ترجمة وتحرير: نون بوست
لئن لم تحصل القمة الثلاثية على تغطية إعلامية كبيرة في الدول الغربية، إلا أن انعقادها يعد إشارة هامة، وإن كانت خافتة بعض الشيء، على أن المشهد الجيوسياسي في أوراسيا يشهد تغيرات كبيرة.
في 14 شباط/ فبراير 2019، التقى قادة الدول الثلاث الأبرز في أوراسيا في منتجع سوتشي الروسي المطل على البحر الأسود لمناقشة القضية السورية. وقد استضاف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، هذا اللقاء الثلاثي بحضور كل من الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، والرئيس الإيراني، حسن روحاني. وفي حين كانت سوريا هي المحور الرئيسي لهذا الاجتماع، مثلت هذه القمة تطوراً مهما فيما يتعلق بالشؤون الأوراسية، إضافة إلى التقارب المتزايد للمصالح الوطنية التي تجمع بين إيران وروسيا وتركيا.
في الواقع، جاءت هذه القمة في الوقت الذي أوشك فيه الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على الاتفاق حول فرض عقوبات جديدة ضد روسيا، ناهيك عن احتفال إيران بمرور أربعين سنة على ثورتها وتعهدها بتحدي الدول الغربية من خلال إعلانها عن استمرار جهودها في صنع الصواريخ ومواصلة تأثيرها في الشؤون الإقليمية. إلى جانب حملة الاعتقالات التي أعلنتها الحكومة التركية المرتبطة بمحاولة الانقلاب الفاشلة التي حدثت سنة 2016.
فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية على روسيا بسبب تدخلها في أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم سنة 2014، وهما يدرسان حاليا فرض عقوبات جديدة ردا على عدوان روسيا على أوكرانيا في بحر آزوف
على الرغم من أن هذا التجمع بالكاد يكون تحالفًا متماسكًا، بيد أنه يقدم نموذجًا مناهضًا لصعود القوة الصينية في الشرق والقارة الأوروبية، التي تعاني من أزمة هوية. فضلا عن ذلك، يقدم هذا اللقاء الثلاثي نموذجا للولايات المتحدة، التي كشفت تحت إدارة ترامب عن اهتمامها بسحب قواتها من سوريا وأفغانستان. ومن المؤكد أن كلا من إيران وروسيا وتركيا تملك غايات مختلفة في سوريا، لكن حتما لديهم أهداف متداخلة في بقية أنحاء أوراسيا، التي تواجه خطر أن تصبح امتدادات اقتصادية للصين. الجدير بالذكر أن هذه الدول الثلاث تجمعها علاقات متوترة مع الغرب.
من جانبها، فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية على روسيا بسبب تدخلها في أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم سنة 2014، وهما يدرسان حاليا فرض عقوبات جديدة ردا على عدوان روسيا على أوكرانيا في بحر آزوف. كما أعادت الإدارة الأمريكية فرض عقوبات على إيران، وفرضت أيضا لفترة وجيزة عقوبات على مسؤولين رفيعي المستوى في الحكومة التركية (ولكنها أُسقطت لاحقاً). وقد اختلفت تكاليف هذه العقوبات من بلد إلى آخر، لكن من المؤكد أنها أضرت بآفاق النمو لكل من روسيا وإيران.
عانت إيران من تداعيات هذه العقوبات القاسية، حيث وجدت نفسها غير قادرة على المشاركة في التجارة والاستثمار الاقتصادي العالمي بسبب مشاركتها في الإرهاب، وتطوير برامج الأسلحة الباليستية والنووية والتدخل في شؤون الدول الأخرى في المنطقة. ويهدف قرار دونالد ترامب القاضي بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، الذي تفاوضت عليه إدارة أوباما (خطة العمل الشاملة المشتركة سنة 2015)، لإعادة فرض عقوبات أمريكية صارمة ضد إيران، التي تضغط على الاقتصاد الذي اتسم نموّه في الآونة الأخيرة بالتباطء، وارتفاع التضخم، وزيادة معدلات البطالة وسوء الإدارة.
