هل تستحق الحياة أن تُعاش؟ وإذا كانت كذلك فما معنى الحياة؟ وما الشيء الكامن تحديدًا في جوهرها؟ فحتى لو قدرنا حياتنا ووجودنا إلى حد كبير وقمنا بالأعمال الروتينية اليومية فنحن نعرف في الوقت ذاته أننا سنموت في نهاية المطاف وأن جميع مساعينا بلا معنى، أو كما قال بعض الفلاسفة والأدباء إن الحياة تحمل قدرًا هائلًا من العبثية، إذ يقول الروائي والفيلسوف الفرنسي ألبير كامو: “أعتقد أن حياتي هي على جانب كبير من الأهمية، ولكنني أعتقد أيضًا أن لا معنى لها”.
والعبث هو ذلك الصراع الدائم والهوة السحيقة بين وعي الإنسان وعقلانيته من جانب وعدم خضوع العالم لمعايير العقل والعقلانية من الجهة الأخرى، ولذا فإن جميع محاولات الإنسان للبحث عن معنى الحياة وحقائقها الكامنة سوف تبوء بالفشل، لماذا؟ لأن هذا العالم عبثي.
فلسفة العبثية انبثقت بالأساس من الحركة الوجودية
بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها بدأ يثور التساؤل: لقد خلفت هذه الحرب الكثير من الدماء والموت والمعاناة ولم يكن هناك تدخل إلهي يوقف سيل انهمار الشرور المتدفقة وعليه ظهرت نوبة كبيرة من السخط واللاجدوى دفعت المفكرين والفلاسفة إلى البحث عن جدوى الوجود ومن هنا بدأت عملية خلق قيم أساسية للأشياء مصدرها الوجود الإنساني: فالمهم هو حياة الإنسان الفرد وحقوقه وقيمة اللذة والتمتع بالحياة.
بدأت العبثية كتيار أدبي في فرنسا ومن هناك انتقلت إلى مختلف الآداب العالمية، وخاصة تلك الدول التي عانت من ويلات الحرب
ومن هنا تحديدًا وضعت إرهاصات الحركة الوجودية وفكرتها الأساسية القائمة على أن الإنسان هو أساس الوجود وله الحرية المطلقة في فعل أي شيء دون قيود ومن حقه أن يختار معنى حياته بما يتماشى مع قناعاته الشخصية التي تحقق له سلامه النفسي، ومن هذه الحركة الوجودية انبثقت فلسفة العبثية، حيث إن كل محاولات الإنسان لخلق معنى لحياته باءت بالفشل لأنها غير منطقية، وقد ظهرت أولى جذور الفلسفة العبثية كمذهب فكري خلال القرن الـ19 على يد الفيلسوف الدنماركي سورين كيركجارد ثم انتقلت تلك الفلسفة كتيار أدبي على يد الكاتب الفرنسي ألبير كامو وذلك من خلال كتابه “أسطورة سيزيف”.
أشهر روايات الأدب العبثي
بدأت العبثية كتيار أدبي في فرنسا ومن هناك انتقلت إلى مختلف الآداب العالمية، وخاصة تلك الدول التي عانت من ويلات الحرب، فقد تولدت قناعة لدى الكثير من الأدباء بأن المسلك العقلي قد يدمر في لحظات قليلة ما بناه الإنسان في سنوات طويلة وخاصة حين تسيطر على الإنسان شهوة التدمير، وجسد الأدباء فلسفة العبثية في كتاباتهم من خلال الرموز وما قد تحمله من دلالات تعكس شطحات العقل الإنساني ورؤيته المشوشة والمضطربة في الكثير من الأحيان، تلك الرؤية التي تجمع بين القبح والجمال والأسطورة والواقع.
