وصل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، إلى العاصمة الهندية نيودلهي، أمس الثلاثاء، في ثاني محطاته ضمن جولته الآسيوية التي استهلها قبل يومين بزيارة إسلام أباد، ومن المقرر أن تشمل الصين كمحطة ثالثة بعد إلغاء زيارته لكل من ماليزيا وإندونيسيا بصورة مفاجئة ومجهولة الأسباب.
وكان في استقبال ابن سلمان بمطار العاصمة رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي الذي خرج عن البروتوكول الحكومي المعتاد، حيث جرت العادة على ألا يستقبل رئيس الوزراء شخصية أجنبية في المطار، ولكن يرسل مسؤولاً أو وزير دولة لذلك، الأمر الذي علق عليه رافيش كومار المتحدث باسم وزارة الخارجية الهندية بأنه “فصل جديد في العلاقات الثنائية” التي وصفها ولي العهد بأنها “تجري في حمضنا النووي“.
ومن المقرر أن يعقد مودي جلسة مباحثات اليوم مع ولي العهد الذي زار باكستان في ضوء التوتر الشديد بين الجارتين في أعقاب التفجير الذي استهدف 40 من أفراد الشرطة الهندية في كشمير، أعلنت جماعة “جيش محمد” المتشددة التي تتمركز في باكستان مسؤوليتها عنه.
تأتي الجولة الآسيوية التي يقوم بها ابن سلمان وتعد الأولى له منذ تنصيبه وليًا للعهد في وقت يشتد عليه الخناق إقليميًا ودوليًا جراء ما أثير بشأن ضلوعه بمقتل الصحفي جمال خاشقجي في إسطنبول أكتوبر الماضي، فماذا يريد الأمير الشاب من وراء هذه الزيارة؟ وفي المقابل ماذا ينتظر الهنود من ولي العهد بعد الـ20 مليار دولار التي منحها لجارتهم، خصمهم اللدود، في صورة استثمارات خلال زيارته الأخيرة؟
الاحتجاجات في استقبال ولي العهد
رغم التشديدات الأمنية فقد استقبل الآلاف من الهنود ابن سلمان بحشود كبيرة رافضة للزيارة، حيث رفع المتظاهرون في نيودلهي صورته ويداه ملطختان بالدماء وعبارات تنديد بسياساته وجريمة قتل الصحفي جمال خاشقجي وحرب اليمن.
كما رفع المشاركون في تلك التظاهرات الرافضة للزيارة لافتات تندد بسوء تعامل السلطات السعودية مع العمالة الهندية الموجودة في مدن المملكة المختلفة، هذا بعد شكاوى العديد من أبناء الجالية الهندية بالسعودية في الفترة الأخيرة من التعامل المشين من الكفلاء أو الإدارات الحكومية ذاتها، الأمر الذي دفع الكثير منهم إلى مغادرة المملكة.
تضييق الخناق على ولي العهد وتصاعد موجة الاحتجاجات ضده في عدد من بلدان المنطقة، دفعه إلى فتح آفاق جديدة في محاولة لاستعادة بعض من الشعبية التي تأثرت سلبًا خلال الفترة الماضية
الأمر ذاته تكرر في مدينة كرغيل شمال ولاية جامو وكشمير الهندية، حيث اكتظت شوارعها بعشرات التظاهرات الحاشدة احتجاجًا على الزيارة، مطالبين السلطات الهندية بعدم السماح له بدخول البلاد، مرددين عددًا من الهتافات التي تنتقد سياسات ولي العهد خاصة في اليمن.
وكانت وسائل إعلام محلية في الهند قد أبرزت خلال الأشهر الماضية الأوضاع المعيشية الصعبة لمئات من العاملين الهنود في السعودية، لا سيما من يتعرضون لأذى مستمر، ويواجهون تهمًا وأحكامًا بالسجن على خلفية قضايا تتعلق أساسًا بقوانين الإقامة.
