منذ بداية حرب الإبادة الجماعية، قتلت السلطة الفلسطينية 10 من المقاومين والمشاركين في المسيرات الداعمة لقطاع غزة، واعتقلت مئات الناشطين وعناصر الكتائب المسلحة، كما فككت العبوات الناسفة، وعثرت على صواريخ محلية الصنع ثم سلمتها للاحتلال، مستمرة في تأدية دورها كأداة حماية لأمن الاحتلال في الضفة الغربية، لكن دورها الأوسع كان بعيدًا عن الميدان، حيث مارست الاغتيال المعنوي للمقاومين ومنتقديها عبر تشويه سمعتهم.
أكبر حملات التشويه التي مارستها السلطة الفلسطينية ولا تزال في سياق “طوفان الأقصى”، كانت ربط المقاومة بالدمار والخراب، فقد أصدرت القيادة الفلسطينية بيانًا رسميًا نشرته وكالة الأنباء الفلسطينية قالت فيه إن حركة حماس لا تمثل الشعب الفلسطيني، ولاحقًا عدلت البيان بشطب كلمة “حماس” واستبدالها بالقول إن الفصائل لا تمثل الشعب الفلسطيني، وأن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي الوحيد، مما يعني ضمنًا إنكار وجود حماس والتأييد الشعبي لها.
في محاولة لإنقاذ نفسها، أصدرت السلطة الفلسطينية من خلال حركة فتح بيانًا عبّرت فيه عن موقفها من “طوفان الأقصى”، حيث ربطت مفهوم المقاومة بالويلات التي حلّت بالشعب الفلسطيني، كما ردّت على استنكار “حماس” والفصائل بشأن تعيين حكومة جديدة في رام الله. وكان هذا البيان الرسمي الأول من “فتح” الذي يدين “طوفان الأقصى” ويعتبره “نكبة” حلت على الفلسطينيين.
ومن حملة التشويه العامة التي تقودها السلطة الفلسطينية، سواء رسميًا أو من خلال مجموعات من عناصرها على منصات التواصل الاجتماعي، إلى حملات الاغتيال المعنوي التي طالت أفرادًا بعينهم، يمكن القول إن أي مقاوم في الضفة الغربية لم يسلم من تشويه السمعة، ومحاولة إلصاق تهم جنائية به، واعتباره “خارجًا عن القانون”.
ووصفت السلطة بشكل دائم المقاومين بأنهم يعملون لأجندات خارجية، بل وأحيانًا اتهمتهم بالتخابر مع الاحتلال ضدها، لإفشال مشروعها، ومن أبرز الأمثلة على ذلك، خلال عمليات الشهيد المهندس يحيى عياش، حيث أطلق عناصر السلطة حملة تحريض وتشويه ضده، متهمين إياه بالعمل لصالح “أجندات خارجية” تهدف إلى إحباط اتفاقية أوسلو التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية مع الاحتلال الإسرائيلي عام 1993.
عملية الاغتيال المعنوي الأكبر في تاريخ السلطة
في أواخر عام 1991، بدأت القيادات التنظيمية لحركة حماس بالتركيز بشكل أكبر على العمل العسكري ومأسسته، حيث اجتمع كل من صالح العاروري، وإبراهيم حامد، وعادل عوض الله في جنوب الضفة الغربية، وقرروا تشكيل خلايا عسكرية، فيما بدأ زاهر جبارين، بالتعاون مع يحيى عياش، وعدنان مرعي، وعلي عاصي، لتأسيس ما عُرف لاحقًا بالقيادة الرباعية في الشمال، والتي تعززت مع انتقال المقاومين المطلوبين لدى الاحتلال من قطاع غزة إلى الضفة الغربية، ليتم بعدها الاتفاق على تثبيت مسمى “كتائب القسام”.
مع بداية عام 1996، أصبح عادل عوض الله وشقيقه عماد مطاردين من قبل جيش الاحتلال وأجهزة أمن السلطة الفلسطينية، كما داهمت الأجهزة الأمنية منزليهما أكثر من مرة بهدف اعتقالهما، حتى اعتقل عماد من قبل السلطة لفترة 4 أشهر، تعرض خلالها لتعذيب شديد، ثم استطاع الفرار من السجن، ويُعتقد أن هروبه كان بتواطؤ من أجهزة السلطة التي زرعت في جسده جهاز تعقب إلكتروني، بهدف القبض على شقيقه، إذ أعلن جيش الاحتلال عن اغتيال الشقيقين عوض الله في 10 سبتمبر/أيلول 1998.