رواية الغريب لألبير كامو.. منذ الأحرف الأولى للعمل تظهر لنا بجلاء لا مبالاة البطل تجاه وفاة أمه التي قرر إيداعها في دار العجزة، ولم تقتصر لا مبالاة البطل مارسو تجاه خبر الوفاة وإنما تعدته إلى الموت بحد ذاته
وقد جنح جميع كتاب الأدب العبثي في أعمالهم إلى استخدام السخرية والتناقض وتحقير المنطق والكوميديا السوداء واللامبالاة والجدل الفلسفي بشأن حياة الإنسان كونها “لا شيء” هذا بالإضافة إلى دراسة السلوك الإنساني تحت وطأة ظروف معينة لتظهر وكأنها بلا أي هدف وعبثية فلسفيًا سواء كانت تلك الظروف واقعية أم من وحي الخيال.
رواية الغريب لألبير كامو: الخواء الإنساني في عالم لا معنى له
“ماتت أمي اليوم.. وربما أمس لا أدري.. لقد تلقيت من الملجأ الذي تقيم فيه برقية هذا نصها: أمكم توفيت.. الدفن غدًا.. أخلص تعازينا.. ولم أستطع أن أفهم شيئًا.. ربما ماتت بالأمس”، كان هذا مطلع رواية الغريب لألبير كامو، فمنذ الأحرف الأولى للعمل تظهر لنا بجلاء لا مبالاة البطل تجاه وفاة أمه التي قرر إيداعها في دار العجزة، ولم تقتصر لا مبالاة البطل مارسو تجاه خبر الوفاة وإنما تعدته إلى الموت بحد ذاته، وهكذا يشرع البطل في وصف أحداث يومه منذ علم بالوفاة وعوضًا عن تخلل حواره مشاعر الحزن على والدته كان غريب كامو يتحدث عن الشوارع والحر الشديد داخل الحافلة في أثناء الساعة الثانية ظهرًا.
في طريقه إلى الملجأ عرج مارسو على المطعم وطوال الطريق إلى الملجأ كان يقول إنه لم يزر والدته منذ زمن بعيد لأن الطريق إلى الملجأ طويل وسوف يضيع منه يوم الأحد وهو يوم إجازته الأسبوعية، بعدها يواصل مارسو سرد أفكاره التي تبدو غريبة في ظل الظرف الذي يمر به، إذ شعر بارتياح شديد بعد دفن أمه وعاد إلى عمله وكأن شيئًا لم يكن.
رواية المسخ هي رحلة مرعبة تحمل أبعاد نفسية كثيرة لذلك الشخص الذي يعيش غريبًا عن مجتمعه والأدهى غريبًا أمام نفسه، هي رواية تعبر عن حالة العجز لدى الإنسان المعاصر
وفي أحد الأيام يذهب مارسو إلى الشاطئ بصحبة صديقه وهناك يرتكب جريمة قتل بدم بارد وحين يُسئل مارسو عن سبب ارتكابه لتلك الجريمة يرد قائلًا بأن أشعة الشمس هي السبب حيث انعكست حراراتها الشديدة على سكين الشخص العربي ما جعلها تلمع بشدة وكأنها سيف وهو ما جعله يفقد السيطرة على أعصابه ويقتل ذلك الشخص عن طريق الصدفة فحسب، ولكن قمة العبثية تظهر في الرواية خلال مشهد المحاكمة ففي الوقت الذي كان يُصدر فيه حكم الإعدام بحق مارسو كان ينشغل هو بتفاصيل أخرى بعيدة كل البعد عن جريمته، فما كان يشغل باله وقتها هو ملابس المحامي والقاضي.
رواية المسخ للكاتب فرانز كافكا: رحلة الإنسان الوجودية إلى العبث
“استيقظ مندوب المبيعات المتجول غريغور سامسا ذات صباح، إثر أحلام مزعجة سادها الاضطراب، ليجد نفسه قد تحول، وهو في سريره، إلى حشرة عملاقة”.