ماذا يريد ابن سلمان؟
جولة ولي العهد السعودية ابتداءً رغم حالة الاضطراب التي شهدتها في أعقاب إلغاء محطتي ماليزيا وإندونيسيا، فضلاً عن تأجيل زيارة إسلام أباد ليوم واحد، تهدف في المقام الأول إلى تلميع صورة ولي العهد ونظامه آسيويًا، ومحاولة تخفيف حدة الضغط الذي تتعرض له المملكة خلال الآونة الأخيرة.
إدانات واسعة النطاق يتعرض لها النظام السعودي الحاكم وعلى رأسه ابن سلمان، الأمر الذي دفع عدد من برلمانات العالم للضغط على حكوماتها لإعادة تقييم العلاقات مع الرياض، إلى الحد الذي طالب فيه بعض البرلمانيين بقطع العلاقات مع المملكة، هذا بخلاف دعوات فرض عقوبات جراء الانتهاكات الحقوقية التي ترتكبها السلطات السعودية، داخليًا وخارجيًا.
تضييق الخناق على ولي العهد، وتصاعد موجة الاحتجاجات ضده في عدد من بلدان المنطقة، دفعه إلى فتح آفاق جديدة في محاولة لاستعادة بعضًا من الشعبية التي تأثرت سلبًا خلال الفترة الماضية، ومن ثم كانت حقائب المال والاستثمارات المليارية هي عكاز الأمير لغسل سمعته، وعليه كان اختيار القوى الآسيوية الأبرز كمحطات لجولته الأولى للقارة.
الهند تتوقع أن يعلن ولي العهد، خلال الزيارة، عن استثمار مبدئي في الصندوق الوطني للاستثمار والبنية التحتية، وهو صندوق يشبه صناديق الثروة السيادية، للمساعدة في تسريع بناء موانئ وطرق سريعة
علاوة على ذلك فإن السياسات الخاطئة للمملكة ساهمت في تراجع نفوذها الإقليمي بشكل ملموس لحساب إيران، وهو ما تجسده الأوضاع على الأرض في كل من سوريا واليمن والعراق ولبنان، وهي ميادين الصراع بين الدولتين، حيث نجحت طهران في تحقيق مكاسب عدة وسحب البساط من تحت أقدام السعوديين هناك.
وفي هذا الإطار تأتي تلك الزيارة التي يأمل من خلالها ولي العهد في ترميم شروخات جدران بلاده ومحاولة مزاحمة النفوذ الإيراني في تلك البلدان ذات الأهمية الإستراتيجية، خاصة في ظل العلاقات القوية التي تربط بين طهران وكل من نيودلهي وإسلام أباد على حد سواء.
كما يجدر الإشارة إلى أن انفراط عقد التحالفات السعودية دوليًا خلال الأعوام الخمس الأخيرة، بسبب تباين وجهات النظر حيال بعض الملفات في سوريا واليمن والربيع العربي، عززه الأزمة الخليجية التي أفقدت المملكة عمقها الإقليمي، كان عاملاً مؤثرًا في ضرورة تقييم الرياض لخريطة تحالفاتها الخارجية مرة أخرى، ومن ثم كانت نيودلهي وإسلام أباد وبكين البديل.
تزامن الزيارة مع تصاعد التوتر بين باكستان والهند على خلفية التفجير الأخير أسال لعاب ابن سلمان لإحياء دور بلاده الإقليمي عبر القيام بدور الوساطة لتقريب وجهات النظر بين الجارتين، الأمر الذي شكك البعض في احتمالية نجاحه نظرًا لعمق الهوة بين الجانبين، رغم الإغراءات المالية المقدمة للقيام بهذا الدور.
لم يكن البُعد السياسي وحده الدافع لتلك الجولة، فمساعي الرياض لضمان سوق دائم لنفطها هدفًا آخر، في ظل التقلبات الشديدة التي تشهدها أسواق النفط العالمية، هذا بخلاف المكاسب الاقتصادية المتوقع تحقيقها من وراء الشراكة مع الهند والصين نظرًا لما يتمتعان له من إمكانات اقتصادية هائلة وفرص استثمارية كبيرة.
