تعمل دول عدة منضوية صلب الاتحاد الأوروبي على تحصين اقتصاداتها، خوفًا من غزو التنين الصيني الذي قارب على اكتساح اقتصادات العالم أجمع، لما له من قوة كبيرة عجزت العديد من الأنظمة على مواجهتها، فهل يتمكن الأوروبيون من تحصين أنفسهم أمام الغزو الصيني؟
خطة مشتركة للسياسة الصناعية في أوروبا
ضمن هذه المساعي الحثيثة، اتفقت فرنسا وألمانيا أمس الثلاثاء على خطة مشتركة للسياسة الصناعية في أوروبا، بهدف دعم الشركات المحلية لتتنافس مع الشركات الأجنبية ولتوفير حماية على نحو أفضل لتكنولوجيات رئيسية من الاستحواذات الخارجية.
وتكافح الصناعات التحويلية في دول الاتحاد الأوروبي من أجل المنافسة عالميًا، نتيجة ارتفاع تكاليف الطاقة وضعف الوصول إلى التمويل والاستثمار، على عكس العديد من القطاعات الأخرى التي تشهد تحسنًا في دول الاتحاد.
وفي الورقة الإستراتيجية التي قدمها وزير الاقتصاد الألماني بيتر ألتماير ونظيره الفرنسي برونو لو مير بعد محادثات في برلين، اقترحت كل من فرنسا وألمانيا منح المجلس الأوروبي (المنتدى الممثل لحكومات الاتحاد الأوروبي)، الحق في تجاوز بعض القرارات المتعلقة بمكافحة الاحتكار الصادرة من المفوضية الأوروبية في حالات معينة.
تدفع شركات الاتحاد الأوروبي ضعف ما تدفعه للحصول على الطاقة في الولايات المتحدة وأكثر من ثلاثة أمثال التكاليف في الصين
تدعو المقترحات التي جاءت في خمس صفحات، إلى تعزيز الاستثمار في التقنيات المبتكرة وإصلاح قواعد المنافسة في الاتحاد الأوروبي، وقال لو مير: “ستظل أوروبا قارة صناعية عظيمة فقط إذا تمكنا من حشد قوانا وتغيير القواعد الأوروبية التي باتت بالية حاليًّا وحماية أنفسنا على نحو أفضل”.
وترغب برلين وباريس في إصلاح قواعد الاندماج في الاتحاد الأوروبي بعد اعتراض المفوضية الأوروبية على مساع لسيمنس وألستوم لتأسيس شركة أوروبية عملاقة للسكك الحديدية تنافس شركات أجنبية أكبر حجمًا، وتقترح الدولتان الأوروبيتان تحديث المبادئ التنظيمية للاندماج لكي تأخذ في الحسبان على نحو أكبر المنافسة على المستوى العالمي بدلاً من المستوى الأوروبي.
رغبة صينية في الاستحواذ على الصناعات التحويلية الأوروبية
تخشى الدول الأوروبية من استحواذ شركات أجنبية، وبصفة خاصة الصينية، على المعرفة الأوروبية، ما من شأنه أن يؤدي إلى تآكل قاعدة الصناعات التحويلية التي بنت عليها القارة الأوروبية جانبًا كبيرًا من ثرواتها المهمة، هذه الخشية تدعمت، نتيجة سعي الشركات الصينية للاستحواذ على سوق الصناعات التحويلية في القارة العجوزة، خاصة في ظل الضعف والتراجع الكبير الذي عرفته هذه الصناعات الأوروبية في الفترة الأخيرة نتيجة أسباب عدة.
وأظهرت تقديرات رسمية، الأربعاء الماضي، انخفاض ناتج الصناعات التحويلية بمنطقة اليورو أكثر من المتوقع في ديسمبر/كانون الأول الماضي، مدفوعًا بهبوط إنتاج السلع الرأسمالية، وقال مكتب إحصاءات الاتحاد الأوروبي إن الصناعات التحويلية في دول المنطقة الـ19 تراجع 0.9% عن الشهر السابق ليهبط 4.2% على أساس سنوي، في مؤشر قوي على ما تواجهه اقتصادات منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي من صعوبات.