قبل أن يُعلن الاحتلال عن اغتيال الشقيقين، وقع انفجار في بلدة بيتونيا الصناعية قرب مدينة رام الله في 29 مارس/آذار 1998، بالقرب من المقر الرئيسي للعقيد جبريل الرجوب، قائد جهاز الأمن الوقائي في الضفة الغربية آنذاك، أدى إلى اغتيال القائد في كتائب القسام، المهندس محيي الدين الشريف، الذي كان يُعتبر المطلوب الأول للاحتلال بعد اغتيال المهندس يحيى عياش.
بعد 4 أيام من الحادث، فاجأ الطيب عبد الرحيم، أمين عام السلطة الفلسطينية، الجميع بتصريحات قال فيها إن المتورطين في التفجير هم الحلقة الضيقة المحيطة بالشهيد الشريف، وبالتحديد عادل وعماد عوض الله، وفي تطور مفاجئ آخر، اتهم نبيل أبو ردينة، مستشار رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات، 60 شخصًا من حركة حماس، بما فيهم الشهيد عبد العزيز الرنتيسي، بالتورط في الجريمة.
حينها، خرج والد الشهيد المهندس محيي الدين الشريف بتصريح قال فيه: “تاريخ حركة حماس نظيف ولم تشُبْهُ الاغتيالات، حيث لم تُعرف عنها أنها قامت باغتيال أفرادها أو من غير أفرادها، ونحن لم نسمع بالاغتيالات إلا بعد مجيء السلطة الفلسطينية”.
الشهيدان رائد العطار ومحمد أبو شمالة
في عام 1999، حكمت محكمة أمن الدولة في غزة التابعة للسلطة الفلسطينية، قبل الانقسام، بالإعدام رميًا بالرصاص على رائد العطار وبالمؤبد 25 عامًا على محمد أبو شمالة، و15 عامًا على أسامة أبو طه، بتهمة قتل النقيب رفعت جودة، لكن هذا القرار واجه مظاهرات احتجاجية عارمة قمعتها أجهزة أمن السلطة، مما أدى إلى استشهاد أحد المواطنين، وهو ما دفع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات للتدخل وإلغاء القرار.
كان العطار وأبو شمالة من القيادات البارزة في كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس، وكان لهم دور كبير في الإشراف على العديد من العمليات الكبرى في انتفاضة الأقصى، مثل عمليات “براكين الغضب” و”محفوظة” و”الوهم المتبدد”، كما كانا من القادة البارزين في معارك “الفرقان” و”حجارة السجيل” و”العصف المأكول”، وانتهت مسيرتهما حين استشهدا في 21 أغسطس/آب 2014 في رفح بعد استهداف طائرات إسرائيلية لمنزل في منطقة تل السلطان، حيث كانا برفقة رفيق دربهما محمد برهوم.
الانقسام الفلسطيني.. اتهامات لا تنتهي
إبان الانقسام الفلسطيني عام 2007، أصدر مجلس الوزراء التابع للسلطة الفلسطينية بيانًا اتهم فيه “حركة حماس وميليشياتها” بمصادرة ونهب المساعدات العربية والدولية التي تصل إلى قطاع غزة، وتوزيعها بناءً على أسس حزبية ضيقة، ما يهدد بتعزيز الحصار ووقف المساعدات عن الشعب الفلسطيني في القطاع،
وقال البيان “وفي الوقت الذي يحاول فيه السيد الرئيس والسيد رئيس الوزراء والحكومة توفير المساعدات لأبناء شعبنا ورفع الحصار المفروض على قطاع غزّة والتصدي للقرار، تواصل سلطة الانقلاب – أي حماس – في القطاع ممارساتها الهمجية وغير المحسوبة والتي تصب في إطار المماحكة السياسية الحزبية الضيقة على حساب أبناء شعبنا ومعيشتهم ومستقبل القضية الفلسطينية”.
هذا البيان، الذي يتسق مع مع الرواية الإسرائيلية والدعاية المستمرة لمحاولة تقليب الناس والفلسطينيين على حركة المقاومة، واتهامها بأنها تستأثر بالأموال لنفسها وتترك الناس ليموتوا جوعًا، تم إثبات زيفه مع مرور الوقت، حيث تبين أن الرئيس محمود عباس كان يشارك في حصار غزة، ويمنع وصول المساعدات إليها إلا بموافقته.
خلال ذروة الانقسام الفلسطيني، لم تقتصر ممارسات السلطة الفلسطينية على اعتقال المئات من أبناء حركة حماس وقتل العشرات منهم تحت التعذيب، مثل الشهيد مجد البرغوثي الذي قضى في زنازينها بعد تعذيب شديد تمثل بثقب صدره بثاقب كهربائي، بل أُجبر آخرون على الاعتراف بالتجسس لصالح “إسرائيل” والمسؤولية عن اغتيال مقاومين، ونشرت لهم مقاطع مصورة لهم أثناء تعرضهم للتعذيب، رغم أن محاكم السلطة برأتهم من التهم الموجهة إليهم.
