“يظنون الحفرة في إسطنبول، لكن لا يعلمون أن إسطنبول في الحفرة”؛ بهذه الجملة البسيطة التي يُفضل المُخرج أو السيناريست كتابتها على جدران حارة “الحفرة”، كي ترسخ في عقول المشاهدين، يعكس مسلسل الحفرة الكثير من الرسائل السياسية المجتمعية التي يتصدرها فكرة انكباب الناس على تأسيس جماعات عضوية داخل المدن الكُبرى التي تعصرهم بضغطها وقساوتها.
يقتبس كاتب الفيلم، بدون أن يخفي ذلك، فكرته من فيلم “غود فازر” الأمريكي من إنتاج عام 1972، ويتحدث عن صراع العائلات المُتزعمة للمافيا في مدينة نيويورك. لكن مسلسل “الحفرة” يعكس صبغة أكثر إنسانية مقارنة بجميع الأفكار التي تدور في خلدنا فيما يتعلق بالمافيا وحروبها البينية.
صبغة وضعها بعض النقاد في إطار “اللباس الأخلاقي الإنساني الرومانسي العاطفي” الذي يُشرعن عمل المافيا، حيث صور المسلسل عائلة “كوتشفالي” ـ صاحبة حارة “الحفرة” ـ بالعائلة “الطيبة” التي تسعى لاحتضان ثلة من الناس بدون مقابل، على اعتبار أن تجارتهم للأسلحة ومعاونتهم للمهربين، وغيرها من الأعمال، تأتي في إطار توفير المعونة لهؤلاء الناس. وبحسب سياق المسلسل، لا تستطيع الشرطة دخول هذا المكان، وتتسابق مافيات عدة للسيطرة عليه، لما يحظى به من ميزة لعملها، غير أنها تبرز فيه قصص إنسانية، تُظهر الجانب القيّمي لدى المافيا التي يُصبح المُشاهد، بصورةٍ ما، مُتعاطفاً ومتفاعلاً معها.
مسلسل “الحفرة” أو “تشوكور” باللغة التركية، بدأ عرضه على قناة “شو تيفي” في 23 تشرين الأول/أكتوبر 2017، ومنذ عرضه إلى الآن يشهد إقبالاً كبيراً من الجمهور في تركيا ومناطق أخرى، حتى بات الأكثر مُشاهدة مقارنة بالمسلسلات التركية الأخرى. يعرض المسلسل عمل المافيا في حارة يُطلق عليها اسم “الحفرة” الأخطر في إسطنبول والخاضعة لمُلك وزعامة عائلة “كوتشفالي”. وفي هذه الحارة يُرفع شعار “الحفرة بيتنا، إدريس والدنا”. أما إدريس فهو كبير عائلة “كوتشفالي” زعيم حارة “تشوكور”. لإدريس ابن هو الأصغر اسمه “ياماتش”، يُمثل شخصية البطل في المسلسل.
عزم ياماتش، قبل فترة من الزمن، للانعزال عن عائلته وحارته، ليعيش حياته الهادئة البعيدة عن المتاعب، لكن مع توالي الأحداث وظهور مجموعة من الأشخاص الذين يريدون فرض سيطرتهم على الحارة، تُعيده والدته، ليُحافظ على تماسك أفراد “الحفرة”، وبالتالي عرش العائلة، لا سيّما بعد قتل إحدى مجموعات المافيا أخاه الكبير، وهكذا تتوالى الأحداث في مسلسل دراما أكشن رومانسية مؤلف من جزئين.
اقتباسات سياسية
المقال لا يعرج على المسلسل فنياً أو إخراجياً، فصياغه ليس في مقام الناقد، لكن يسعى لسبر أغوار بعض رسائله التي يمكن لفت نظر المشاهد لمسلسل بعين أخرى.
الرسالة الأولى: الجماعة من أجل العيش داخل المجتمع
تكمّن هذه الرسالة في أحضان نظرية أميل دوركايم “التماسك المُجتمعي” التي يفصل فيها بين الجماعة والمجتمع. أما الجماعة فتتسم بالتماسك العضوي المُنطلق من الإيمان بالاشتراك في الأهداف والمصالح، وللفرد فيها أهمية عالية. بينما المُجتمع يتصف بالترابط الميكانيكي القائم على الاعتماد المهني المتبادل، حيث لا أهمية كبيرة للفرد، ففي حال غياب فرد ما، يمكن أن يقوم فرد آخر يشابهه في الصفات بذات المهام.
