في كتابه “رأس المال” كان كارل ماركس يهدف إلى خلق مجتمع اشتراكي خالٍ من الأنانية الفردية والجشع البرجوازي، وفي منتصف القرن العشرين حملت رياح التغيير مبشرات بتحول نظريات وأفكار كارل ماركس التي وضعها بين طيات كتابه إلى واقع عملي مشهود وأضحت الاشتراكية على مقربة من خلافة الرأسمالية التي كانت تتربع آنذاك على عرش العالم الذي بدروه كان منقسمًا إلى ثلاثة عوالم أساسية: العالم الأول الذي يضم الدول الرأسمالية المتقدمة، والعالم الثاني الذي يشمل دول أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي، والعالم الثالث الذي شمل المستعمرات الأوروبية في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
وخلال عام 1956 أعلن الرئيس السوفيتي نيكيتا خروتشوف في الخطاب التاريخي الذي ألقاه أمام سفراء الدول الغربية في مدينة موسكو أنه يثق في أن التاريخ يقف في صفه ولن يمر وقت طويل حتى تنتصر الاشتراكية على الرأسمالية ويسيطر الاتحاد السوفيتي كقطب عالمي أوحد ويهيل التراب على ركام الرأسمالية، ولكن أيًا من ذلك لم يحدث، ففي عام 1989 انهار الاتحاد السوفيتي وجسد ذلك صدمة للكثيرين، فالاتحاد السوفيتي كان النسيج الأساسي للنظام الاشتراكي الذي كان يُنظر إليه على أنه النموذج الأخلاقي المثالي، فأين وقع الخطأ؟
عادة ما يكون بطل العمل الفني من العمال ويتجه دومًا إلى الخير ويؤمن بانتصار الإرادة الجماهيرية للعمال ولكن بشرط أن يتحدوا جميعًا معًا ضد الأعداء الظاهرين
بجانب هذه التطورات السياسية كان هناك داعم رئيسي للنظام الاشتراكي وهو أدب الواقعية الاشتراكية الذي حمل على عاتقه مهمة نشر الأفكار الاشتراكية واعتمد منهجًا أساسيًا للأدب السوفيتي ومن هناك امتد تأثيره عالميًا بالتوازي مع انتشار الأفكار الاشتراكية الماركسية، وعليه هل من الممكن أن يخبرنا أدب الواقعية الاشتراكية عن الخلل الذي اعترى النظام الاشتراكي والخطأ الذي تسبب في انحسار ذلك النموذج المثالي؟
خصائص أدب الواقعية الاشتراكية: يا عمال العالم اتحدوا
تبلورت الواقعية الاشتراكية كمدرسة فنية تجسد الأدب والشعر والمسرح والفنون التشكيلية والسينما خلال عام 1934 وذلك في مؤتمر اتحاد الكتاب السوفيت على يد ماكسيم غوركي وأندرى جدانوف، وعلى خلاف ما كانت تدعو إليه الواقعية الطبيعية مثل ضرورة نسخ الواقع والظواهر المجتمعية الملموسة، إذ كانت بمثابة كاميرا السينمائي الذي يرصد ما يحدث ويترك للمشاهد حرية الحكم على الأمور، كانت الواقعية الاشتراكية تهدف إلى إرشاد الجماهير إلى خفايا الواقع وتسعى في الوقت ذاته إلى بناء مجتمع اشتراكي جديد ينحاز للفقراء ويلغي الفوارق الطبقية كافة.
على الرغم من أن الواقعية الاشتراكية ترى أن العمل الأدبي يجب أن يجسد الصراع الطبقي بين العمال والفلاحين والطبقة الرأسمالية، فإنها في الوقت ذاته لا تهمل المقومات الفنية
وعادة ما يكون بطل العمل الفني من العمال ويتجه دومًا إلى الخير ويؤمن بانتصار الإرادة الجماهيرية للعمال ولكن بشرط أن يتحدوا جميعًا معًا ضد الأعداء الظاهرين وعادة ما يتجسدوا في رؤساء العمل والأعداء غير الظاهرين وهم رئيس الشرطة والوزير والدولة.
روايات أدب الواقعية الاشتراكية
على الرغم من أن الواقعية الاشتراكية ترى أن العمل الأدبي يجب أن يجسد الصراع الطبقي بين العمال والفلاحين والطبقة الرأسمالية، فإنها في الوقت ذاته لا تهمل المقومات الفنية مثل المقدرة اللغوية والأسلوبية كما أنها تبرع في تجسيد التصوير الطبيعي والنفسي وتنقل حرارة العاطفة بشكل قوي، فهي تتجه إلى الجماهير بخطاب سياسي يحمل أهدافًا اجتماعية ولكنه أيضًا يحمل حسًا مرهفًا وأداءً فنيًا قويًا، فالشكل والمضمون متكاملان في أدب الواقعية الاشتراكية.
رواية “الأم” للأديب ماكسيم غوركي.. كل الطرق تؤدي إلى الثورة
انطلقت صافرة المصنع بصوتها المدوي إيذانًا ببدء العمل لتخترق بيوت المدينة شديدة الهشاشة وتوقظ العمال الذين عزفت الأحلام عن زيارتهم إما بسبب ذلك العطب الكامن في أرواحهم أو بسبب يأسها من هؤلاء العمال، يستيقظ العمال خائري القوى لا يدرون سبب انهيار أجسداهم وتمردها على الاستيقاظ دومًا في هذا الموعد المبكر.