كان هذا هو المطلع الصادم لرواية المسخ التي كتبها الروائي التشيكي فرانز كافكا، ذلك المطلع الذي وضعه كافكا دون مقدمات وكأنه شيء اعتيادي، ولكن الأمر الأكثر غرائبية هو موقف البطل سامسا الذي قرر أن يتكيف مع وضعه الجديد بأن يحاول الذهاب إلى عمله ويتحدث مع والدته، ولكنه يشعر بصدمة كبيرة حين يستمع إلى صوته للمرة الأولى، صوت حشرة عملاقة مصحوبًا بزقزقة مخيفة، هنا يبدأ سامسا في إدراك أنه قد تحول وأن ثمة أمر قد أصابه فيبدأ بطريقة سردية شيقة يقص علينا تفاصيل ذلك التحول بكل ما تحمله من سوداوية وإزعاج.
في البداية يصف لنا سامسا مدى صعوبة قيام حشرة من النوم وهي مستلقية على ظهرها فمسألة العودة إلى الوضع الصحيح مرهقة للغاية وتتطلب الكثير من المحاولات، وبعدها يصف لنا البطل كيف تغيرت نظرة الجميع له بعد أن تحول إلى حشرة، إذ نظر إليه الناس نظرة اشمئزاز وعليه قرر سامسا اعتزال الجميع في غرفته قابعًا أسفل سريره، رواية المسخ هي رحلة مرعبة تحمل أبعاد نفسية كثيرة لذلك الشخص الذي يعيش غريبًا عن مجتمعه والأدهى غريبًا أمام نفسه، هي رواية تعبر عن حالة العجز لدى الإنسان المعاصر.
كافكا يرسم لوحات سوداء بأقلام سوداء عن عبثية الحياة ولا جدوى العيش، والأهم أنه يُدخل القارئ في عالمه القاتم والسودواي بسرعة كبيرة، إذ لا يكلف نفسه عناء السرد والتفاصيل الأدبية التي تعكس شكله الروائي ولكنه يستخدم حروفه بدقة شديدة ليس من أجل توضيح رؤيته ولكن من أجل الدخول العميق في غمار عالمه الكابوسي.
رواية حفلة التفاهة لميلان كونديرا: حين تصبح التفاهة هي التجسيد الأمثل لفلسفة المأساة
تتحدث رواية حفلة التفاهة للكاتب التشيلي ميلان كونديرا عن أربعة أصدقاء تجمعوا في حفلة عيد ميلاد وتحدثوا عن أمور لا معنى لها: حكايات تافهة وأحداث تحمل تفاصيل عبثية ليست ذات قيمة سوى لتمرير وقت الحفلة، ومن أهم الحكايات التي تحدثوا عنها، حكاية الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين الذي ذهب في إحدى المرات إلى رحلة صيد حيث وجد 24 طيرًا على الشجرة ولأن بندقتيه لم تكن تحمل سوى 22 رصاصة فقد قنص بها 22 طائرًا وعاد إلى منزله من أجل أن يجلب طلقتين ليعود فيجد الطيرين الباقيين في انتظاره!
قصة ستالين لم تكن سوى مزحة ولكن كونديرا يتساءل من خلال روايته عن جدوى الجدية، فإذا كانت المزحات والنكات تافهة فماذا عن الحروب والمآسي والمجازر التي تقتل ملايين الأشخاص دون سبب، أليست التفاهة قادرة على شد الانتباه أكثر من جدية المنطق والعقل؟ وفي هذا السياق يذكر كونديرا في حواره مع البروفيسور أفيناريوس: “التفاهة يا صديقي هي جوهر الوجود، إنها معنا على الدوام وفي كل مكان، إنها حاضرة حتى في المكان الذي لا يرغب أحد برؤيتها فيه: في الفظائع، في المعارك الدامية، وفي أسوأ المصائب، وهذا غالبا ما يتطلب شجاعة للتعرف عليها في ظروف درامية للغاية ولتسميتها باسمها، لكن ليس المقصود التعرف عليها فقط، وإنما يجب أن نحبها، يجب أن نتعلم حب التفاهة”.