حين تسمعهم منذ الوهلة الأولى ربما لا تفهم ماذا يقولون ولا تستطيع تحديد مخارج ألفاظهم، أصوات غامضة لكنها في نسق موسيقي عذب، وحركات يدوية متوازنة تعكس متوالية هندسية رائعة للمشاركين في هذا العمل، فحين يرفع القائد يده اليمنى تتعالى أصوات من حوله من أعضاء فرقته، وحين ينزلها تخفت الأصوات في تناغم جميل.
فن الندبة.. أحد أبرز الفنون التراثية في سلطنة عمان، تشتهر به قبائل الشحوح والحبوس والظهوريين وبني شميلي، وهو تقليد قديم متعدد الاستخدامات، ورغم التطور التكنولوجي الهائل الذي أطاح بمئات من ألوان الفن المتوارثة إلا أن الندبة استطاعت أن تقاوم وتصمد حتى اليوم، لتفرض نفسها كواحدة من أشهر الفنون في السلطنة في القرن الحادي والعشرين.
ما الندبة؟
يعتمد هذا النوع من الفن على فرقة مكونة من قائد ويطق عليه “النديب” نسبة إلى اسم الفن ذاته، وفي الغالب يكون كبير السن أو أحد أعيان القبيلة، ومجموعة من المرددين خلفه ويسموا بـ “الكبكوب” لا يزيدون عن خمسة أفراد على الأكثر، مع إمكانية تكوين أكثر من كبكوب في الفرقة ذاتها.
“النديب” أو قائد الفرقة يقف بين أعضاءها ويشرع في إطلاق صيحات متتابعة تشبه عواء الذئب، وفي الوقت ذاته يقوم برفع ذراعه الأيمن حتى يحاذي جبهته، ويبقيها معلقة، ثم يطلق متوالية من كلمات لا يمكن فك شفرتها تبدو مثل صيحات متتالية، ويشهد الصوت صعوداً تدريجياً وهبوطاً موازياً في نبرته.
تعددت استخدامات الندبة في التاريخ العماني، إذ بدأت في بداية الأمر كطريقة للتحذير من هجوم القبائل المجاورة في الزمن القديم
ويردد الرجال وراءه بأصوات مماثلة، وإن كانت أقل ارتفاعا، دون أن تصاحب تلك الأصوات كلمات أو تعابير لغوية تذكر، إذ يكاد يعتمد على الصوت ودلالاته، باستثناء كلمتين فقط، يرددهما ثلاث مرات تشيران إلى اسم القبيلة واعتزازها بنفسها.
تعددت استخدامات الندبة في التاريخ العماني، إذ بدأت في بداية الأمر كطريقة للتحذير من هجوم القبائل المجاورة في الزمن القديم، حين شهدت المنطقة صراعات بين القبائل، أو دعوة للقتال، ثم بمرور الوقت تحولت إلى تقليد يقوم به الضيف تعبيرا عن شكره لكرم مضيفيه، ولاحقا تحولت الندبة إلى تقليد يمارس في الأعراس وحفلات الزفاف، هذا بخلاف استخدامه في الاحتفالات السلطانية والترحيب بقدوم وزيارات سلطان عمان.
عماني أم إماراتي؟
تؤرخ المهرجانات التراثية لفن الندبة بأنه تقليد عماني في المقام الأول، أشتهرت به قبائل السلطنة القديمة على رأسها قبائل الشحوح التي لها السبق في هذا الفن، هذا بخلاف اعتماد الفعاليات التراثية الداخلية لهذا الفن كأحد الأنواع المتوارثة وعلى رأسها محافظة مسندم التي اشتهرت به.
غير أن الندبة لم يقتصر على العمانيين فحسب، إذ أن تجاوز القبائل للحدود الجغرافية فيما بين دول الخليج ساهم في نشر هذا النوع من الفن في عدد من الدول الأخرى على رأسها الإمارات، لاسيما وأن هناك بعض القبائل المشتركة بين السلطنة والإمارات نظرا للتقارب الجغرافي والتاريخي بينهما.
