تلاحم الأمم مع بعضها عبر العصور المختلفة من خلال بوابة غزة كانت تمتد إلى ما قبل التاريخ أيضًا، فحروب الفراعنة مع الهكسوس وهي أولى حروب التاريخ، كانت في وسط غزة، وكذلك تلاحمت بساحاتها قوات الفرس مع الإسكندر الأكبر التي كانت تعتبر غزة بوابة السيطرة على الأراضي المصرية.
من أهم الحروب أيضًا التي شهدتها أراضي غزة عبر التاريخ هي حرب الأفيال 217 قبل الميلاد، وكانت بين أكبر إمبراطوريتين في العالم الشرقي حينها: إمبراطورية شمال إفريقيا بقيادة الملك المصري “بطليموس الرابع” الذي تفرد بالسيطرة على بعض البلدان الإفريقية واحدة تلو الأخرى كالسودان وليبيا وإريتريا والساحل الغربي السعودي واليمني المطل على البحر الأحمر، وكذلك جزيرة قبرص وجنوب تركيا.
وكان نظيره من المملكة السورية “أنطوخيوس الثالث” الذي كان يسيطر على فلسطين وبلاد الشام وصولاً لسوريا ولبنان والعراق والأردن والأراضي التركية وشمال الحجاز وبلاد فارس وكذلك باكستان وأفغانستان وغرب الصين.
برزت أطماع مملكة بطليموس في غزة التي كانت تسيطر عليها سوريا حينها، فكانت وسيطًا تجاريًا يربط مملكته الإفريقية بالمملكة الآسيوية
وتقاسمت كلٌ من الإمبراطوريتين هذا النفوذ بعد انهيار مملكة الإسكندر الأكبر التي سيطرت على ربع العالم، إلا أن ذلك لم يمنع الخلافات بينهما على بعض الحدود، وخاصة أن نفوذ البطالمة المصريين كان ينتهي حتى حدود مدينة غزة التي استولى عليها السلوقيون بالقوة العسكرية قبل “موقعة الأفيال” بعامين، فكانت نهاية النفوذ المصري حينها من ناحية الشمال حتى شمال سيناء على الحدود مع غزة، أما نهاية نفوذ مملكة سوريا من ناحية الجنوب كانت صحراء النقب ومدينة غزة.
برزت أطماع مملكة بطليموس في غزة التي كانت تسيطر عليها سوريا حينها، فكانت وسيطًا تجاريًا يربط مملكته الإفريقية بالمملكة الآسيوية، كما أنها المنفذ البحري الوحيد نحو أوروبا ومستوطناته في قبرص والجنوب التركي، فقد وُجد فيها أقدم ميناء في العالم المسمى بـ”البلايخة”، وكانت سوريا تحتكر التجارة والملاحة به بعدما استولت عليه بالقوة، كونه المعبر البحري الوحيد لبلاد الشام ككل وبلاد مصر حينها، وكان قد بُني قصر أسفله، وهو ما اكتشفته وزارة السياحة والآثار الفلسطينية مؤخرًا، من عدة غرف تحت الأرض كشفت أسرارها المنخفض الجوي عام 2015، وقالت عنها الوزارة إنها بقايا لأول قصر بُني في العالم.
موقع “البلايخة” الذي احتوى على ميناء هو الأول من نوعه في العالم، وكذلك قصر لراحة الضيوف من الملوك وكبار التجار من أوروبا، وأسرار أخرى لا تزال غامضة، كل ذلك لم تكن وحدها محطة لأطماع الإمبراطوريتين السلوقية والبطلمية حينها، بل كل ما تحويه غزة من موقعها الجغرافي الفاصل بين ثلاث قارات، وكونها كانت تشكل خط الدفاع الأول والدرع الواقي لكل من شمال مصر وجنوب سوريا.