يذكر أن المؤشر نفسه قد شهد هبوطًا بنسبة 1.7% في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، وقراءة نوفمبر هي الأسوأ شهريًا منذ فبراير/شباط 2016 حين نزل الإنتاج 2.1%، وعلى أساس سنوي نزل الإنتاج الصناعي 3.3% في نوفمبر، ويلقي انخفاض الإنتاج الصناعي وتراجع إنتاج السلع الرأسمالية الضوء على تباطؤ النمو الاقتصادي في منطقة اليورو، حيث تتوقع المفوضية الأوروبية أن يتراجع معدل النمو إلى 1.3% هذا العام من 1.9% في 2018.
سعي صيني حثيث للاستحواذ على الصناعات التحويلية في أوروبا
يرجع الهبوط في الإنتاج الصناعي خلال ديسمبر/كانون الأول إلى انخفاض إنتاج كل من السلع الرأسمالية والسلع الاستهلاكية غير المعمرة بنحو 1.5%، كما تراجع إنتاج الطاقة بنحو 0.4% بالفترة نفسها.
وتسعى الشركات الصينية إلى استغلال هذا الظرف الصعب الذي تمر به الصناعات التحويلية في القارة الأوروبية للاستحواذ عليها، وتدعيم حضور الصين في القارة العجوز، وتأكيد سيطرته على الاقتصاد هناك، ومنافسة الولايات المتحدة الأمريكية التي تسعى بدورها إلى تقزيم الاقتصاد الأوروبي عبر إجراءات حمائية.
وتدفع شركات الاتحاد الأوروبي ضعف ما تدفعه للحصول على الطاقة في الولايات المتحدة وأكثر من ثلاثة أمثال التكاليف في الصين، وفق المفوضية الأوروبية، وتعتبر ألمانيا وفرنسا وبريطانيا ودول شمال أوروبا، الدول الأكثر قدرة على المنافسة صناعيًا، وفقًا للمفوضية، في حين أن معظم الدول الأعضاء الواقعة شرق الاتحاد الأوروبي مثل بلغاريا وكرواتيا والمجر وبولندا ما زالت تواجه تحديات كبيرة.
إجراءات إضافية
إلى جانب هذه الخطة، يعمل الاتحاد الأوروبي، أيضًا، على وضع إطار لمراقبة الاستثمارات الأجنبية في القطاعات الإستراتيجية لتبديد قلق دوله الكبرى في مواجهة “شهية” الشركات غير الأوروبية، وفي مقدمها الصينية على غرار مجموعة هواوي للاتصالات.
ووافق البرلمان الأوروبي بغالبية كبيرة قبل أسبوع، على نظام أوروبي من شأنه تعزيز التعاون بين دول الاتحاد الأوروبي، بدعم من المفوضية الأوروبية، حين يبدي مستثمرون من دول خارج الاتحاد اهتمامًا بقطاعات أوروبية حساسة.
وقبل التصويت على هذا البرنامج، قالت المفوضة الأوروبية للتجارة سيسيليا مالمستروم: “المؤكد أن هذا التشريع محايد تمامًا ولا ينطوي على أي تمييز، ولكن لا يخفى على أحد أن الأمر يتعلق بالصين”، وسبق أن أبدت فرنسا وألمانيا وإيطاليا قلقها من شراء مجموعات أجنبية، وخصوصًا صينية، شركاتها بسعر يقل عن قيمتها الفعلية، وطالبت بهذا التشريع من أجل فرض رقابة أكبر على بعض العمليات.
ويشمل التشريع الأوروبي الجديد قطاعات عدة بينها الذكاء الاصطناعي والروبوتات والاتصالات وصولاً إلى المساحات الزراعية، وذلك للحد من عمليات البيع، وفي 2016، اشترت عملاق الأدوات المنزلية الصيني “ميديا” بـ4.6 مليار يورو مجموعة “كوكا” الألمانية الصناعية على مرأى من برلين وبروكسل اللتين عجزتا عن التدخل للحول دون ذلك.