“للحفرة” معاييرها وقيّمها الخاصة، فالقيمة الأساسية أن الجميع يعيش في حارة “الحفرة” تحت سقف عائلة كبيرة يحرص أفرادها على حماية بعضهم البعض
وينخرط الأفراد في جماعات تشترك أهداف تحمل صفة “الترابط العضوي” التي تشترك من الإيمان “بقيّمٍ معينة”، من أجل مقاومة قساوة المُجتمع الذي يرى فيهم مجرد ماكينة أو آلة يمكن التخلي عنها واستبادلها بسهولة. وبحسب دوركايم هناك ثلاثة شروط أو خصائص للجماعات العضوية:
ـ الارتباط بمعايير وقيّم عامة تولد روح الارتباط العضوي بين الأفراد.
ـ ارتباط الأفراد بمصالح مُشتركة تولد روح الاعتمادية المُتبادلة فيما بينهم.
ـ توحد الراية تحت قيادة واحدة.
وللحفرة معاييرها وقيّمها الخاصة، فالقيمة الأساسية أن الجميع يعيش في حارة “الحفرة” تحت سقف عائلة كبيرة يحرص أفرادها على حماية بعضهم البعض. ويعبر المُسلسل عن هذه القيمة بوشم رمز الحارة على طل طفل يُولد فيها. ويعني هذا الشعار سقف وقاعدة وأفراد عائلة يعيشون بينها؛ وطالما بقيّت العائلة ضمن السقف والقاعدة فالاندثار سيجافيها، على كل طفل يُولد في الحارة. وإلى جانب ذلك، يُقدس المسلسل احترام الأكبر سناً، والانضباط الأعمى للقرار الجماعي المُتشاور عليه بين “والدنا إدريس” وأبنائه وصديقيه المقربان “الباشا” و”عمي”.
من شدة تعطش مجتمع إسطنبول إلى حياة الجماعة، لاقى شعار “الحفرة” رواجاً كبيراً التمرد، وطباعة رمز الحارة على الملابس والسيارات، بل والأجساد
والمصالح المُشتركة هي عمل الحارة المُوحد في تجارة الأسلحة، وحماية الملاهي الليلية، وتسهيل عمليات النقل اللوجستي بين الشرق الأوسط والبلقان، وغيرها من الأعمال الأخرى. وأخيراً القيادة الواحدة هي إدريس وأبنائه؛ هذه القيادة التي تفرض القوانين التي تُحافظ على قيّم الحارة أو الحي، ولا يمكن المجادلة فيها، وأحياناً تصل هذه القوانين إلى درجة تطبيق عقوبات صارمة بحق من يرتكب مخالفة لها. وفي هذه الجماعة، ليس من السهل على الفرد التخلي عنها، فهو وُلد بداخلها، ولا يعرف سوى قوانينها وتوجهاتها ومصالحها التي باتت هي مصالحه. ولا ننسى هنا، أن العلاقة بين الفرد وهذه الجماعة عضوية، يعني كالسمكة التي تموت إن خرجت من المياه، فالفرد في “الحفرة” يرى أن إسطنبول هي “الحفرة”، أما إسطنبول التي تحتضن “الحفرة” فلا تهمه كثيراً، فهو يتنفس ويعيش ضمن هذه جماعة “الحفرة” التي تمنحه أهمية عالية، ولا تقبل خسارته، لأنها جماعة منحسرة على ذاتها، وترى في كل فرد عبارة عن ركيزةٍ يحمي استمراريتها.
شعار “الحفرة”
وعلى الأرجح، من شدة تعطش مجتمع إسطنبول إلى حياة الجماعة، لاقى شعار “الحفرة” رواجاً كبيراً التمرد، وطباعة رمز الحارة على الملابس والسيارات، بل والأجساد. كما يمكن تتبع هذه الحالة من خلال النظر إلى من حجم مُشاهدة أغاني المسلسل المنسوجة في إطار موسيقى “الراب” التي تعبر عن الشارع ورغباته وهمومه، و”الروك” التي تعبر عن روح التمرد.
في الختام، المُسلسلات تُخاطب اللاوعي اللاشعوري لدى الجمهور. لذا يبدو من المُحبذ مشاهدة أي مُسلسل ضمن الوعي الشعوري الذي يركّز على فهم الرسائل المُبطنة أو الرسائل التي يمكن أن تترك نقطة تأمل وتفكر في الذهن.