يقول مؤرخ تاريخ فلسطين الدكتور سليم المبيض لـ”نون بوست”: “بدأ بطليموس بحشد عدد كبير من الأفيال من البلاد الإفريقية التي كانت تقع تحت سيطرته، وبدأ بتدريب هذه الفيلة مع آلاف الجنود”
حاول بطليموس الرابع التفاوض مع نظيره أنطوخيوس الثالث للتبادل الودي بين المدن، على أن تكون مدينة غزة من نصيبه، ورغم المساحات الشاسعة والبلدان التي تسيطر عليها كل من الإمبراطوريتين، فإن مدينة غزة الصغيرة كانت سببًا لنشأة الخلافات بينهما وبداية الطريق لإشعال فتيل الحرب والتصادم بين أكبر إمبراطوريتين في العالم حينها.
اندلاع شرارة الحرب
يقول مؤرخ تاريخ فلسطين الدكتور سليم المبيض لـ”نون بوست”: “بدأ بطليموس بحشد عدد كبير من الأفيال من البلاد الإفريقية التي كانت تقع تحت سيطرته، وبدأ بتدريب هذه الفيلة مع آلاف الجنود، وسيقت هذه الجموع الحربية شمال سيناء للاستعداد للانطلاق نحو الأراضي الجنوبية من فلسطين بعدما تكتمل ساريته الحربية التي يجب أن تكون قادرة على مواجهة جيشًا ضخمًا تحكمه المملكة السورية حينها”.
ويضيف المبيض “عَلِمَ الملك السوري أنطوخيوس الثالث بما يقوم به نظيره بطليموس، فجهز جيشًا ضخمًا استعدادًا لحرب من المتوقع اندلاعها بأي لحظة، وبحكم سيطرته على أجزاء كبيرة من آسيا تعدت باكستان والصين، جمع الفيلة المنتشرة بمناطق متفرقة من هذه البلدان، وبدأت ساريته بالتحرك نحو جنوب فلسطين مع جيش ضخم فاق جيش بطليموس من حيث الفيلة فقط”.
63 ألف مقاتل جلهم من أوروبا وآسيا، و102 من الفيلة التي حُشدت تحت راية مملكة أنطوخيوس الثالث، بينما حشد البطالمة المصريون 73ألف مقاتل إفريقي، و73 من الفيلة، إضافة إلى 10 آلاف مقاتل من الجنود والمشاة الأفارقة ذوي الأحجام الضخمة الذين جاءوا للقتال كمرتزقة (مقابل الطعام والمال)، وَوُضِعوا هؤلاء في خط الحماية لحالات الاحتياط.
وتقابل الجيشان في وسط مدينة رفح جنوب قطاع غزة، كلٌ منهما بمقدمة جيشه: الملك السوري أنطوخيوس الثالث، والملك المصري بطليموس الرابع.
افترست الأفيال جيش البطالمة الذي تعلوه رماة بأسهم نارية، وظل جيش الأفيال الآسيوي برفقة جنود أنطوخيوس يواصل التقدم حتى دخل الأراضي المصرية لمسافة9 كيلومترات قبل أن يأخذ الفريقان فترة أخرى من الراحة بعد مواجهة ثانية استمرت لأيام
ويضيف المبيض “تصادم الجيش السوري مع الجيش المصري في رفح، وكان أكبر تصادم للأفيال الحربية في التاريخ، واستمرت معركة الأفيال يومين كاملين من طلوع الفجر يوم التلاحم حتى ظهر اليوم الثالث، وسميت بمعركة رفح الكبرى (رافيا)، قتل فيها من الأفيال الإفريقية 17، ومن الآسيوية 5، وتحت همجية الأفيال الآسيوية وضخامتها وصوت دباتها في الأرض، هرعت الأفيال الإفريقية ولاذت بالفرار، حيث يعيبها صغر حجمها مقارنةً بنظيرتها الآسيوية، فضلاً عن ذلك كانت الفيلة الآسيوية أكثر عددًا”.