تنظر دول الاتحاد الأوروبي في معظم الأحيان باستياء كبير إلى مساعي التنين الصيني لتعزيز وجوده الاقتصادي في المنطقة
ينص التشريع على وجوب أن تقدم الدول، ضمن شروط معينة، معلومات عن أي استثمار أجنبي لديها إلى الأعضاء الآخرين في الاتحاد الأوروبي، “إذا كان ذلك يمس النظام أو الأمن العام”، وتشكل مجموعة هواوي الصينية للاتصالات مصدر قلق كبير للأوروبيين، وخصوصًا وسط شبهات بأن بكين ستكون قادرة على التجسس على اتصالات الدول التي ستستخدم تجهيزات المجموعة.
إلى جانب ذلك، يصنف الاتحاد الأوروبي الاقتصاد الصيني بأنه “اقتصاد محايد”، أي أنه يخلط بين نمط الاقتصاد المركزي واقتصاد السوق، وهو ما ترفضه الحكومة الصينية، لأن هذا التصنيف يحرم مرور بعض بضائعها إلى السوق الأوروبية.
يذكر أن دول الاتحاد الأوروبي ألغت قائمة “الاقتصادات غير السوقية” ووضعت بدلأ منا تصنيف “بلد محايد” وذلك من أجل منع إغراق البضائع الصينية للسوق الأوروبية، وتتخذ دول الاتحاد الأوروبي النهج الأمريكي نفسه في فرض ضرائب مرتفعة على عدد من الصادرات الصينية لحماية أسواقها المحلية.
تراجع الاقتصاد الأوروبي
ما يزيد من مخاوف الدول الأوروبية، التراجع الحاد للنمو الاقتصادي لدول المنطقة، وكانت المفوضية الأوروبية، قد خفضت الأسبوع الماضي، بشكل حاد توقعاتها للنمو الاقتصادي في منطقة اليورو في العامين الحاليّ والمقبل بسبب تباطؤ متوقع في اقتصاد أكبر دول في التكتل بفعل التوترات التجارية العالمية وتنامي الدين العام.
وفي توقعاتها الاقتصادية الفصلية، عدلت الذراع التنفيذية للاتحاد الأوروبي بالخفض تقديراتها للتضخم في منطقة اليورو التي تضم 19 دولة للعام المقبل، إذ يتوقع الآن أن تكون أقل من توقعات البنك المركزي الأوروبي، ما سيعقد على الأرجح خطط البنك لرفع أسعار الفائدة هذا العام.
وقالت المفوضية إن النمو في منطقة اليورو سيتباطأ إلى 1.3%، مقارنة بـ1.9% خلال السنة الماضية، فيما من المتوقع أن يتعافى عام 2020 ليبلغ 1.6%، والتقديرات الجديدة أقل تفاؤلاً مقارنة بتوقعات المفوضية السابقة الصادرة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إذ توقعت حينها نموًا في منطقة اليورو نسبته 1.9% هذا العام و1.7% عام 2020.
تراجع نمو الاقتصادي يزيد مخاوف الأوروبيين
أرجعت المفوضية الأوروبية أسباب هذا التراجع إلى التوترات التجارية العالمية والتباطؤ الاقتصادي في الصين، كما أشارت إلى مخاوف بشأن قدرة دول مثل إيطاليا على الاستمرار في خدمة الديون كسبب للتباطؤ، كما توقعت المفوضية أن يبلغ معدل التضخم في منطقة اليورو هذا العام 1.4%.
تنظر دول الاتحاد الأوروبي في معظم الأحيان باستياء كبير إلى مساعي التنين الصيني لتعزيز وجوده الاقتصادي في المنطقة، وهو ما دفع سلطات الصين في العديد من المرات إلى الإدلاء بتصريحات مطمئنة لنظيرتها الأوروبية، لكسب ثقتها وتعزيز مكانتها في تلك المنطقة المهمة من العالم.