وفي عام 2015، اتهم مسؤولون من السلطة الفلسطينية حماس بمحاولة التوصل سرًا إلى اتفاق مع “إسرائيل” والسعي إلى تكريس الانفصال بين الأراضي الفلسطينية، وهو ما نفته حكومة الاحتلال الإسرائيلي رسميا في ذلك الوقت.
تشويه خارج الحدود
بعد الانقلاب المصري، واستلام عبد الفتاح السيسي الحكم في مصر، بدأت وسائل إعلام مصرية بحملات تشويه ضد حماس وقياداتها، حتى نشرت صحيفة مصرية بالخط العريض تقريرًا زعمت فيه أن “السيد إسماعيل هنية يملك 4 مليارات دولار، بينما تتراوح ثروة خالد مشعل بين 2 و5 مليارات دولار، وأن موسى أبو مرزوق يملك 3 مليارات دولار، بالإضافة إلى أساطيل سيارات فاخرة وشقق فخمة في عواصم عالمية”.
وفي الوقت الذي لا يحتاج فيه الإعلام المصري الموالي للنظام إلى تحريض على المقاومة الفلسطينية، كشفت وثائق نشرتها وزارة الداخلية في قطاع غزة عام 2013 تورط قياديين في السلطة وأجهزتها الأمنية والإعلامية، وخاصة من حركة فتح، في التحريض على المقاومة الفلسطينية، وتحديدًا حركة حماس.
أظهرت الوثائق طلبًا من مكتب المخابرات العامة الفلسطينية لإعداد “سيناريو كامل” لوسائل الإعلام يتضمن ادعاءات حول تجهيز حماس لسيارات مفخخة لزعزعة الأمن في مصر وفتح جبهة مع إسرائيل في سيناء لجر الجيش المصري إلى تصعيد عسكري مع إسرائيل.
بالوثائق .. حماس تُحمل فتح مسؤولية التحريض ضد الفلسطينيين بمصر
من نزار بنات إلى الصحفيين.. التحريض مستمر
في عام 2021، اهتزت الضفة الغربية باغتيال الناشط نزار بنات على يد أجهزة أمن السلطة الفلسطينية، التي اتهمته بمحاولة زعزعة السلم الأهلي واعتبرته “خارجًا عن القانون”، كما روجت عبر الفضاء الرقمي أنه يعمل بأجندات خارجية لصالح “إسرائيل” ويسعى لإدخال الضفة في حالة حرب أهلية يستفيد منها الاحتلال.
وفي سياق ملاحقة الناشطين والمقاومين، تلجأ النيابة العامة في السلطة الفلسطينية إلى توجيه تهم مثل “إثارة النعرات الطائفية والمذهبية، جمع السلاح والأموال، والتخابر مع الاحتلال” لاستخدامها كغطاء قانوني ضدهم، مثلما حدث في حالة الناشط مزيد سقف الحيط في عام 2024، حيث قدمت النيابة العامة تهمًا ضده تتعلق بالذم في السلطة، تحقير المقامات العليا، وإثارة النعرات العنصرية والمذهبية، استنادًا إلى قانون الجرائم الإلكترونية رقم 10 لسنة 2018.
وذكرت مجموعة “محامون من أجل العدالة” أنها تابعت ما نشرته وسائل التواصل الاجتماعي من صورة للمعتقل الناشط مزيد سقف الحيط، بجانب شعار المباحث العامة تحت عنوان “اعتقال المطلوب رقم 1 في مدينة نابلس”، معتبرةً أن هذا السلوك هو محاولة للتشهير والإهانة، وأنه يشكل جريمة إلكترونية ومسلكية تستوجب المساءلة والمحاسبة.
وفي السياق ذاته، مارست السلطة الفلسطينية حملات تحريض ضد صحفيين، مثل ليث جعار، مراسل قناة “الجزيرة”، حيث اتهمته بـ”العمالة لصالح الاحتلال الإسرائيلي” في أعقاب المجزرة التي نفذها الاحتلال في طولكرم، حيث استهدف قصف إسرائيلي منزلًا ومقهى، كما واصلت التحريض ضد صحفيين آخرين مثل محمد الأطرش، مراسل “الجزيرة”، في إطار التحريض المستمر ضد القناة وطاقمها الإعلامي.