تجددت المعركة صباح اليوم الرابع بعدما أخذ الفريقان قسطًا من الراحة، ولكن جيش أنطوخيوس تحميه الفيلة بمقدمتها، أما البطالمة تُركوا يواجهون مصيرهم المجهول بدروعهم البشرية وتحميهم سيوفهم ورماحهم فقط، ما دفع الملك بطليموس لترك جيشه والهرب نحو قلعته في الإسكندرية.
افترست الأفيال جيش البطالمة الذي تعلوه رماة بأسهم نارية، وظل جيش الأفيال الآسيوي برفقة جنود أنطوخيوس يواصل التقدم حتى دخل الأراضي المصرية لمسافة 9 كيلومترات قبل أن يأخذ الفريقان فترة أخرى من الراحة بعد مواجهة ثانية استمرت لأيام.
بعد يومين من الهدنة بين الفريقين، عادا للقتال من جديد، فبعد أن سيطر أنطوخيوس على غزة جميعها وصولاً لمنطقتي الشيخ زويد وأبو طويلة شمال سيناء، باغتهم البطالمة بكمائن أحرقت الأحراش المحيطة بهم، أوقعت من خلالها بنصف الأفيال الآسيوية، وتشتت عدد آخر منها، ما جعل الجنود الآسيويين في مواجهة الأفارقة وجهًا لوجه.
ظل البطالمة يواصلون التقدم نحو الشمال بعد أن طُرد أعداؤهم خارج رفح، فوصلوا إلى مدينتي عسقلان والرملة وتوجهوا شرق فلسطين نحو القدس ونابلس وبيت لحم
تقهقر جنود المملكة السورية أمام البطالمة، وعجزوا عن مواجهة جنود ذوي بنية ضخمة، فسقط منذ بداية الحرب حتى 20 يومًا متتالية 15 ألف قتيل من جنود أنطوخيوس، مما دعاه للهرب نحو أنطاكيا (الإسكندرونة حاليًّا)، للاحتماء بقلعته، تاركًا وراءه قرابة 10 آلاف جندي و5000 أسير من قواته.
ظل البطالمة يواصلون التقدم نحو الشمال بعد أن طُرد أعداؤهم خارج رفح، فوصلوا إلى مدينتي عسقلان والرملة وتوجهوا شرق فلسطين نحو القدس ونابلس وبيت لحم، وتوقفت قواتهم نواحي طبريا شمال فلسطين، لكنهم سيطروا على المدن الساحلية من فلسطين، فوصلوا حيفا ورأس النافورة ودخلوا لبنان، وواصلوا التقدم بساحل سوريا حتى اللاذقية وطرطوس وتوقفوا عند حدود أنطاكيا عاصمة دولة السلوقيين آنذاك.
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها بعد نحو 3 أشهر من القتال، كان النصر حليف جيش بطليموس الذي خسر 10 آلاف من جنوده و17 فيلاً، بينما خسر أنطوخيوس قرابة 15 ألف من جنوده وتم أسر نحو 10 آلاف آخرين، وكانت خسائر الأفيال بدايتها خمسة فقط، لكنها تشتت وضاعت عقب تقدم البطالمة.
لم يكتف البطالمة باستعادة غزة فقط، بل سيطروا على أغلب المدن الفلسطينية، واستمر تمشيط الأحياء والقرى والمدن الفلسطينية، من القلاع السورية والسجون والمعالم بأسرها مدة عامين كاملين.
موقعة رفح رفعت هيبة البطالمة الذين واجهوا ضعفًا في عهد بطليموس الرابع، كما كسرت شوكة السلوقيين الذين تمادوا ببسط نفوذهم بين آسيا وأوروبا، ومنعتهم من الدخول في أي معركة أو حرب طيلة 17 عامًا، حتى جهزوا العدة للدخول في حرب جديدة مع الأفارقة لاستعادة ما فقدوه خلال النكبة التي حلت عليهم من دخولهم لغزة، كما أوضح المبيض.