ولي العهد السعودي مع رئيس وزراء باكستان
ماذا تريد الهند؟
رغم الطفرة الاقتصادية التي تشهدها الهند فإن ما أعلنه ابن سلمان بشأن توقيع اتفاقيات استثمارية مع الجارة باكستان، بقيمة 20 مليار دولار، مضيفًا أن هذا الرقم يمثل فقط البداية، في تعزيز العلاقات الاقتصادية بين البلدين، أثار لعاب نيودلهي في الحصول على وجبة استثمارية دسمة تعزز بها قطارها الاقتصادي.
الهند تتوقع أن يعلن ولي العهد، خلال الزيارة، عن استثمار مبدئي في الصندوق الوطني للاستثمار والبنية التحتية، وهو صندوق يشبه صناديق الثروة السيادية، للمساعدة في تسريع بناء موانئ وطرق سريعة، بحسب مسؤول هندي وبعض وسائل الإعلام الرسمية السعودية.
جدير بالذكر أن النمو الاقتصادي للهند العام الماضي بلغ 7.5%، وهي أعلى نسبة نمو في العالم، حيث تعدت الصين التي بلغت نسبة النمو فيها 6.5%، ومن المتوقع أن يخطو خطوات سريعة، وأن يقفز من المرتبة السابعة في العالم حاليًّا إلى المرتبة الثالثة، وأن يصبح حجم اقتصادها أكثر من خمسة تريليونات دولار خلال السنوات الخمس المقبلة.
نيودلهي كذلك تعي أهمية الرياض في دعم ثقلها الإسلامي في مواجهة النفوذ الباكستاني، ومن ثم فإن تعميق علاقاتها مع السعودية يعطيها قوة دافعة في مسار العلاقات مع الجالية الإسلامية من جانب والدول المسلمة من جانب آخر، وهو الأمر الذي طالما كان يمثل لها أزمة في صراعها مع باكستان.
جولة ابن سلمان لدولة بحجم الهند ومن قبلها باكستان وبعدها الصين، وإن كان بيده المليارات من الدولارات، إلا أن المال مجرد بُعدٍ واحد، لعلاقةٍ أعمق من ذلك بكثير
السلطات الهندية تسعى في الوقت ذاته إلى تأمين احتياجاتها من الطاقة خاصة أن السعودية أكبر مورد للنفط الخام إلى الهند، الأمر الذي يعطي للزيارة عمقًا وأهمية كبيرة للهنود، هذا في الوقت الذي تخطط فيه الدولة الآسيوية الكبيرة إلى فتح آفاق استثمارية جديدة، فهي بحاجة إلى تنويع مصادر الطاقة لديها.
في إطار مشابه تسعى الهند من خلال تقاربها مع السعودية إلى تعميق نفوذها في المنطقة في مواجهة النفوذ الصيني، إذ شكلت تحركات الأخيرة لتوسيع رقعة نفوذها داخل جنوب آسيا والمحيط الهندي، تحديًا مباشرًا للمصالح الإستراتيجية للهند، والمعروف أن دول جنوب آسيا تتميز بأهمية محورية لمبادرة “طريق الحرير الجديد” الصينية، نظرًا لأنها توفر سبيلاً للوصول إلى منطقة المحيط الهندي.
المحلل الهندي مانوي ميشرا، في تعليقه على هذه المسألة أشار إلى أن نفوذ بلاده “واجه في جنوب آسيا تحديًا من جانب الصين في الفترة الأخيرة، وذلك مع إغراء الأخيرة الدول المجاورة للهند بأموالها، أما اليوم، فنجد أن ثمة تنامٍ لمشاعر العداء تجاه الصين داخل هذه الدول، مع إدراكها لحقيقة الأخطار وراء السقوط في فخ الديون، والآن، عادت الهند إلى الصورة من جديد”.
وفي المجمل فإن جولة ابن سلمان لدولة بحجم الهند ومن قبلها باكستان وبعدها الصين، وإن كان بيده المليارات من الدولارات، إلا أن المال مجرد بُعدٍ واحد، لعلاقةٍ أعمق من ذلك بكثير، إذ تأتي في إطار خطة لغسل السمعة خارجيًا وترميم الشروخات التي أصابت جدار المملكة، ليبقى السؤال قائمًا: هل تنجح الزيارة فيما خططت له؟