تجاوزت حرب الإبادة على قطاع غزة عامًا من عمرها، استخدم خلالها الاحتلال أبشع أساليب القوة الغاشمة في محاولة لتدمير القطاع بكامل بنيته المجتمعية والسياسية والحكومية، فضلًا عن تفكيك أواصر السلم الأهلي، فلم يقتصر العدوان على الجانب العسكري فحسب، بل تزامن مع عمليات “كي وعي” ضخمة تهدف إلى تطويع المجتمع في غزة، ودفعه نحو مسارات قسرية تفضي إلى خلق نظام جديد موالي للاحتلال.
إذ لم تنجح أدوات الضغط العسكري المباشر في إحداث انهيار سريع للنظام القائم أو المجتمع في قطاع غزة، ما دفع الاحتلال إلى تبنّي مجموعة من الخطوات الصغيرة والمتواصلة في إطار عملية تفكيك تدريجي للبنية المجتمعية والسياسية، بهدف إحلال تركيبة جديدة في القطاع ترتبط وجوديًا بالاحتلال، وتعمل على تغيير التركيبة الاجتماعية والحكومية بما يتناسب مع مصالحه.
“قطط الحرب السمان” أو “تجار الحرب” كانوا إحدى أبرز الأدوات التي استثمر فيها الاحتلال، بهدف إعادة تشكيل طبقة المال والأعمال في قطاع غزة، فمن خلالهم سعت “إسرائيل” إلى إحلال مجموعة محددة من رجال الأعمال ليكونوا القوة الاقتصادية المسيطرة في القطاع، والمستفيدة من الامتيازات الحصرية الممنوحة لهم، ما جعلهم المتحكمين الرئيسيين في السوق، بما يشمل السيولة النقدية ونوعية السلع.
يضاف إلى ذلك استثمارهم في مجموعات “البلطجية” والمسلحين خارج إطار القانون، تحت ذريعة تأمين الشاحنات التجارية، ما أضاف طبقة من الفوضى والابتزاز على الواقع الاجتماعي والاقتصادي للقطاع المنهار أصلًا.
مرحلة ما قبل اجتياح رفح
في 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، فرض الاحتلال حصارًا شاملًا على قطاع غزة، شمل منع دخول المواد الأساسية مثل الغذاء والماء والدواء والوقود والكهرباء. وبما أن قوات الاحتلال لم تكن تسيطر على الأرض في معبر رفح التجاري، لجأت إلى إغلاقه بالقوة العسكرية، حيث تعرّض المعبر للقصف عدة مرات في الأسابيع الأولى من الشهر ذاته.
استهدفت الغارات الجوية المنطقة العازلة بين البوابتَين المصرية والفلسطينية للمعبر، ما ألحق أضرارًا كبيرة به وأدّى إلى إغلاقه، كما هددت “إسرائيل” بقصف شاحنات الوقود ومواد الإغاثة القادمة من مصر، والتي كانت في طريقها إلى قطاع غزة، في محاولة للضغط على السكان والسلطات الفلسطينية.
استمر إغلاق معابر قطاع غزة حتى 21 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وبعدها تمّ إدخال بعض الإمدادات بشكل جزئي تحت الضغط الدولي، وبعد أن فرضت “إسرائيل” آلية رقابة مشددة على الشاحنات الواردة من معبر رفح، حيث كانت الشاحنات تخضع للتفتيش من قبل جيش الاحتلال في معبر كرم أبو سالم قبل أن تواصل طريقها إلى مصر، وتتجه إلى غزة عبر معبر رفح.
تذبذبت عملية دخول المساعدات بشكل كبير، حتى تم التوصل إلى اتفاق تهدئة في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، والذي بدأ سريانه حتى مطلع ديسمبر/ كانون الأول 2023، وكان ينص على زيادة دخول شاحنات المساعدات والوقود إلى القطاع خلال أيام التهدئة.
أعاد الاحتلال إغلاق معبر رفح مع انهيار التهدئة، إلا أن الضغط الدولي ساعد تدريجيًا في تحسين حركة شاحنات المساعدات، ما سمح بدخول بعض الشاحنات التجارية، كما ظهرت حينها بعض الأساليب الالتفافية لتهريب البضائع عبر الشاحنات التي تصل إلى المعبر.