سعت تركيا إلى البحث شرقاً لاكتساب نفوذ أكبر في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى
في السياق ذاته، خسرت العملة الإيرانية جزءا كبيرا من قيمتها في أواخر سنة 2018، وهو ما أدى إلى ارتفاع قيمة الواردات، بما في ذلك الغذاء. وعلى الرغم من أن تركيا تظلّ شريكا تجاريا بارزا لأوروبا، إلاّ أن العلاقات بين الطرفين بقيت متوترة. ولم يحظ طلب أنقرة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، الذي قدمته في البداية سنة 1987، بالموافقة جراء المخاوف من تأثير بلد ذو أغلبية مسلمة داخل الكتلة التجارية، إلى جانب الدور الكبير الذي يلعبه الجيش في الشؤون السياسية في البلاد.
علاوة على ذلك، مثلت طبيعة حكومة الرئيس اردوغان نقطة خلاف بين الطرفين. في الوقت ذاته، كان هناك سخط في تركيا بسبب ما تم اعتباره دعما غربيا ضئيلا لحكومة أردوغان، التي نجحت في إفشال محاولة انقلاب سنة 2016. ونتيجة لذلك، سعت تركيا إلى البحث شرقاً لاكتساب نفوذ أكبر في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. من هذا المنطلق، اكتست علاقاتها مع روسيا وإيران أهمية أكبر على صعيد التجارة والاستثمار. كما تسعى تركيا إلى أن يكون لها دور في تلك المناطق في أوروبا الشرقية التي لا تزال تتضمن أقليات مسلمة، على غرار ألبانيا وبلغاريا والبوسنة وكوسوفو.
من جهتها، أبدت تركيا استعدادها لشراء الأسلحة من الصين وروسيا، وهو ما أدى إلى توتر العلاقات مع حلف شمال الأطلسي (الناتو). في الحقيقة، ظهرت أصوات تطالب تركيا بضرورة الانسحاب من حلف الناتو. وفي الوقت الذي شهدت فيه العلاقات بين تركيا والدول الغربية توترا، فإن بروز الصين كقوة اقتصادية دفعت كل من إيران وروسيا وتركيا إلى التقارب. الجدير بالذكر أنه في أوائل القرن الحادي والعشرين، استعرضت الصين عضلاتها الاقتصادية والسياسية، حيث سعت لإحياء طريق الحرير القديمة التي تربط بين الصين وأوروبا والتي تشمل شبكة واسعة من النقل والتجارة.
ظهرت الصين بين هاته البلدان الثلاثة على أنها واحدة من كبار الشركاء التجاريين، حيث تلعب دور سوق التصدير الرئيسية بالنسبة لكل من إيران وروسيا
في الحقيقة، تستخدم مليارات الدولارات المتأتية من مبادرة الحزام والطريق الصينية والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، في إنشاء الطرق والسكك الحديدية علاوة على الاستثمار في مجال الطاقة وغيرها من المجالات التي من شأنها أن تجعل من أوراسيا سوقا كبيرة وموحدة لعرض السلع والاستثمارات الصينية، فضلا عن تحويلها لمنطقة تخضع لهيمنة بكين.
في الأثناء، ظهرت الصين بين هاته البلدان الثلاثة على أنها واحدة من كبار الشركاء التجاريين، حيث تلعب دور سوق التصدير الرئيسية بالنسبة لكل من إيران وروسيا، كما ساهمت في تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر إلى كلا البلدين. ووفقا لمعهد “أمريكان انتربرايز”، بلغت قيمة الاستثمارات الصينية في روسيا والعقود المبرمة بين البلدين خلال الفترة الممتدة بين 2005 و2018، حوالي 47.2 مليار دولار، بما في ذلك 26.6 مليار دولار في مجال الطاقة، يليه مجال تجارة المعادن بقيمة 5.8 مليار دولار، فضلا عن حوالي 2.1 مليار دولار في مجال النقل. وخلال الفترة ذاتها، تلقت إيران حوالي 27 مليار دولار، بما في ذلك مبلغ 11.8 مليار دولار مخصصا لمجال الطاقة و6.3 مليار دولار لمجال النقل.
كما كانت تركيا محط أنظار الصين فيما يتعلق بالاستثمار، إذ استقطبت استثمارات بلغت قيمتها 15 مليار دولار خلال الفترة نفسها، وقد خصصت الحصة الأكبر والتي قدرت قيمتها بنحو 9.5 مليار دولار، لمجال الطاقة (خطوط الأنابيب ومحطات توليد طاقة كهربائية). وبلغت قيمة الاستثمارات في مجال النقل 2.3 مليار دولار، وهو ما كان جليا من استحواذ شركة كوسكو باسيفيك الصينية على ميناء كومبورت بإسطنبول، وهو ثالث أكبر ميناء في تركيا، في أيلول/ سبتمبر سنة 2015، مقابل 940 مليون دولار. وتكمن جاذبية تركيا بالنسبة للشركات الصينية في كونها مركزا لوجستيا من شأنه أن يكون بمثابة البوابة التي تؤدي لأوروبا وأفريقيا.
