منذ أسبوعين تحديدًا، بدا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أكثر حماسة من سلفه باراك أوباما لحسم المعركة مع تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وتسريع القضاء عليه في العراق وسوريا، وأمام أعضاء التحالف الدولي في واشنطن، كشف ترامب عن احتمالية إعلان التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة “داعش” القضاء بشكل نهائي على التنظيم وانتهاء ما يعرف بـ”دولة الخلافة” واستعادة كامل المناطق التي لا يزال يسيطر عليها في كل من العراق وسوريا.
لكن الأمل الذي عقده الرئيس الأمريكي على سياسته وإستراتيجيته لم يشأ أن يُعلن على الملأ، فقد انتهت المدة الزمنية المقدَّرة للقضاء على التنظيم وفق تقديرات ترامب، وهو ما يثير التساؤلات عن مستقبل التنظيم، فهل تم بالفعل القضاء نهائيًا على المشروع الذي تبناه خلال الأعوام الخمس الأخيرة؟ وكيف يمكن تحقيق ذلك؟
العودة إلى الجذور.. خيارات التنظيم حتى الرمق الأخير
تشبه المعركة حاليًّا بين تنظيم الدولة وقوات سوريا الديمقراطية “قسد” المدعومة من التحالف الدولي من حيث أهميتها معارك السيطرة على الرقة والموصل، فهي معركة آخر 5 كيلومترات مربعة، داخل منطقة تمثل أقل من 1% من مساحة مناطق شرق نهر الفرات في سوريا التي كان يسيطر عليها بداية من منتصف عام 2014، لكن القوات المهاجمة لم تستطع في أغلب الأحيان الاستحواذ على هذه المناطق التي تخضع لتنظيم الدولة إلا بعد تدميرها.
وفي حين لا توجد أرقام مؤكدة عن أعداد مقاتلي التنظيم المتبقين شرق نهر الفرات، كما لا توجد أرقام مؤكدة عن أعداد المدنيين المتبقين هناك أيضًا، يحاول تنظيم داعش الحفاظ على معقله الأخير في سوريا، حتى لو كان يمثل مساحة ضئيلة من الأرض، حتى يتجنب خطر الانهيار التنظيمي الكامل كما حدث له في العراق، على نحو يمكن أن يُعرِّضه لمزيد من الخسائر البشرية، باعتبار أن هذا الاحتمال معناه فقدانه عددًا كبيرًا من العناصر الموالية له.
القوات المهاجمة لم تستطع في أغلب الأحيان الاستحواذ على المدن التي تخضع لتنظيم الدولة إلا بعد تدميرها
ومع ضيق المساحة على مسلحي تنظيم داعش تضيقت الخيارات المتاحة ما بين عمليات مضادة في مواجهة “قسد” والهجمات الانتحارية التي يستخدمها المقاتلون الأجانب بشكل أساسي، لا سيما إذا أدركوا أنهم على وشك الوقوع في الأسر، فقد أعلن المتحدث باسم حملة قوات سوريا الديموقراطية في دير الزور عدنان عفرين أن الجهاديين ينفذون هجمات مضادة تقودها نساء انتحاريات لإرغام قوات سوريا الديمقراطية على التراجع من بلدة الباغوز وغالبية القيادات المحاصرة من الجنسيات الأجنبية.
ومع تزايد العمليات العسكرية التي تشنها قوات سوريا الديمقراطية يلجأ مسلحو داعش إلى تلغيم مساحات من المناطق التي فروا منها خلال الأيام القليلة الماضية، حتى تمثل عائقًا أمام تقدم قوات “قسد” التي لا تزال تقوم بعمليات تمشيط من أجل نزعها، وهو ما يستنزف وقتًا يسمح لعناصر التنظيم الذين ما زالوا مصرين على الانخراط في المواجهة بإعادة تنظيم صفوفهم من جديد.