مقاومو الضفة الجُدد الخارجون عن القانون في عرف السلطة
بعد معركة “سيف القدس” عام 2021، دخلت الضفة الغربية مرحلة جديدة من مقاومة الاحتلال، ما أسفر عن ظهور فصائل مقاومة قوبلت بملاحقة ومطاردة من قبل السلطة الفلسطينية، التي حاولت تشويه سمعة المقاومين من خلال وصفهم بـ”تجار المخدرات” و”سارقي السيارات” و”الخارجين عن القانون”، إضافة إلى تكرار الاتهام لهم بالعمل لأجندات خارجية.
وفي عام 2023، قبل انطلاق معركة “طوفان الأقصى”، أظهرت تقارير أن عناصر الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية كانوا يشعرون بحرج كبير من تنفيذ حملات الملاحقة والاعتقال ضد المقاومين، الذين كانوا يحظون باحترام واسع من الشارع الفلسطيني، وقد نقل هؤلاء العناصر شكاوى إلى قياداتهم بشأن انطباعات عائلاتهم عن أدوارهم في مساندة الاحتلال واستهداف المقاومين.
وبناءً على ذلك، قررت قيادات الأجهزة الأمنية إطلاق حملة إعلامية مضادة، تهدف إلى تشويه صورة المقاومين واتهامهم بالارتهان للأجندة الخارجية، وحتى التلويح بالجانب المذهبي، بسبب دعم إيران و”حزب الله” الواضح للمقاومة، وأوعزت الأجهزة نفسها إلى الصحف الرسمية والمجموعات العسكرية التابعة لحركة فتح، بنشر بيانات مصوّرة ومقالات مكتوبة، تدافع فيها عن نشاط الأجهزة الأمنية، وتشوّه عمل خلايا المقاومة.
ومن الأمثلة على ذلك، مقاومو عرين الأسود – الحالة التي أنهتها السلطة الفلسطينية بالتعاون مع الاحتلال في مدينة نابلس -، مثل مصعب أشتية المعتقل في سجون السلطة للعام الثالث على التوالي والشهيد وديع الحوح، اللذين لوحقا بسيل لا ينتهي من التحريض ضدهما والتشويه، حتى انتهى باعتقال الأول واستشهاد الثاني برصاص الاحتلال.
واعتقلت السلطة الفلسطينية المقاوميَن في كتيبة جبع جنين: مراد ملايشة ومحمد براهمة، وأتبعت اعتقالهما ببيانٍ قالت فيه إنه لن يكون هناك أي تهاون أو تقصير في تطبيق القانون والأمن العام، وأنها ستقطع أي يد تعبث بالأمن.
ولا تبتعد عن ذلك حملة التحريض المستمرة على قائد كتيبة طولكرم الشهيد أبو شجاع، الذي وصفته بالخروج عن القانون، وحاولت محاصرته في المستشفى واعتقاله، إلا أن المد الشعبي الغاضب حال دون ذلك، ورغم استشهاده على يد الاحتلال، استمرت السلطة في حملة تشويه سمعته حتى بعد موته.
وخلال الأشهر الأخيرة، صرّح العديد من مسؤولي السلطة الفلسطينية بتصريحات علنية تؤكد استمرارهم في تفكيك العبوات الناسفة التي يزرعها المقاومون، تحت ذريعة الحفاظ على السلم الأهلي، والهيمنة على منطقة “أ” التي يتعرض الاحتلال لاقتحامها بشكل يومي، وهو ما فسره الفلسطينيون على أنها محاولة جديدة لإلصاق تهم جنائية بالمقاومين، بهدف تشويه سمعتهم وشرعنة ملاحقتهم.
ولاحقًا، نشرت محافظة طوباس بيانًا بالتزامن مع محاولات السلطة القضاء على حالة المقاومة في المحافظة، قالت فيه إنها لن تسمح بأي مظهر مسلح (استعراضي) تستغله حكومة الاحتلال لتنفيذ أجنداتها الإجرامية، وأنه سيتم فرض النظام والقانون في المحافظة ضمن خطة أمنية واضحة هدفها مصلحة المواطن الفلسطيني من أجل أن ينعم الجميع بالأمن والأمان”.
ولا يكاد الشهداء يسلمون من حملة التشويه حتى بعد ارتقائهم، كما حدث مع القائد الشهيد يحيى السنوار، فرغم أنه أصبح رمزًا عالميًا للمقاومة، تداولت عناصر السلطة على منصات التواصل الاجتماعي تهانيها، معتبرةً أن “الطوفان” الذي جلبه قد ارتحل، ربما إدراكًا منهم أن هذا الطوفان قد ينقلب عليهم أيضًا.