تسير الحرب التجارية في العالم إلى آفاق صعبة، فتغتال كل يوم معدلات النمو الاقتصادي العالمي، وتضرب صناعة مهمة مثل “السيارات” بالرسوم الجمركية التي يحرص دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية على فرضها على واردات بلاده من السيارات، بما سيدفعها حتمًا إلى حالة مستعصية من الركود وتعطيل تدفقات تجارية ضخمة تصل قيمتها إلى ما يقارب الـ500 مليار دولار كحد أدنى.
ما يحدث بين القوى العظمى حذرت منه وكالة التصنيف الائتماني العالمية “موديز” وأخلت مسؤوليتها مؤكدة أن مثل هذه التصرفات ستدمر سلاسل التوريد العالمية، بعدما بدأت تتراجع بالفعل نتيجة للرسوم الجمركية الإضافية التي كبلت بها الولايات المتحدة الواردات الصينية خلال الفترة الماضية، وانعكست سياساتها على السوق الأمريكية، بفقدان الثقة في واردات الولايات المتحدة من السيارات وقطع الغيار.
وتتعرض المؤسسات القائمة على صناعة السيارات لضرر فادح بسبب تصعيد النزاعات التجارية الأمريكية بجميع أنحاء العالم، وإطلاق الصين في المقابل تعريفات جمركية على واردات المنتجات الأمريكية ومنها المتعلقة بصناعة السيارات، وهو إجراء يساهم في تباطؤ النمو بالولايات المتحدة، والهبوط إلى 5% فقط، بينما لن يزيد النمو في جميع بلدان العالم، بأكثر من نصف هذه النسبة.
خطورة التعريفات الجمركية على سوق السيارات
يرى ترامب ضرورة الهيمنة الكاملة لأمريكا، حتى لو كان ذلك باستخدام عصا القوة الغليظة، وهو ما دفعه لتكليف هيئة الأمن القومي بإجراء تحقيق عن واردات السيارات والشاحنات، لتحديد تعريفات أمريكية جديدة مماثلة لتلك المفروضة على الفولاذ والألمنيوم، ومعرفة إذا كانت واردات السيارات وقطع الغيار تهدد صحة الصناعة وقدرتها على البحث وتطوير تكنولوجيات جديدة ومتقدمة أم لا.
الخوف والرعب الأمريكي من التنين الصيني، ظهر كثيرًا في عالم صناعة السيارات، بعدما ساهم التفوق الصيني خلال العقديين الماضيين في تآكل صناعة السيارات المحلية الأمريكية، فتوسعت الولايات المتحدة في إضافة إجراءات تهدف إلى شل التفوق الصيني، لتضيف 50 مليار دولار أخرى، تعريفة جمركية على شكاوى الملكية الفكرية، بجانب إعادة التفاوض على اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية “نافتا” لإعادة المزيد من إنتاج السيارات إلى الولايات المتحدة.
يعرف دونالد ترامب أن الصناعات الأساسية مثل السيارات وقطع غيارها، من عناصر القوة الحاسمة لأي دولة كبرى في العالم، لذا يعيد حساباته كاملة ويغرس مخالبه في أي سوق يمكن أن يشكل تهديدًا للولايات المتحدة، وليس فقط الصين، فاليابان والاتحاد الأوروبي، وخاصة كندا والمكسيك، من أهم الموردين للمركبات وبأعداد كبيرة إلى الولايات المتحدة، وبالتالي يجب إيقافهم بكل الطرق.
خطة ترامب لقصم ظهور الجميع، ظهرت للعلن منذ مايو بالعام الماضي، عندما فرض تعريفات بنسبة 20% أو 25% على بعض السيارات المستوردة، بالتوازي مع شن حملات تشهير ضد كبرى الشركات العالمية، وخاصة “الألمانية”، لتصديرها عدد كبير من السيارات الولايات المتحدة، ما دفع أكبر مجموعة صناعية للسيارات اليابانية والألمانية العاملة بالولايات المتحدة، وغيرها من الشركات الأجنبية المعروفة باسم “هنا لأمريكا” للهجوم الشرس على التصرفات الترامبية، ودعمتها مجموعة “غلوبال أوتومايكرز” وهي مجموعة تجارية تمثل تويوتا ونيسان وهيونداي وآخرين.
واعتبروا أن خيالات ترامب هي من تقوده لتدمير السوق العالمية لصناعة السيارات، في ظل عدم طلب حمايته المفرطة من العاملين بالسوق الداخلية بالولايات المتحدة، محذرين من أن هذا الطريق سيقودهم حتمًا إلى خيارات أقل وأسعار أعلى للسيارات والشاحنات الواردة إلى أمريكا.