في المقابل، كثّف الاحتلال استهدافه لطواقم وزارتَي الداخلية والاقتصاد المكلّفة بمتابعة ملفات المعبر والبضائع، حيث استهدف مديرَي أمن المعبر والطواقم الشرطية المسؤولة عن تأمين الشاحنات، كما تعرض مدراء وزارة الاقتصاد العاملين في محافظة رفح للاستهداف، وصولًا إلى استهداف وكيل وزارة الاقتصاد في قطاع غزة في الأشهر التي تلت الحرب، أثناء تواجده مع والدته في مدينة دير البلح وسط القطاع.
هدفَ الاحتلال من خلال استهدافه المتواصل للطواقم المكلفة بضبط الحركة التجارية والسقف السعري، إلى إحداث فراغ في منظومة الإدارة التي تنظّم عمليات المعبر، ما يعزز من الفوضى ويتيح له مزيدًا من السيطرة، مع ذلك لم تنجح هذه الاستهدافات في تقليص تواجد الطواقم الفنية والمهنية في معبر رفح، التي حاولت بكل جهد الحفاظ على استقرار النظام التجاري ومنع انهيار السوق في ظل الحصار.
وفي المقابل، لم يفوّت تجار الحروب الفرصة التي أتاحتها الحرب والحصار المشدد، وأمام الارتفاع الكبير في الطلب بسبب نقص الإمدادات، شهدت أسعار السلع ارتفاعًا غير مسبوق، حيث وصلت بعض الأسعار إلى أكثر من 5 أضعاف قيمتها الطبيعية.
بالتوازي مع الوضع الاقتصادي المتدهور في قطاع غزة، شنَّ الاحتلال حربًا نفسية واسعة النطاق عبر وسائل الدعاية والتأثير، مستهدفًا وزارة الاقتصاد في قطاع غزة، موجّهًا لها الاتهام بتفاقم أزمة الغلاء نتيجة الضرائب الباهظة التي تفرضها وزارات حماس على السلع، في محاولة لتحريض المجتمع الفلسطيني المتضرر على الجهات الحكومية في القطاع.
لكن بعد أشهر من المحاولات المتواصلة والجهود المكثفة، تمكنت الأجهزة الحكومية في غزة من إعادة ضبط الأسواق، فنجحت في خلق توازن للأسعار من خلال وضع آليات فعّالة لضبط السقف السعري، وضمان التزام التجار بالقوانين، كما تمّت محاصرة السوق السوداء عبر تحديد مجموعة من الضوابط الملزمة، بالتعاون مع شرائح مجتمعية مختلفة، ما أسهم في تخفيف الضغوط الاقتصادية على السكان.
ما لبثت أسواق جنوب قطاع غزة تتنفس الصعداء بعد الجهود التي بُذلت لإعادة ضبط الأسعار، حتى قام الاحتلال في مايو/ أيار المنصرم باجتياح مدينة رفح، والزحف تدريجيًا حتى إتمام السيطرة على شريط فيلادلفيا الحدودي الفاصل بين قطاع غزة والأراضي المصرية، ما أدّى إلى إغلاق معبر رفح، وعودة شبح المجاعة.
رهائن الاحتلال والحصار والتجّار
شكلت السيطرة الإسرائيلية على معبر رفح، البوابة الرئيسية لتجاوز سلطات الحكومة القائمة في قطاع غزة على المعابر، وكذلك الدور التنسيقي الذي تقوم به هيئة المعابر والحدود في رام الله، فعقب السيطرة على المعبر، انتقلت حركة الشاحنات التجارية الداخلة إلى قطاع غزة بشكل كامل إلى معبر كرم أبو سالم، الذي يظل تحت السيطرة المباشرة للاحتلال، ما أعطى الاحتلال مزيدًا من التحكم في حركة البضائع والإمدادات إلى القطاع.
دشّن الاحتلال آلية جديدة للعمل مع تجار قطاع غزة، متجاوزًا تمامًا آليات التنسيق السابقة مثل الغرفة التجارية، ومكاتب الارتباط، وإجراءات استصدار رخص الاستيراد عبر وزارة الاقتصاد، وبدأ العمل بنظام إلكتروني يسمح للتجار بتقديم طلبات استيراد تشمل المحتوى المطلوب والشركة الموردة، لتمنح السلطات الإسرائيلية “تنسيقًا” يسمح لهم بإدخال البضائع.