رغم محدودية المساحة التي يسيطر عليها التنظيم، يمكن القول إن معركة القضاء على داعش تبدو صعبة وسهلة في نفس الوقت
وبحسب مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، قد يلجأ مقاتلو التنظيم إلى الأنفاق التي تمكن من بنائها أسفل عدد من المنازل في القرى التي كانوا يسيطرون عليها في تلك المنطقة، وذلك لتعزيز قدرتهم على شن هجمات مفاجئة والعودة سريعًا إلى الأنفاق التي ربما تحميهم من الضربات العسكرية، وخلال مؤتمر وارسو الأخير، اعتبرت وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فون ديرلاين أن تنظيم الدولة يتوغل حاليًّا تحت الأرض، ويبني شبكات مع مجموعات إرهابية أخرى.
أمَّا الخيار الأخير الذي قد تلجأ إليه بعض العناصر المتبقية، فهو الاستسلام، ورغم أن هذا الخيار مستبعد في حالة ما إذا كانت لديهم القدرة على مواصلة المواجهات، فإنهم قد يستندون إليه في نهاية الأمر، واستنادًا إلى المرصد السوري، فإن مقاتلي التنظيم سلموا أنفسهم تباعًا لقوات سوريا الديمقراطية، بينما يصر آخرون على مواصلة القتال حتى الرمق الأخير.
ورغم محدودية المساحة التي يسيطر عليها التنظيم، يمكن القول إن معركة القضاء على داعش تبدو صعبة وسهلة في نفس الوقت، نظرًا للخيارات المتاحة أمام عناصره من ناحية، ومن ناحية أخرى، نجاة التنظيم رغم الجهود الدولية والإقليمية الهائلة لإلحاق الهزيمة به، حتى في شكل الحاليّ لا يزال التنظيم نشطًا كنهج حرب العصابات في العراق، ويستمر في القتال في أراضيه القليلة المتبقية في سوريا.
إعادة إنتاج نسخة ثانية من تنظيم الدولة؟
على الرغم من تفكك شبكة تنظيم الدولة، فإن مكونات التنظيم سيكون لديها القدرة على الاتحاد مرة أخرى مع تراخي استمرار الضغط على بقاياه، حيث تشير التقديرات إلى أن عدد مقاتلي التنظيم الذين تفككوا عبر الأراضي التي سيطر عليها في سوريا والعراق، يتراوح بين 20 ألف إلى 30 ألف مقاتل، الكثير منهم لن يرغبوا في العودة إلى بلادهم الأصلية، خشية الخضوع للتحقيقات ومن ثم السجن.
وهناك أيضًا تجمعات صغيرة لمسلحين متعصبين مرتبطين بتنظيم الدولة، في ليبيا ومصر وغرب إفريقيا وأفغانستان وجنوبي الفلبين، أما العراق، فهناك بالفعل أدلة على وجود مسلحين من التنظيم يشنون هجمات قوية متزايدة في المناطق الشمالية من البلاد، ومع وجود جيش عراقي ضعيف المعنويات، غادر ضباطه الكبار قواتهم قبيل تقدم التنظيم، وأضحت هناك كل المسوغات التي جعلت التنظيم يستولى على نحو ثلث مساحة العراق في السابق.
يشير ذلك إلى أن التنظيم لا يزال يعمل كمنظمة ويتمتع بالقدرة والفعالية على تنفيذ هجمات مركَّبة في مناطق عديدة بالعراق وسوريا، ولا يزال يسيطر على جيوب عديدة وينتشر في مساحات واسعة، ولا تزال فروع التنظيم وولاياته الخارجية تتمتع بالقدرة على تنفيذ هجمات كبيرة في بلدان عربية وإسلامية مختلفة.
ورغم أنه من غير المرجح، أن يُسمح لأي “خلافة” من أي حجم بإعادة تأسيس نفسها، على الأرض مرة أخرى، فإن الكثير من العوامل التي غذت النجاح المبكر لتنظيم الدولة لا تزال قائمة، فالعراق مملوء بمليشيات شيعية، بعضها ممول ومدَرب ومسلح من جانب إيران، وهناك تقارير مثيرة للقلق، عن أن بعض القرويين السنة يُطردون من منازلهم، وفي بعض الحالات يتهمون عن طريق الخطأ بتأييد تنظيم الدولة.