كان الرد الأمريكي المحلي صادمًا لترامب، ففي الولايات المتحدة أيضًا يعارضون بشدة التعريفة الجمركية، وخرجت شركات محلية على رأسها جنرال موتورز الشهيرة، عن صمتها ورفضت قرارات الرئيس بفرض تعريفات على السيارات الأجنبية، واعتبرت أنها تصرفات ستعيقهم أيضًا، بجانب أنها سترفع الأسعار على المستهلكين، وتخوفت الشركات من تأثير التعريفة الجمركية على خسارة نحو 25% من الوظائف الأمريكية العاملة في مجال السيارات، بجانب رفع أسعار المركبات الخفيفة في الولايات المتحدة بمقدار 2750 دولارًا أمريكيًا بما في ذلك المصنعة في الولايات المتحدة التي تشهد بالأساس انخفاضًا سنويًا في المبيعات بالولايات المتحدة بنحو 1.3 مليون وحدة.
رؤية جنزال موتورز كشفت أن كل شركة مصنعة للسيارات أصبحت على يقين من خطورة القرارات الأمريكية، لا سيما أن التعريفات المفروضة على السيارات لم تستخدم كنقطة قوة في محادثات التجارة مع شركاء مثل اليابان والاتحاد الأوروبي، كما كانت تروج إدارة ترامب لإقناعهم بالإجراءات الجديدة، مما يعني أن صناعة السيارات في أمريكا، ستكون على موعد مع تصعيد محتمل في الحرب الدائرة مع العالم، في ظل إضعافها لصناعة السيارات والاقتصاد العالمي، بسبب التعريفات الانتقامية التي ستفرضها الدول المتأثرة بالطبع، ليس فقط على السيارات الأمريكية الورادة إلى أسواقها، بل على تجاراتها في السوق المحلية الأمريكية التي يستفيد منها قطاع كبير من الأمريكان ويفضلونها على الصناعة المحلية.
تباطؤ معدل النمو الاقتصادي العالمي
تؤثر القرارات الأمريكية بشكل مرعب، وتضر التعريفة الجمركية بالاقتصاد العالمي من خلال تشويه الأسعار وخلق أوجه انعدام الكفاءة والتأثير على سلاسل التوريد العالمية، ما يصب في خانة تضخم ضغوط النمو العالمية، بما يرسخ أكثر لضرورة خوض حرب تجارية عالمية شاملة، تضعف من الاستثمار التجاري، بسبب رفع تكاليف الاقتراض للشركات، وعودة أسعار الفائدة طويلة الأجل، وزيادة النفور من المخاطرة والتشدد العام في الأوضاع المالية العالمية.
بحسب التقديرات العالمية، ستتسع حمى التعريفات الجمركية بين الولايات المتحدة والصين، من المفاعلات النووية والقوارب والطائرات، إلى حبوب فول الصويا واللحوم والسيارات، ولن تقف على الصين بل سيدخل فيها الاتحاد الأوروبي، بعد رفع الرسوم على واردات بلدانه من الصلب والألمنيوم، وخاصة كندا والمكسيك، وهو ما رد عليه الاتحاد برفع التعريفات على “الويسكي” ودراجات الهارلي ديفيدسون النارية، وفي طريقه لرفع التعريفات على واردات أخرى.
وتستعد الأطراف المتصارعة إلى تدابيير أكثر انتقامية في بيئة تجارية، ربما تكون الأكثر عدائية في التاريخ الحديث، بعدما فتحت أمريكا النار على العالم، ويهدد ترامب من خلالها بتصعيد الصراع التجاري مع الصين لتصل التعريفات الجمركية إلى 450 مليار دولار، إذا قامت الصين بالرد، مما استدعى تدخل أكبر المنظمات في العالم، وكشف حقيقة تداعيات ما يحدث على مستقبل الاقتصاد الدولي، بداية من تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الصادر عن صندوق النقد الدولي في أكتوبر الماضي، الذي رسم صورة قاتمة للاقتصاد الدولي، وكذلك الأمم المتحدة والبنك الدولي اللذين أعلنا توقعات منخفضة لنمو الاقتصاد العالمي خلال العامين الحاليّ والمقبل، لأسباب مختلفة تبدأ من الحرب التجارية ولا تنتهي بالخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي.
تحاول المؤسسات العالمية وقف الحرب بيين الصين وأمريكا، وإعطاء فرصة للتدخل، كما حدث في ديسمبر/كانون الأول 2018، ونجاح الجهود الدولية في إعلانهما هدنة لمدة 90 يومًا، تتخللها مفاوضات مشتركة للتوصل إلى أرضية مناسبة للمبادلات التجارية، وهي مفاوضات تفسدها العنجهية الترامبية التي لا تستهدف الصين وحدها، بل حتى أصدقائه وحلفائه المقربين من الدول الأوروبية.
يحدث ذلك في الوقت الذي تحذر فيه منظمة التجارة العالمية من حدوث تباطؤ حاد إضافي في الاقتصاد العالمي والتجارة، بعد إعلانها قبل أيام عن مؤشرات سلبية هي الأدنى منذ 9 سنوات، ما يستدعي ضرورة معالجة فورية للتوترات التجارية العالمية التي تهدر الجهود المبذولة من جميع المؤسسات المعنية في العالم لإعادة الزخم للنمو.