لكن الاحتلال حصر امتياز الحصول على “التنسيق” بتجار محددين في قطاع غزة، لا يتجاوز عددهم 5 تجار، والذين يحصلون على تصاريح استيراد لكافة أنواع البضائع، سواء كانت ضمن دائرة تخصصهم أم لا، طالما كانت ضمن قائمة البضائع المسموح دخولها إلى القطاع، وبناءً على ذلك بات الاقتصاد في غزة رهينًا لمصالح فئة محدودة من التجار المرتبطين بالاحتلال.
في الوقت ذاته، قوبلت طلبات التنسيق الأخرى من بقية تجار قطاع غزة بالرفض من قبل الاحتلال، بما في ذلك كبار رجال الأعمال والشركات العاملة في السوق، ما دفع دفع الشريحة الكبرى من تجار القطاع إلى البحث عن سبل بديلة تضمن لهم الاستمرار في العمل التجاري، وإلا سينتهي بهم المطاف إلى الإفلاس ما لم يتكيّفوا مع هذه القيود.
نتيجة لذلك، بدأ التجار الذين حصلوا على الامتياز الخاص من سلطات الاحتلال ببيع “التنسيقات” للتجار الآخرين في القطاع مقابل مبالغ ضخمة، وكان الاحتلال على علم بذلك. وهكذا أصبح هؤلاء التجار الخمسة الذين يسيطرون على التنسيقات بمثابة وسطاء بين الاحتلال وبقية تجار غزة، وباتوا المتحكمين في من يبقى ضمن السوق ومن يُحرم من الاستيراد.
بالمقابل، قيّد الاحتلال خيارات الاستيراد لتجار قطاع غزة، حيث حصرها في خيارَين فقط: إما الاستيراد من شركات إسرائيلية، وإما من شركات فلسطينية تعمل في الضفة الغربية، دون السماح لتجار غزة بالاستيراد مباشرة من الخارج.
كما منح الاحتلال امتياز نقل البضائع عبر معبر رفح لشركة واحدة فقط، التي أصبح مالكها الغزي هو المسيطر الوحيد على خطوط النقل، حيث يتولى أسطول شاحناته تحريك البضائع على جانبَي المعبر وفقًا للأسعار والتكاليف التي يحددها، والتي وصلت إلى مبالغ كبيرة جدًّا توضع على كاهل التاجر المحلي، الذي يضطر إلى شراء “التنسيق”، والالتزام بالنقل مع شركة واحدة فقط، ما يجعل خياراته شبه معدومة، ويجعل التجارة في غزة خاضعة بالكامل لشروط الاحتلال.
سياسات الاحتكار والتعطيش
شكّل منع دخول السيولة النقدية إلى قطاع غزة أحد أبرز جوانب الحصار المشدد المفروض على القطاع، ما أدى إلى اقتصار السيولة المتداولة فيه على الأموال الموجودة أصلًا قبل الحرب.
جزء من هذه السيولة خرج من القطاع من خلال المبالغ الكبيرة التي دُفعت مقابل تنسيق السفر عبر معبر رفح خلال الأشهر الأولى من الحرب، حيث تراوحت أسعار التنسيق للفرد الواحد بين 5 آلاف و12 ألف دولار، بينما وصلت في بعض الحالات الخاصة إلى 20 ألف دولار، وكان يتم دفع هذه المبالغ نقدًا لشركات التنسيق المصرية.
حمل المسافرون ما تبقى من السيولة النقدية التي يمتلكونها وخرجوا بها عبر معبر رفح، وكان من بينهم عدد كبير من رجال الأعمال والموظفين في المناصب العليا بالمؤسسات الاقتصادية والمجتمع المدني والقطاع الخاص.
أدّى هذا النقل للسيولة النقدية إلى تفاقم أزمة السيولة الشحيحة أصلًا في قطاع غزة، ما أوجد منفذًا جديدًا للاستغلال تحت عنوان “السيولة النقدية”، عبر تقاضي عمولات تصل إلى 20% على عمليات “التكييش” أو توفير السيولة النقدية مقابل التحويلات البنكية.