وفي بعض المناطق، تسير فرق “انتقام شيعية”، في الشوارع ليلاً مع حصانة من العقاب، وفي سوريا المجاورة، وفي ظل استمرار الحرب الأهلية، كان وما زال هناك فوضى وارتباك كافيين لتمكين تنظيم الدولة مرة أخرى، باعتباره أقسى تنظيم عقائدي بين كل الجماعات المتمردة، لكي يحتل مساحات واسعة، ويضعها تحت سيطرته من جديد.
عودة التنظيم مرة أخرى للتمدد وفرض سيطرته المكانية أمر مستبعد على المدى القريب والمتوسط، لكنها ممكنة على المدى البعيد
في سوريا أيضًا لا يزال العامل الذي فجر الحرب الأهلية الكارثية في البلاد، يجلس منتشيًا بالنصر، داخل قصره في دمشق، ويبدو الرئيس بشار الأسد، الذي أنقذه حلفاؤه الروس والإيرانيون، أكثر أمنًا من ذي قبل، وبات معظم السوريين منهكين، لكن الأعمال الوحشية التي يرتكبها “نظامه” على نحو ممنهج، سوف تستمر في دفع البعض، باتجاه المقاومة المسلحة، وسيبحث تنظيم الدولة عن سبل، للعودة إلى ساحة المعركة السورية.
وأبعد من ذلك، وعلى المستوى العالمي، أينما وجد شعور بنظام حكم سيء أو حرمان أو اضطهاد ديني ضد المسلمين، أو أينما وجدت شرائح واسعة من الشباب الساخط، الذين يشعرون بأن حياتهم تفتقد إلى الهدف، ستوجد دائمًا فرص للتجنيد ضمن “جماعة” تنظيم الدولة.
وإن انتهت خلافة التنظيم، لكن أيديولوجيته القابلة للانتشار بشكل خطير لم تنته بعد، فمستقبل التنظيم مرهون بشكل كبير بمعالجة المسببات التى أدت لنشوئه وصعوده، لعل أهمها – بحسب خبير الشؤون الأمريكية بمركز الأهرام الدكتور أحمد سيد أحمد – هشاشة الدولة الوطنية فى بعض الدول العربية مع اندلاع الحروب الأهلية الطاحنة فيها، توظيف التنظيم للشعارات الإيديولوجية الإسلامية لاستقطاب أكبر عدد من المقاتلين، فضلاً عن لعبة المصالح وصراع الأجندات بين الدول الكبرى.
بناءً على ما سبق تخلص ورقة بحثية أعدَّها حسن أبو هنية، ونُشرت بمركز الجزيرة للدراسات، إلى أن عودة التنظيم مرة أخرى للتمدد وفرض سيطرته المكانية أمر مستبعد على المدى القريب والمتوسط، لكنها ممكنة على المدى البعيد، لأن الأسباب التي أدت إلى بروزه وصعوده لا تزال حاضرة ولم تتغير.
من السيطرة على المدن إلى حرب العصابات
في الـ17 من أكتوبر 2018، وفي مقابلة مع وكالة أسوشيتد برس، أعلن الرئيس دونالد ترامب هزيمة تنظيم الدولة، وقال: “داعش هُزمت في جميع المناطق التي قاتلناها”، وذلك بعد قيام قوات سوريا الديمقراطية بتحرير الرقة، معقل تنظيم الدولة في سوريا، في أكتوبر 2017، في ذلك الوقت، وصف أعضاء قوات التحالف انتصارهم على وسائل التواصل الاجتماعي على أنه “هزيمة قوى الظلام”، بعد وقت قصير من سقوط الرقة، أدلى الرئيس العراقي آنذاك حيدر العبادي بإعلان مماثل بعد أن استعاد الجيش العراقي السيطرة على الحدود العراقية السورية.
ومع ذلك، على الرغم من أن عام 2018 أدَّى إلى ما بدا وكأنه هزيمة الخلافة الإقليمية للدولة الإسلامية في العراق وسوريا، فإن التطورات على الأرض تشير إلى أنه بدلاً من أن يعاني تنظيم الدولة من هزيمة كاملة، غيَّر إستراتيجيه، وعاد إلى جذوره كنهج “حرب العصابات”.