وفي الجهة الأخرى تسجل الموسوعة التراثية الإماراتية الندبة كونه فنا إماراتيًا خالصا، يشترك وفقا لأصوله كما تقول الموسوعات الإماراتية مشاركة عدد لا يقل عن ثلاثة رجال في أدائه، ولا يزيد على عشرة، وفي حال ازدياد العدد عن ذلك يتحولون إلى تشكيل حلقة ثانية وثالثة وهكذا.
حضور قوي للندبة بين القبائل العمانية
العصا.. أداة الندبة
تعد العصا أو حسبما يطلق عليها العمانيون “الجرز” الأداة الرئيسية لفن الندبة، حيث يحرص سكان محافظة مسندم من الرجال على حملها وخاصة الأفراد من قبيلة الشحوح حيث لهذه العصا رمزية اعتبارية معينة مرتبطة بتراث وتاريخ المحافظة، هذا بخلاف ما تحمله من مظاهر الأناقة بجا الزي التقليدي العماني.
الأباء في المحافظة يحرصون على تعليم أبنائهم حملها كونها جزءا من شخصياتهم وزيّهم في حضور المناسبات الاجتماعية والوطنية إلى جانب الخنجر العماني والسكين الشحية المسمى محليا (البيشك) والمحزم، كما أن لها استخدامات عدة في الماضي، على رأسها الدفاع عن النفس كسلاح قوي قادر على التصدي لبعض هجمات الأخرين، كذلك التصدي لاعتداءات الحيوانات المفترسة في الصحراء، بجانب المساعدة في التنقل في الجبال والوديان.
نظرًا لما يحتله هذا الفن التراثي من مكانة كبيرة لدى العمانيين بات من الفنون الحاضرة في كافة المهرجانات الفنية التي تقيمها السلطنة
تشتهر مسندم بصناعة “الجزر” وفي الغالب تنتشر ورش صناعتها في القرى والمناطق النائية، وأبرز أماكن صناعتها في نيابة ليما التابعة لولاية خصب، وهناك إقبال كبير من جميع العمانيين على منتجات هذه الحرفة التقليدية التي رغم التطورات الهائلة لم تندثر بعد.
تتكون “الجرز” من جزءين أساسيين هما عصا خشبية وفأس معدني حيث تتكون العصا من خشبية مستقيمة بطول متر واحد في الغالب ويتم اقتطاعها من الأشجار المتوفرة في البيئة المحلية مثل أشجار «السدر» و«العتم» و«المزي» و«الشرحم» و«الشحش» وتمتاز تلك الأشجار بصلابة أغصانها التي تتناسب لعصا الجرز، ويقوم الصانع باختيار الغصن المستقيم والطول المناسب ويتركه ليجف ويزداد صلابة بعيدا عن أشعة الشمس خلال شهر إلى 6 أشهر بعد قطعه وتتم إزالة النتوء البسيطة واللحاف وصنفرته لتصبح مستقيمة وملساء بعدها يتم عمل نقوش هندسية بمحيطها لتصبح تحفة فنية جميلة وثم يتم دهنها بالزيت ليكسبها بريقا لامعا ويحافظ على ملمسها ومنقوشاتها، وتعرف هذه المنقوشات المرتبطة بالطبيعة من مثلثات ودوائر بـ«الشمسات».
ونظرًا لما يحتله هذا الفن التراثي من مكانة كبيرة لدى العمانيين بات من الفنون الحاضرة في كافة المهرجانات الفنية التي تقيمها السلطنة، هذا بخلاف مشاركة بعض الفرق التي تتقن هذا الفن في مسابقات خارج عمان، حيث تفرض الندبة نفسها على الحضور والمشاركين رغم عدم فهم الكثيرين للكلام الذي تردده الفرقه.