شكّل التجار الحائزون على الامتياز الإسرائيلي بالاستيراد البوابة الرئيسية لضخّ السيولة النقدية في قطاع غزة، وذلك من خلال محال الصرّافة التي تتقاضى نسبًا مئوية مقابل تحويل السيولة، إذ تجري العملية بتسلسُل هرمي للشراء، حيث يشتري المستهلك السلع نقدًا من بائعي التجزئة، الذين يشترون بدورهم بضائعهم نقدًا من موزعي الجملة، والذين يشترون بدورهم بضائعهم نقدًا من المستورد، والأخير يدفع ثمن البضاعة عبر التحويل البنكي للشركة الموردة، ويعيد ضخّ السيولة في السوق مقابل عمولة تصل إلى 20%.
من خلال هذه الآلية، يحصل المستورد على هامش ربح من امتياز الاستيراد، وآخر من احتكار السلع وتحديد أسعارها وفقًا لرغباته، بالإضافة إلى هامش ربح آخر ناتج عن عملية التجارة بالسيولة النقدية وتقاضي الفارق من النسبة المئوية، وبذلك تنشأ عملية تكسُّب كبيرة لفئة قليلة جدًّا من الأشخاص مع كل شحنة بضائع تدخل إلى قطاع غزة.
وفي السياق نفسه، سمح الاحتلال لهؤلاء التجار بالاستثمار في معاناة التجويع التي تفشّت آثارها في شمال قطاع غزة لعدة أشهر، حيث منحهم أذونات جزئية لإدخال بضائع تشمل مواد غذائية ولحومًا وخضروات وفواكه، وتمّ بيعها بأسعار مرتفعة جدًّا، تتجاوز قيمتها الحقيقية بكثير.
وتدريجيًا، سيطر المستوردون الذين يستثمر فيهم الاحتلال على نوعية وشكل السلع الواردة إلى سوق قطاع غزة، ويعملون وفق قواعد تضمن لهم احتكار السلع النوعية، ويتلاعبون بحاجات السوق ويرفعون الطلب من خلال سياسة “تعطيش السوق”، حيث يتعمدون عدم استيراد سلعة معيّنة لفترة طويلة، ثم يقومون باستيرادها لاحقًا وضخّها في السوق بأسعار مرتفعة جدًّا، ما يضع المستهلك أمام ممر إجباري للحصول عليها.
كانت هذه نتيجة ما حدث مع عدة سلع كانت في البداية مدرجة ضمن قائمة الممنوع دخولها إلى قطاع غزة، مثل المنظفات والأحذية والملابس، حيث تمّ منح حق جزئي لاستيرادها لأحد التجار الرئيسيين، ليتمَّ ضخّها لاحقًا في السوق بـ 3 أضعاف سعرها الطبيعي، بغض النظر عن معاناة أبناء شعبهم.
علاوة على ذلك، أُتيحت لهم السيطرة غير المباشرة على حركة السيولة النقدية في السوق، حيث تتأثر قيمة العمولة التي يتقاضاها التجار بحسب حركة الشاحنات التجارية عبر معبر كرم أبو سالم، مع تذبذبها بين الزيادة والنقصان حسب حجم ووتيرة النقل.
كيف يعيد الاحتلال تشكيل طبقات النفوذ؟
عمل الاحتلال على استهداف بنية قطاع غزة بهدف تفكيكها وتدميرها، ولم يكن الهدف مقتصرًا على تجاوز السلطات الحكومية وتدمير مقوماتها فحسب، بل امتدَّ ليشمل استهداف البيئة الاجتماعية والاقتصادية للقطاع بكل تركيباتها التقليدية، ساعيًا إلى خلق واقع جديد، يتضمن بناء نظام طبقي واقتصادي جديد، بالإضافة إلى مربعات نفوذ عشائرية واقتصادية ترتبط مصالحها ووجودها بشكل وثيق مع الاحتلال وتخدم أهدافه.
لكن الاحتلال فشل مرارًا في خلق نماذج بديلة للسلطات الحكومية الفلسطينية، سواء تلك التي تديرها حركة حماس في قطاع غزة عبر لجنة متابعة العمل الحكومي، أو حتى الأجسام الحكومية التي تنسّق مع حكومة السلطة الفلسطينية في رام الله، وذلك رغم الجهود المبذولة لتطبيق ما يعرف بمحدد نتنياهو الأساسي لشكل الحكم المقبول إسرائيليًا في غزة، والذي يتلخّص في رفض أي نموذج سياسي من شأنه أن يكون مرتبطًا بحركة حماس أو حركة فتح بشكل مطلق، وهو ما يمكن تلخيصه بمقولته: “لا حماستان ولا فتحستان”.
