هل خطر على بالك يومًا أن المدينة الترفيهية التي كنت تخطط لزيارتها وقت الإجازة الصيفية برفقة العائلة ستتحول إلى مأوى لك لعدة شهور، وأن النادي الرياضي الذي كنت تسمع أصوات المشجعين داخله وتتمنى الانضمام إليه، تمكنت من دخوله لكن هذه المرة دون تذكرة كونه تحول إلى مركز تعذيب واعتقال تارة، ومأوى نازحين تارة أخرى.
وهل خطر على بالك أن المكتبة العامة التي كنت تتردد عليها، باتت ملجأ لك أيضًا، وبإمكانك قراءة ما تشاء طيلة الوقت دون أن ينتهي موعد إغلاقها، ومركز أطفال المدينة الترفيهي أيضًا بات محل إقامة لك ولطفلك، كل هذا وأكثر يعيشه الغزيون منذ عام، ليس على سبيل الترفيه بل النزوح والتعذيب.
منذ اللحظة الأولى للحرب على غزة، واقتحام جيش الاحتلال للمدينة بالدبابات، تعمد تدمير كل شيء يصلح للحياة، وحول مراكز الترفيه إلى مراكز تعذيب للرجال واحتجاز للنساء ومقابر أيضًا لضحايا العدوان، كملعب اليرموك ونادي جباليا الرياضي ورفح.
الملاعب الرياضية مراكز نزوح وتعذيب!
خلال اجتياح مخيم جباليا والمناطق الشمالية لقطاع غزة، اضطر عشرات الصامدين إلى النزوح داخل مدينة غزة وتحديدًا في المناطق الآمنة، ولأن المدينة باتت شبه مدمرة ويصعب إيجاد مأوى، اضطر الستيني، حسن أبو وردة، للجوء إلى ملعب نادي اليرموك، شد وتد خيمته وجلس فيها رفقة عائلته دون أن يكون معهم فراش أو حتى ملابس تحميهم من البرد القارس، فقد خرجوا في ليلة قاسية حين اشتد القصف على منطقتهم بجباليا البلد.
على جدار الخيمة كتب اسمه وذيله بعبارة “قدر الله” على صبره وصموده وتحمله للجوع وفقدان الأهل والجيران والأحبة، كما يقول.
يرفض أبو وردة الخروج كثيرًا من خيمته، لكنه من حين لآخر يطل برأسه قليلًا من فتحة الباب ليتأكد أنه “على أرضية المعلب” كما يقول لـ”نون بوست”، فهذا الملعب الذي اعتاد ارتياده وقت المباريات، حيث كان يأتي ليشجع فريقه “خدمات جباليا” حين يلعب على أرض اليرموك، كان يحلم كثيرًا أن تطئ قدمه أرضيته، اليوم ينام وسط الملعب ويشاهد النازحين يركضون بين الخيام، منهم من يشعل نار الطهو، وآخر يحمل جالون الماء، وثالث يراقب طائرة “الزنانة” ويتمتم “لو توقفِ زن”.
على مدرجات ذات الملعب تجلس السيدة الخمسينية، أم مصطفى، مستنفرة وغاضبة، فهي بالأساس تسكن قرب مستشفى الشفاء، لكن قصف الاحتلال بيتها ولا مأوى لها سوى خيمة على أرض ملعب اليرموك الذي تحول من مكان كان يدفعها الفضول لدخوله قبل الحرب إلى مركز احتجاز ثم إيواء.
تحكي أنه خلال الشتاء الماضي تم احتجاز عشرات العائلات داخل الملعب، وبعد ساعات تم اقتياد الرجال إلى السجن، بينما النساء بقين تحت فوهة بنادق جنود الاحتلال دون نفس، حتى أفرج عنهن بشرط النزوح للجنوب، لكنها تمكنت من الفرار مع مجموعة سيدات بصغارهن إلى أزقة المدينة حتى غربت عن أعين الجنود.
تصف وضعها اليوم بـ”البؤس”، معلقة: “لا أعترض على وضعي، فالجميع على هذا الحال، لكن ما يجعلني قلقة هو أن مكان نزوحي ذاته يقلب عليّ ذكريات الاحتجاز، فلا مكان آخر يؤوينا بعد هدم غالبية المدارس والمرافق العامة التي نزحت إليها عدة مرات، عدا عن خوفي المستمر من قصفنا داخل الملعب”.
