الدنمارك مثلا لا يتجاوز عدد من هم تحت خط الفقر 5.5% من السكان مقابل 17.5% في الولايات المتحدة التي تقبع في قاع الدول الصناعية المتطورة من حيث نسبة الفقراء .
شحّ المعلومات في الوطن العربي في ظل عدم وجود إحصاءات منتظمة عن توزيع الدخل، يجعل من الوصول إلى مؤشرات دقيقة حول اللامساواة في الأقطار العربية مسألة غاية في الصعوبة
الباحثان أشارا إلى أنه في عام 1982 كان متوسط ما يملكه أثرى 400 أمريكي يساوي 230 مليون دولار لكل واحد (يملك أقلهم 80 مليونا). أما في 2016 فإن متوسط ما يملكه كل واحد من هؤلاء بلغ 6 مليار دولار (يملك أقلهم 1,700 مليون)، موضحين استعادة الأثرياء الأمريكيون مكانتهم التي خسروها في ثلاثينيات القرن الماضي، وأصبح الواحد في المئة (1%) الأكثر ثراء يملكون أكثر من 40% من كل الأصول (الموجودات) التي يملكها الأمريكيون مقابل أقل من 60% يملكها ال 99% الباقون.
وبالنظر إلى أوضاع اللا مساواة في العالم في الفترة من 1980 إلى 2016، نجد أن هناك تناميًا في مؤشر اللا مساواة في كل أقاليم العالم، وإن اختلفت حدة هذا التنامي، حيث ارتفع نصيب أغنى 1% من سكان العالم، من 16% من الدخل القومي عام 1980، إلى 22% عام 2000، ثم انخفض إلى 20% عام 2016. بينما ارتفع نصيب أفقر 50% من سكان العالم من 7% من الدخل عام 1980 إلى 9% عام 2016.
اللامساواة في الوطن العربي
شحّ المعلومات في الوطن العربي في ظل عدم وجود إحصاءات منتظمة عن توزيع الدخل، يجعل من الوصول إلى مؤشرات دقيقة حول اللامساواة في الأقطار العربية مسألة غاية في الصعوبة، غير أنه بين الحين والآخر تجري مسوحات بالعيّنة، أو استنتاجات مبنية على تحصيلات ضريبة الدخل، أو من المعلومات عن الاستهلاك الأسري، تعطي فكرة عامة في سنةٍ ما عن توزيع الدخل في دولةٍ عربية ما.
وعلى الرغم مما يحيط بهذه الدراسات من أسبابٍ للتشكك في دقتها، ودقة الاستنتاجات عنها، إلا أن النتائج ليست مطمئنة، ففي ورقة أعدّها فريق من المختصين تحت عنوان “قياس اللامساواة في الشرق الأوسط 1990-2016: أسوأ منطقة في العالم من حيث اللامساواة“، خلصت إلى أن المنطقة العربية هي أسوأ مناطق العالم من حيث توزيع الدخل، حيث يحصل أعلى 10% من السكان على 61% من مجمل الدخل مقابل 36% في أوروبا الغربية و47% في الولايات المتحدة و 55% في البرازيل.
البنك الدولي في إحصائيات له في الفترة من 1990-2016 خلص إلى أنه رغم التحسن النسبي في مؤشرات اللامساواة خلال الربع قرن المنصرم، فإن دخل أعلى 1% و 10% من السكان يساوي 27% و 61% على التوالي من اجمالي الدخل القومي، كاشفًا أن هذه النسب لصالح الأغنياء لا يوجد مثيل لها في الاقتصاديات المتقدمة حتى في أسوَئِها من ناحية توزيع الدخل.
مظاهرات في عدد من الدول العربية لتحقيق العدالة
الدراسة أرجعت الفجوة الكبيرة في الدخول إلى عاملين: الأول يتعلق بتفاوت الدخل بين الدول الغنية بالنفط من ناحية والدول الغنية بالسكان من ناحية أخرى، والثاني اللامساواة الكبيرة داخل الدولة الواحدة، بين الأغنياء والفقراء، موضحة أن اللامساواة داخل القطر الواحد ربما تكون أسوأ مما قدّروه في الورقة بسبب صعوبة الوصول إلى المعلومات المالية الصحيحة .
الباحثان خلصا إلى أن “موجات الأمل في التغيير التي عمت أنحاء المنطقة العربية في عام 2011، ناتجة عن صحوة الطبقة الوسطى التي أدركت أن المقايضات التي اعتاشت عليها لفترة طويلة لم تعد تفي بوعد توفير حياة أفضل”، وهو ما أكده استطلاع الباروميتر العربي حول أسباب انتفاضات الربيع العربي الذي توصل إلى أن “مكافحة الفساد” و”العدالة الاجتماعية” هما العاملان الأول والثالث بنسبة 64% و57% على التوالي.
تصدر تونس ترتيب الدول العربية التي تضمنها مؤشر العدالة الاجتماعية 2018، بحلولها في المركز 40 عالميًا، وتلتها الأردن، التي جاءت في المركز 59 عالميًا
وفي دراسة نشرها منتدى البحوث الاقتصادية بالقاهرة عام 2016 حول حالة أربع دول عربية هم مصر والأردن وفلسطين وتونس، توصل الباحثون أن “عدم المساواة الاقتصادية بين الفئات الاجتماعية والديموغرافية في المنطقة العربية في ارتفاع متزايد”، موضحين أنه للوهلة الأولى تبدو اللامساواة منخفضة في المنطقة العربية، غير أن انخفاض التوظيف في القطاع العام وبرامج إعادة الهيكلة وانخفاض أسعار النفط والحد من فرص الهجرة إلى أوروبا تؤدي جميعها إلى تفاقم اللامساواة في الفرص.
مؤشر العدالة الاجتماعية 2018، الذي أصدرته منظمة «أوكسفام» البريطانية، والذي يحمل اسم «خفض اللامساواة»، ويقيس دور الحكومات في تقليص الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ويتضمن ترتيب 157 دولة في العالم، بينهم 12 دولة عربية، تضمن تصدر تونس ترتيب الدول العربية التي تضمنها المؤشر، بحلولها في المركز 40 عالميًا، وتلتها الأردن، التي جاءت في المركز 59 عالميًا، فيما حلّت الجزائر في المركز الثالث عربيًا، بحلولها في المركز 80 عالميًا.
يعتد المؤشر على اختبار 3 معايير أساسية في تحديد ترتيب كل دولة، الأول: قياس الإجراءات الحكومية بشأن: الإنفاق الاجتماعي على الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، الثاني: السياسة الضريبية بما في ذلك معدل الضريبة التي تضمن توزيعًا عادلًا للثروة، الثالث: حقوق العمال بما يتضمنه من الحد الأدنى للأجور ونسبة ذلك الحد إلى الناتج الإجمالي المحلي للدولة محل الدراسة.
وفي المجمل فإن فشل أنظمة الحكم في الوطن العربي وما تمخض عنها من تدهور سياسات التنمية المستدامة، أرسى مبادئ البقاء في السلطة والاستفراد بالقرار والتنفع منه لصالح حفنة قليلة على حساب المصلحة العامة، ومن ثم تقلصت الأحلام والأجندات الواسعة لصالح تلك الشريحة الضيقة من المتفعين المقربين من دوائر صنع القرار.