“اليوم التالي”.. كيف يحاول نتنياهو تفكيك أية كينونة فلسطينية في غزة؟
وهو فشل كانت ملامحه الرئيسية مرتبطة في خسارة الرهان على العمل مع العشائر، بالإضافة إلى عدم وجود لاعبين محليين مستعدين للقيام بدور “البديل المتعاون” مع الاحتلال بشكل مباشر، ونتيجة لذلك بدأ الاحتلال في البحث عن خيارات التفافية جديدة، تهدف إلى تجاوز الواقع القائم تدريجيًا وتفكيك منظومة المجتمع في غزة، المنصهر تمامًا في البيئة الفصائلية المتجذرة في كل أوجه الحياة فيها، بما فيها النظام الاقتصادي القائم.
هذه الخيارات الالتفافية تطلبت تجاوز رأس المال التقليدي المسيطر على القطاع الخاص في غزة، والبحث عن فرص استثمارية جديدة تتيح للمستثمرين الخارجين عن النظام الاقتصادي القائم أن يجدوا بيئة خصبة للنمو والتوسع، داخل منظومة جديدة تتماشى مع مصالح الاحتلال وتخدم أهدافه.
عبر هذا الواقع الجديد، سعى الاحتلال إلى إعادة صياغة المشهد الطبقي في قطاع غزة، وأنتج طبقة جديدة من المستفيدين من الحرب، مرتبطين وجوديًا بوجود الاحتلال واستمرار سيطرته على قطاع غزة، وتدريجيًا سيتحولون إلى اللاعب الأساسي الذي سيعمل على صياغة تحالفات محلية، بدأ بعضها بالوضوح بالتحالف بين بعض التجار وقطاع الطرق.
في قلب استراتيجيات الاحتلال، يتجلى نموذج مدينة الخليل كأحد الأمثلة البارزة على التعاون الثلاثي الذي نشأ بين رأس المال المرتبط بالمستوطنات والاحتلال، والعشائر المحلية المستفيدة من التجارة والتدفق المالي، بالإضافة إلى رجال الأمن المتواطئين مع النظام القائم والمنخرطين في التنسيق الأمني بشكل تجاوز دور السلطة المحلية.
رغم أن المدينة كانت تشهد تمسكًا عميقًا بمقاومتها على مدار سنوات، وكانت محطة انطلاق رئيسية للعديد من العمليات الاستشهادية خلال انتفاضة الأقصى، إلا أن هذا التعاون الثلاثي قد غيّر من موازين القوى في المدينة، وأعاد تشكيل الواقع الاقتصادي والاجتماعي لصالح الاحتلال.
يسعى الاحتلال، في إطار محاولاته المتواصلة للتغلب على إخفاقاته في بناء “اليوم التالي”، إلى تشكيل لوحة فسيفساء متكاملة من مجموعة من النجاحات الصغيرة التي يحققها تدريجيًا، بهدف تجميع هذه النجاحات في صورة واحدة تُظهر مشهدًا كبيرًا من النجاح، الذي طال انتظاره من قِبل نتنياهو وحكومته، واستعراضه ليكون جزءًا أساسيًا من “النصر المطلق” والتغيير الاستراتيجي الذي وعد به الجمهور الإسرائيلي.
في المقابل، تعمل القوى الوطنية والإسلامية في قطاع غزة على استحداث أدوات مواجهة جديدة للتصدي لكل جزء من هذه الفسيفساء، من خلال تقييم دقيق لمخاطر كل خطوة يتخذها الاحتلال وآثارها المحتملة.
وبالنظر إلى ما بين آمال وطموحات الاحتلال من جهة، واستعداد المقاومة وذكائها من جهة أخرى، تقع العديد من العمليات اليومية الخفية التي تجري في كواليس قطاع غزة، فعلى مدار عام كامل نجحت المقاومة في إفشال أهداف الاحتلال وحماية مجتمع القطاع، ما يثبت قدرتها على التصدي لهذه المحاولات والمضي قدمًا في دفاعها عن القطاع وأهله.