وتجدر الإشارة إلى أن ملعب اليرموك التاريخي تأسس سنة 1951 بعد نكبة الشعب الفلسطيني، وهو الحاضن للمنتخبات الغزية والمناسبات الوطنية والكبري.
ليس ملعب اليرموك وحدة ما تحول إلى مركز تعذيب واعتقال ومن ثم إيواء، فغالبية الملاعب والصالات الرياضية دمرها الاحتلال وحول بعضها إلى مقابر جماعية، فقد دمر بشكل كامل 45 ناديًا منهم 7 ملاعب كبرى.
يقول الأمين العام للمجلس الأعلى للشباب والرياضة، عبد السلام هنية، إن الاحتلال يحاول قتل طموح الشباب والأطفال عبر استهداف ملاعبهم ومنشآتهم الرياضية والترفيهية وإزالة كل المعالم التي ارتبطت باحتضان وتطوير المجتمع الفلسطيني.
وأوضح هنية لـ”نون بوست” أن الاحتلال من خلال استهدافه للمرافق الرياضية والترفيهية يسعى إلى تغيير معالم الحياة الغزية عبر القتل والتنكيل، وذلك وسط صمت وعجز دولي كبير، مؤكدًا أن هذه الحرب كشفت حقيقة الاحتلال وعدم اكتراثه والتزامه بالقوانين والمواثيق الدولية التي تحترم الإنسانية.
وأشار إلى أن الاحتلال دمر الملاعب الرياضية وحولها إلى مقابر جماعية ومراكز تعذيب وتحقيق، ومنها ملعب اليرموك وبيت حانون وبيت لاهيا وجباليا ورفح، لافتًا إلى أنه من خلال المؤسسات الرياضية قُدمت كل ملفات الانتهاكات إلى “الفيفا” والتي بدورها شكلت لجنة منوطة بالتحقيقات الكاملة.
وأوضح أنهم يدركون أن اللجنة ستأخذ الوقت لتخرج بنتائجها، وفي ذات الوقت يعمل برفقة المؤسسات الرياضية الرسمية من خلال اتحاد كرة القدم واللجنة الأولمبية لرفع الوثائق والمذكرات بكل ما جرى من انتهاك لملاعب غزة إلى اللجان والمحاكم الدولية المتخصصة.
وأكد على أن الاحتلال يريد تدمير كل المرافق لخلق حياة كاملة معطلة، وجعل غزة غير صالحة للعيش حتى لو توقفت الحرب، مشيرًا إلى أن الغزي يصنع من المستحيل أمل رغم الإبادة التي يتعرض لها.
مدينة أصداء الترفيهية.. تؤوي النازحين
وفي مدينة أصداء – مواصي مدينة خانيونس -، المقامة على أنقاض المستوطنات الإسرائيلية التي حررت عام 2005 لتتحول إلى أكبر مدينة ترفيهية ومدينة للإنتاج الفني والإعلامي في قطاع غزة، باتت تؤوي اليوم آلاف النازحين، فبعد أن كانت مصدر فرح لهم تحولت إلى حزن وكآبة، حيث الخيام المصنوعة من النايلون وألسنة الدخان التي تتصاعد وقت طهو الطعام المُصنع – المعلبات -، ومجمع النفايات والحيوانات الضالة “الكلاب والقطط”.
داخل خيمة بسيطة تجلس رولا رمضان – 36 عامًا – برفقة زوجها وأطفالها الأربعة، تقول: “عادة بالنسبة لنا مدينة أصدقاء مكان يجتمع فيه أفراد العائلة وقت الإجازات، وكانت لنا طقوس خاصة في إعداد الطعام وفرش الأرضية، وكنا نلعب ونغني، لم أتخيل يومًا أن المكان المفضل والذكريات الجميلة ستصبح كابوسًا”.
وتحكي أنها خرجت من مدينة رفح بعد اجتياحها في مايو/أيار الماضي، واختارت عائلتها مدينة أصداء كمنطقة آمنة، وتعلق بسخرية: “قولنا نخلي الأولاد يلعبوا بالمراجيح، لكن فعليًا يلعبون أدوارًا لم يعتادوها، كالوقوف في طابور دورات المياه وتعبئة المياه الصالحة للشرب”.
