لا تزال لعبة شد الحبل بين كل من موسكو وواشنطن في شرق الفرات مستمرة، وعقدة الحبل محل الخصام بين الخصمين في المنطقة هي قوات سوريا الديمقراطية التي تسيطر على منطقة شرق الفرات منطقة النفوذ الأمريكية الأهم في سوريا إذا أخذنا في الحسبان جيب التنف الصغير الذي تتمركز فيه قوة أمريكية منذ سنوات.
وشرق الفرات ذاته هو الهدف الذي تعمل روسيا للسيطرة عليه بتقديم إغراءات لقوات سوريا الديمقراطية لتكون بذلك أمنت سيطرة حليفها النظام السوري على المنطقة الأهم من الناحية الاقتصادية في سوريا، فهي تعتبر خزان النفط الأكبر وسلة سوريا الغذائية التي تستطيع موسكو الاعتماد عليها في عمليات دعم إعادة الإعمار في سوريا.
تهديدات متبادلة
قبل أيام هدد الجنرال بول لاكاميرا قائد قوات التحالف الدولي ضد داعش، أن الولايات المتحدة ستضطر لوقف مساعداتها العسكرية لقوات سوريا الديمقراطية التي تقاتل تنظيم داعش في حال تحالف مقاتلوها مع نظام الأسد أو روسيا، في الوقت الذي هدد رئيس النظام السوري بشار الأسد هذه القوات باستخدام القوة في مواجهتها، متهمًا إياها بالعمالة للولايات المتحدة الأمريكية.
معركة التهديدات والرسائل المتبادلة بين موسكو وواشنطن عبر دمشق والقامشلي، تعتبر فصلاً من فصول الرواية في شرق الفرات بعد قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب القاضي بالانسحاب العسكري من سوريا، الذي جاء بالتزامن مع زيادة أنقرة لتهديداتها باستخدام الحل العسكري للقضاء على الإدارة الذاتية بحجة حماية أمنها القومي.
استمرت الولايات المتحدة الأمريكية في إعطاء تطمينات لحليفها السوري، قوات سوريا الديمقراطية، بأنها ورغم قرار الانسحاب المؤكد، لن تتركها فريسة سهلة لتركيا المتربصة بالمنطقة
الأمر الذي حمل الإدارة الذاتية على البحث عن حلول وفتح قنوات دبلوماسية وطرق جميع الأبواب الممكنة للحصول على العرض الأفضل لتحمي مكتسباتها على الأرض، ومن بين العروض التي قدمت للإدارة الذاتية كان العرض الروسي للوساطة بين القامشلي ودمشق بغية الوصول لاتفاق يرضي الطرفين.
تطمينات أمريكية لقوات سوريا الديمقراطية
في السياق استمرت الولايات المتحدة الأمريكية في إعطاء تطمينات لحليفها السوري، قوات سوريا الديمقراطية، بأنها ورغم قرار الانسحاب المؤكد، لن تتركها فريسة سهلة لتركيا المتربصة بالمنطقة، لتضمها إلى مناطق نفوذها في شمال سوريا، لكنها في ذات الوقت مستمرة في تطمين حليفها في الناتو، أي تركيا بأنها ستضمن حماية مصالحها أيضًا.
خلال الفترة الماضية كانت المساحة المتاحة للإدارة الذاتية كافية للتحرك الدبلوماسي والمقارنة بين العروض المقدمة لها، وبدأت قيادات مجلس سوريا الديمقراطية بالتنقل بين موسكو وواشنطن لفهم المواقف وتقديرها.
التحركات الأخيرة للولايات المتحدة الأمريكية لا تشي بوجود نية حقيقية لدى واشنطن بالانسحاب الفعلي من سوريا، وإن كان الانسحاب العسكري سيحصل فيزيائيًا
لكن التصعيد الأخير في التصريحات سواء من الجانب الأمريكي أم النظام، في ذات الوقت الذي يستمر فيه وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف بالتأكيد على أن واشنطن تسعى لبناء دولة شمال شرق سوريا، كل ذلك يحصر المساحة التي كانت متاحة للإدارة الذاتية قبل الآن، وهي اليوم أمام خيارات قليلة وواضحة، وأضحى حساب الخطوات التي تقوم بها أكثر دقة.
خيارات ضيقة
إذًا، الإدارة الذاتية اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما، إن اختارت الحل السياسي لا العسكري، فإما القبول بالعرض الروسي الداعم للتفاهم مع النظام، وهي بذلك تخسر علاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهنا تبقى رهينة المزاج الروسي الذي قد ينقلب عليها في أي لحظة، خاصة أن العلاقة بين موسكو وأنقرة نستطيع تسميتها بالوئام، وهنا تضع الإدارة الذاتية نفسها في لعبة المقايضة الروسية التركية، كما فعلت قبلها المعارضة الروسية، وبذلك يبقى احتمال مقايضة شرق الفرات بإدلب قائمًا.
أو أن تراهن على الموقف الأمريكي الذي يؤكد حماية المنطقة من أي هجوم عسكري، لكن لا يضمن للإدارة الذاتية إبقاء الحال على ما هو عليه، خاصة إذا وضعنا بالحسبان تحركات وليام روباك المبعوث الأمريكي إلى سوريا، ولقاءاته مع تيارات سياسية على خصومة مع الإدارة الذاتية، ما يشي بإمكانية فرض واشنطن شراكة بين الإدارة الذاتية مع خصومها المحليين.
قصارى القول، أن التحركات الأخيرة للولايات المتحدة الأمريكية لا تشي بوجود نية حقيقية لدى واشنطن بالانسحاب الفعلي من سوريا، وإن كان الانسحاب العسكري سيحصل فيزيائيًا، لكن لا يعني هذا أن واشنطن ستنحسب بشكل فعلي من الملف السوري، لا سياسيًا ولا عسكريًا، بل ستضمن وجود قوات عسكرية حليفة لها في سوريا، سواء بنشر قوات أوروبية في المنطقة كما طرح ترامب قبل فترة، أم عبر قوات محلية موالية لها، وهنا يبقى الخيار للإدارة الذاتية لاختيار الموقع الذي يضمن خروجها من المعركة بأقل الخسائر.