وسط عالم يشهد نموا واضحا للصين، تبدي الولايات المتحدة الأمريكية شيئا من اللامبالاة في حين تواصل أوروبا رحلة البحث عن ذاتها
على الرغم من أنه غالبا ما يُقبل الصينيون محمّلين بالصفقات المربحة، إلا أنهم يمثلون مصدر قلق بالنسبة لأنقرة وموسكو وطهران. بعبارة أخرى، تمثل الصين قوة اقتصادية عظمى في منطقة أوراسيا، ما يسمح لها باكتساح مناطق النفوذ التابعة للدول الثلاث بما في ذلك آسيا الوسطى والشرق الأوسط ومنطقة أوروبا الشرقية، التي تشكل المصدر الرئيسي للمخاوف الأمنية لروسيا.
كما تعتبر معاملة الصين القاسية لأقلية الأويغور المسلمة موطنا آخرا من مواطن الخلاف. وفي حين أنه تم إسكات ردود إيران وتركيا إزاء حملات القمع التي شنتها الصين على الأويغور في سنجان (الجزء الغربي من البلاد)، تظل هذه المسألة محل نزاع. في الواقع، كانت تركيا قد دعت في شباط/ فبراير الماضي، الصين إلى “احترام حقوق الإنسان الأساسية للأتراك الأويغور وإغلاق معسكرات الاعتقال”.
وسط عالم يشهد نموا واضحا للصين، تبدي الولايات المتحدة الأمريكية شيئا من اللامبالاة في حين تواصل أوروبا رحلة البحث عن ذاتها، علاوة على أن أجزاء عديدة من منطقة أوراسيا تصارع بسبب ظروف سياسية واقتصادية عصيبة (على غرار أفغانستان وباكستان واليمن). أما بالنسبة لإيران وروسيا وتركيا، فيتشاركون المصالح ذاتها، مما دفعهم إلى توحيد الجهود.
في هذا الشأن، تمثل سوريا العامل الرئيسي الذي يقف وراء تظافر جهود الدول الثلاث، حيث بدأت محاولاتهم للإطاحة بالنظام الدكتاتوري للأسد في سنة 2011. وعلى الرغم من اختلاف القوى الثلاث، في البداية، حول الصراع في سوريا، إذ تعمدت تركيا إسقاط طائرة عسكرية روسية في سنة 2015، إلا أن السياسة الواقعية أدت إلى التفاف أنقرة وموسكو وطهران حول هدف واحد. وتكمن المصلحة المشتركة في سوريا في الحاجة إلى الاستقرار السياسي ودفع الولايات المتحدة، فضلا عن الوحدات الفرنسية والبريطانية الأصغر حجما، إلى الانسحاب من الأراضي السورية، مع الحرص على عدم عودة تنظيم الدولة.
تتجسد أهمية سوريا بالنسبة لروسيا، في أنها تعد بمثابة الدليل على أن موسكو سجلت حضورها بصفتها قوة عظمى
بالنسبة لإيران، تظهر أهمية سوريا في أنها تضم قيادات شيعية ومؤيدة لطهران، كما أنها تعد جزءا من سلسلة توريد لحزب الله في لبنان، باعتباره حليفا إيرانيا آخر، كما أن هذا يعد انتصارا لطهران في حربها الباردة ضد الرياض التي أصبحت طرفا فاعلا في جميع أنحاء المنطقة.
تتجسد أهمية سوريا بالنسبة لروسيا، في أنها تعد بمثابة الدليل على أن موسكو سجلت حضورها بصفتها قوة عظمى، حيث أنها توفر موانئ ذات أهمية استراتيجية لموسكو، إلى جانب القواعد الجوية التي تخول لها استعراض قوتها بشكل أكبر. علاوة على ذلك، تمثل سوريا الساحة التي تمكنت فيها روسيا من اختبار أسلحة حديثة الصنع واكتساب خبرة فيما يتعلق بالمعارك العسكرية. بالتالي، ترغب كل من إيران وروسيا في رؤية نظام الأسد يستعيد سيطرته على بقية سوريا ووضع حد للنزاع القائم.