وأشارت خلال حديثها لـ”نون بوست” إلى أن المنطقة التي ينزحون إليها تعرضت بعض الخيام فيها للقصف المدفعي والجوي، موضحة أنها تتوقع في أي يوم أن يتم استهدافهم، لا سيما بعدما كثر استهداف مراكز النزوح في قطاع غزة.
وفي مكتبة بلدية غزة تنزح بعض العائلات الغزية التي فرت من القصف بالمناطق الشمالية “بيت لاهيا، بيت حانون، ومخيم جباليا”، وفي المقابل منها مركز القطان للأطفال أيضًا تحول إلى مركز إيواء بعد أن كان يقصده الصغار خاصة وقت الإجازة الصيفية للالتحاق بالبرامج الترفيهية والثقافية داخله.
منذ شهر تنزح السيدة، أم عمر، داخل مركز القطان رفقة زوجها وعائلتها وطفلها الصغير، قبل الحرب اشتركت لصغيرها الذي لم يتجاوز الثلاثة أعوام في نشاط القصة لمن هم في سنه، تقول: “لم أتخيل أن القاعة التي كنت أصطحب صغيري إليها ستكون بعد عام من الحرب مأوى، المكان ليس ترفيهيًا، فهو خطر لكن لا يوجد غيره”.
وتكمل حديثها بحزن وغضب: “كنت أسكن في مخيم جباليا، نزحت عدة مرات وعدت للبيت بعدما أصلح زوجي غرفة ودورة مياه، لكن هذه المرة علمت من الجيران المحاصرين هناك أنه نسف بالكامل”.
وبخوف وقلق تضيف: “أتمنى انتهاء الحرب لأعود إلى بيتي وأعيش فوق ركامه، الخطر في كل مكان، وبأي لحظة قد يقصف المركز، خاصة أن الاحتلال يستهدف المراكز الثقافية والتراثية”.
صمتت وراحت تتجول في أروقة مكتبة القطان علها تجد قصة يمكن أن تحكيها لصغيرها، لكنه رغم سنه الصغير يتهرب منها لينشغل كبقية الصغار في استكشاف ما ستطهوه التكية القريبة من المركز ويريد الوقوف في طابور تعبئة المياه.
من جانبه، يقول المتحدث باسم بلدية غزة، عاصم النبيه، إن المراكز الثقافية التي تتبع البلدية تؤوي عشرات النازحين، خاصة بعد اجتياح جباليا والمناطق الشمالية، لافتًا خلال حديثه لـ”نون بوست” إلى أن مكتبة رشاد الشوا رغم قصفها منذ بداية الحرب، فإن عددًا من العائلات تؤوي إليها وتسكن ما تبقى منها في “البدروم”، مفسرًا لجوء الناس إلى تلك الأماكن رغم قصفها أنهم يشعرون بالاطمئنان والألفة فيها.
وفي ذات الوقت يرى النبيه أن النازحين يشعرون بالبؤس والمعاناة والغربة لعدم الخصوصية، فمن المفترض أن تكون مكانًا للترفيه والمتعة، مشيرًا إلى أن شعور الألم والأمل على حد سواء يعتري النازحين، فهم خائفون على المدينة، وفي ذات الوقت لديهم أمل كبير في إعادة إعمارها، بدليل نقشهم على ركام المنازل والمراكز كلمة “حنعمرها” وعبارات تحفيزية أخرى.
ويضيف أن الأطفال يستمتعون في نزوحهم داخل المراكز الثقافية أكثر من ذويهم، فطيلة الوقت يلعبون بين الخيام وأزقة المكتبة، بالإضافة إلى وجود مبادرين من النشطاء يرسمون على وجوه الصغار ويقومون ببعض التدريبات الترفيهية.
ورغم أن الاحتلال دمر المدينة ولا يزال يحاول محو معالمها التراثية والثقافية والترفيهية، فإن الأمل لدى الصغار وجيل الشباب يثبت أن غزة “العنقاء” ستنتفض وتعيد بناء نفسها من جديد.