بدأ هجوم أنطوخيوس من بني ياس وطبريا وسيطروا على رأس الناقورة وشمال فلسطين، ما جعل قوات البطالمة ورعاياها محاصرين في لبنان والمدن الساحلية في سوريا
ويتابع المبيض “بعد وفاة الملك المصري بطليموس الرابع، تولى نجله بطليموس الخامس حكم البطالمة وتوجه جيشه عام 200 قبل الميلاد نحو قرية بني ياس الفاصلة بين لبنان وسوريا وفلسطين، بجيش قوامه 73 ألف للسيطرة على العمق السوري وأنطاكيا، لكنه تفاجأ بالقوة التي أعدها له أنطوخيوس، من فيلة فاق عددها أضعاف المشاركة بموقعة رفح، وقرابة 70 ألف من المشاة”.
بدأ هجوم أنطوخيوس من بني ياس وطبريا وسيطروا على رأس الناقورة وشمال فلسطين، ما جعل قوات البطالمة ورعاياها محاصرين في لبنان والمدن الساحلية في سوريا، وواصل أنطوخيوس التقدم نحو الجنوب، فاستعاد القدس بفترة وجيزة، ثم إلى المدن الساحلية من فلسطين، فوصل يافا ثم عسقلان، وتوقفت قواته عند غزة التي حاصرها بمئات من الأفيال يرافقها عشرات الآلاف من الجنود، وقبل دخول غزة، استسلم البطالمة المحاصرون في لبنان لجيش أنطوخيوس، وقام بسبيهم وبيعهم كعبيد.
استطاع أنطوخيوس دخول غزة بعد عامين من الحرب والحصار عام 198 قبل الميلاد، لكن بعد أن فقد مئات من جنوده على حدودها بسبب مقاومة رعاياها، مما جعله ينتقم، فنفذ مذبحة بأهل غزة وباع الكثير منهم كعبيد.
ولعل ما يسر على أنطوخيوس الثالث هزيمة البطالمة مجددًا، لكون البطالمة يحكمهم طفلاً في التاسعة من عمره، وقد تزوج بعدها بسنوات ابنة الملك السوري أنطوخيوس التي تدعى الملكة “كليوباترا الأولى”، التي حكمت مصر فيما بعد.
في السنوات الأخيرة، تم العثور على لوحات فسيفسائية بالقرب من بحيرة طبريا شمال فلسطين وعلى الحدود مع سوريا، وأبرز مؤرخو فلسطين نسبوها لمعركة رفح (رافيا) 217 قبل الميلاد
من الجدير ذكره أن حفل الزفاف الملكي بين كليوباترا وبطليموس الخامس تم في مدينة رفح جنوب قطاع غزة عام 195 قبل الميلاد، وتحديدًا في منطقة “تل رفح” التي شهدت موقعة الأفيال، ولعل ما دفع أنطوخيوس السوري لهذا النسل إبعاد خطر البطالمة عن غزة وأن تكون دولة مصر تحت حكمه، وهو ما تم بالفعل، لتكون دولة السلوقيين موحدة كما كانت في عهد الإسكندر الأكبر.
في السنوات الأخيرة، تم العثور على لوحات فسيفسائية بالقرب من بحيرة طبريا شمال فلسطين وعلى الحدود مع سوريا، وأبرز مؤرخو فلسطين نسبوها لمعركة رفح (رافيا) 217 قبل الميلاد، كون المنطقة كانت معقل القوات السلوقية المكلفة بالهجوم على غزة، كما تم العثور على بقايا لعظام الفيلة في منطقة تل رفح الأثرية جنوب قطاع غزة، وتدور الأقاويل بأنها كانت نقطة التلاحم الأولى بين البطالمة والسلوقيين على هذه الأرض.