التنظيم أصبح أكثر اعتمادًا على حرب العصابات
تطلبت خسائر داعش تعديل إستراتيجيته والانتقال من المدن الحاكمة إلى شن حرب العصابات في المناطق التي كان يسيطر عليها سابقًا، ونتيجة لذلك، خلال العام الماضي، كانت هناك العديد من التقارير عن هجمات “داعش” على القرى العراقية وقوات الأمن العراقية، بما في ذلك في ديالا وصلاح الدين وكركوك.
ازدادت هذه الهجمات في الآونة الأخيرة، ووفقًا لبيانات جهاز مخابرات مجلس الأمن الإقليمي لكردستان في شمال العراق، شن التنظيم أكثر من 70 هجومًا في أغسطس، وأكثر من 80 هجومًا في سبتمبر، وما يقرب 90 هجومًا في أكتوبر، ونتيجة لذلك، قال مسؤول كبير في مجلس النواب الأمريكي: “معاقل داعش السابقة عادت إلى الظهور مرة أخرى”.
وتعكس هذه الزيادة في الهجمات قرارًا واعيًا تم اتخاذه للعودة إلى نمط العمليات التي استخدمها التنظيم من عام 2007 حتى عام 2010، عندما لم يتمكن من السيطرة على منطقة كبيرة في العراق، ولكنها نفذت هجمات حرب عصابات ضد القوات العراقية والأمريكية في البلاد، وقد أشار إلى هذا التغير في الاتجاه المتحدث الرسمي باسم “داعش” أبو محمد العدناني، الذي قُتل في أغسطس 2016 ، خلال خطابه الأخير في مايو 2016.
كرر أبو بكر البغدادي، زعيم داعش، هذه الأفكار في خطابه الأخير الذي صدر في أغسطس/آب 2018، بعد فترة طويلة من الصمت اعتقد البعض أنه قُتل خلالها، صرّح البغدادي أن “مقياس النصر أو الهزيمة ضد المجاهدين أهل الإيمان والتقوى، ليس مرتبطًا بمدينة أو قرية تم أخذها”، وإلى جانب الدعوة إلى تنفيذ هجمات ضد أهداف غربية، وهو موضوع متكرر لبيانات داعش في السنوات الأخيرة، ادعى البغدادي أن “التاريخ يعيد نفسه”.
هذا التطور من شبة الدولة إلى تنظيم “حرب العصابات” يجسد إلى حد كبير العودة إلى الظهور المبكر للجماعة في العراق قبل إعلان الخلافة عام 2014
وتشير منشورات داعش في الأشهر القليلة الماضية إلى العودة لإستراتيجية مهاجمة الميليشيات الشيعية والمقاتلين السنَّة الذين يعملون ضدها، فقد قتل تنظيم الدولة أكثر من 3 من المختارين (رؤساء قرى) في الأسبوع خلال الأشهر الست الماضية، ويشير هذا التمرد إلى جزء من خطة “داعش” لقمع أي مقاومة للمنظمة وقد يشير إلى نية المنظمة في استعادة السيطرة على هذه المناطق في المستقبل.
وتهدف حرب العصابات هذه إلى فضح ضعف الدولة العراقية وافتقارها إلى سيطرة فعلية على العديد من مناطق البلاد، مع تقويض الإحساس بأمن المواطنين (السنة والشيعة على حد سواء) في المناطق التي هُزم فيها التنظيم ظاهريًا، على سبيل المثال، في منطقة الحويجة، وهي منطقة حررها الجيش العراقي في أكتوبر/تشرين الأول 2017، يزعم المدنيون أنه “حتى خلال النهار، نتعرض لخطر الاختطاف والقتل والنهب والسرقة، يمكن لداعش أن تفعل أي شيء يريدونه، نحن تحت سيطرتهم”.
هذا التطور من شبه الدولة إلى تنظيم “حرب العصابات” يجسد إلى حد كبير العودة إلى الظهور المبكر للجماعة في العراق، قبل إعلان الخلافة عام 2014، لذلك فإن الإعلان عن هزيمة نهائية للتنظيم لا يزال بعيد المنال، من خلال التفريق بين نهاية المشروع السياسي لتنظيم الدولة، وبين التنظيم كحركة “تمرد سُنيَّة سلفية راديكالية” تعمل كمنظمة تتوافر على هيكلية تنظيمية وأيديولوجية وتمويل.