أما بالنسبة لتركيا، فتعود الأهمية الاستراتيجية لسوريا إلى احتمال سعي الأكراد السوريين، صحبة أكراد آخرين، لتحريض الأكراد الأتراك على التمرد من أجل إرساء دولة مستقلة وخاصة بهم. وقد خيمت المخاوف من توسع بلاد الكرد على المنطقة لفترة طويلة، والتي تعززت لاحقا لا سيما إثر محاولات الأكراد العراقيين للحصول على الحكم الذاتي، تليها محاولات الأكراد في سوريا. في هذا الصدد، ترغب تركيا في إنشاء منطقة عازلة تفصل الأكراد السوريين عن مناطقها الجنوبية الشرقية.
سبق وأن عقدت كل من إيران وروسيا وتركيا عديد الاجتماعات المتعلقة بالوضع في سوريا. وخلال القمة المنعقدة في 14 شباط/ فبراير، تمثلت أهم نقاط النقاش الرئيسية في ضرورة إخراج القوات الأمريكية من منطقة شرق سوريا وتقديم خطة لمساعدة نظام الأسد على استعادة سيطرته على منطقة تمركز الأكراد. ومن المحتمل أن تمثل هذه الخطوة تحديًا صعبًا، ولكن يبدو أن القوى الثلاث تفضل النقاش بدلاً من القتال، وهو تطور مهم، نظرا لتاريخها الحافل.
من المرجح أن تختبر أفغانستان، التي تسعى الولايات المتحدة لسحب قواتها منها، استراتيجية العلاقات بين إيران وروسيا وتركيا
تعتبر سوريا مسرحا تتخبط فيه العلاقات بين كل من إيران وروسيا وتركيا، إذ يتوجب على هذه الدول الثلاث أن تدرس بعناية فائقة نتائج تدخلها في هذا البلد مقابل الأهمية التي يكتسيها توسّع علاقات التجارة والاستثمار، والجبهة الموحدة بينهم ضد التدخّل الغربي، والقوة الاقتصادية الهائلة التي تشكلها الصين، والتي لا يمكن ردعها. فضلا عن ذلك، تهتم هذه الدول الثلاث بالشواغل ذاتها المتعلقة بالمشاكل البيئية والإجرام الدولي والقضايا الأخرى؛ على غرار اتخاذ موقف مشترك مناهض للجهود الأمريكية الرامية إلى تعزيز تغيير النظام في فنزويلا.
من المرجح أن تختبر أفغانستان، التي تسعى الولايات المتحدة لسحب قواتها منها، استراتيجية العلاقات بين إيران وروسيا وتركيا. ومن جهة أخرى، تتشارك أفغانستان حدودها مع إيران، كما أنها لا تبعد عن روسيا، وتحظى بعلاقة مستمرة مع تركيا، بما في ذلك تدريب الأفراد العسكريين وأفراد الشرطة. وكيفما كانت الاتفاقية التي ستتبلور بين واشنطن وطالبان من أجل مستقبل أفغانستان، فإن أنقرة وموسكو وطهران سيستفيدون من نتائجها، إذ اكتفوا جميعا من الفوضى السياسية المنتشرة في المنطقة المجاورة، خوفا من اضطرارهم للانسحاب من البلدان الأخرى، على غرار باكستان والصين والهند.
على الرغم من أن قمة الدول الثلاث لم تحظى بتغطية صحافية كافية في الغرب، إلا أن انعقادها يمثل إشارة هامة، حتى وإن كانت صامتة بعض الشيء، على أن المشهد الجيوسياسي لأوراسيا يشهد تغيرات كبيرة، مع ميل المنافسين التقليديين أكثر إلى العمل معاً من أجل تحقيق أهداف مشتركة في ظل خليط من السياسات المعادية للغرب، والمؤيدة للاستبدادية، والتي تتوخى حذرها تجاه الصين.
في الواقع، يعد هذا الأمر مهما، بما أن أوراسيا هي المنطقة التي تتركز فيها الدراما الجيوسياسية الأساسية للقرن الحادي والعشرين، والتي شهدت عديد التحركات كما لو كانت رقعة شطرنج. ولو كان السلاطين والملوك من فترة ما قبل سنة 1914 موجودين لأدركوا مخاطر تغير المشهد الجيوسياسي الحالي المتسارع.
المصدر: ناشيونال إنترست