تتناول الرواية قصة حياة عامل المصنع “بافل فلاسوف” الذي ثار على النظام الاجتماعي والاقتصادي القائم في المجتمع الروسي والظلم الواقع على العمال الذين يشكلون عصب الحياة والاقتصاد الروسي
يذهب العمال إلى المصنع الذي يظلل عليهم بسحابته السوداء التي لا تنقشع ليقضوا النهار بطوله بين آلاته وماكيناته يعملون ويعملون من أجل حفنة قليلة من المال لا تكد تسد رمقهم، يمتص المصنع كل قوتهم وطاقتهم من أجل آخرين يجلسون وراء مكاتبهم لا يعملون شيئًا وبعد انقضاء النهار داخل مباني المصنع التي تشبه السجون من حيث الشكل والمضمون، يغادر العمال ويذهبون إما إلى الحانات من أجل إفراغ غضبهم المكبوت أو من أجل نسيان حياتهم التي لا يملكونها وبعدها يغادرون إلى منازلهم وينامون بأفواه مفتوحة ليعاودوا نفس الكرة في اليوم التالي، كانت حياتهم تسير على هذه الشاكلة حتى الموت، وعن تلك الحياة تحديدًا وعن أولئك العمال دارت أحداث رواية الأم لكاتبها المناضل السياسي والحزبي ماكسيم غوركي.
تتناول الرواية قصة حياة عامل المصنع “بافل فلاسوف” الذي ثار على النظام الاجتماعي والاقتصادي القائم في المجتمع الروسي والظلم الواقع على العمال الذين يشكلون عصب الحياة والاقتصاد الروسي ومع ذلك حقوقهم مهدرة بشكل كبير.
“أيها الرفاق، يقولون إن شعوبًا مختلفة تقطن الأرض، يهودًا وجرمانًا، إنجليزًا وتتارًا، ولكني لا أصدق ذلك! هناك شعبان فقط، شعبان لا يتوافقان، الغني والفقير! الناس يختلفون في لباسهم وفي لغتهم، ولكن انظروا كيف يعامل الغني الفرنسي أو الإنجليزي أو الألماني الشعب العامل لتتحققوا أنهم جميعًا بالنسبة إلينا نحن العامل، أوغاد، سفلة ألا حلت عليهم لعنة الله”.
رواية “العقب الحديدية” للكاتب جاك لندن.. الكفاح الثوري ضد النظام الرأسمالي
من خلال أحداث هذه الرواية يحكي لنا الروائي الأمريكي جاك لندن قصة البطل “إرنست ايفرهارد” بعد مقتل زوجته التي قالت في مطلع الرواية قبل مقتلها: “عقدت العزم على أن أفرغ، في فترة الانتظار القلق هذه للكتابة عن زوجي، إن ثمة ضوء كثير أستطيع أنا وحدي من دون جميع الأشخاص الأحياء أن ألقيه على شخصيته”.
خلال مطلع الألفية الجديدة كانت فنزويلا عبارة عن بلد غني وشعب فقير، إذ كان يعيش أكثر من 68% من السكان تحت خط الفقر وهو ما أتاح لهوجوشافيز الاشتراكي أن يصعد إلى سدة الحكم
كان إيفرهاد يحلم بأن تنتفض جماهير العمال في بقاع العالم أجمع وتطالب بحقها في الحياة الآدمية وعيش حياة كريمة ولكنه كان على دراية بأن العمال خائري القوى بسبب العقب الحديدية التي تمسك بتلابيبهم وتمنعهم من النهوض، والعقب الحديدية من وجهة نظر الكاتب هم أصحاب المصانع ورؤوس الأموال الرأسماليين، ولم تكتف الرواية بنقد أصحاب الأموال ولكنها انتقدت أيضًا على لسان إيفرهارد الكنيسة كونها تدافع عن النظام الرأسمالي وتغض الطرف عن الظلم الذي يتعرض له العمال، وفي حربه ضد العقب الحديدية التي كانت تمنع ثورة العمال كان صوت إيفرهارد عاليًا وهو يردد: “أخفقتم في تدبير أمر المجتمع، وحولتم الحضارة إلى مسلخ وكنتم عميانًا وشرهين”.
ما الذي يخبرنا به الأدب عن فشل الاشتراكية في فنزويلا؟
خلال السنوات الأخيرة عاشت فنزويلا أزمة اقتصادية حادة بسبب انخفاض أسعار البترول الذي تمتلك فنزويلا أكبر احتياطي عالمي منه، وخلال مطلع الألفية الجديدة كانت فنزويلا عبارة عن بلد غني وشعب فقير، إذ كان يعيش أكثر من 68% من السكان تحت خط الفقر وهو ما أتاح لهوجوشافيز الاشتراكي أن يصعد إلى سدة الحكم.
بالعودة إلى الأدب نجد أن الاشتراكية تعثرت في طريقها صوب التحول إلى واقع ملموس ونظام حياتي عملي
في أثناء سنوات حكمه اللاحقة استغل شافيز عائدات البترول المرتفعة وخاصة بعد حرب العراق 2003 وشرع في تمويل برامج اجتماعية كبيرة تخص التعليم والإسكان وحتى وفاته خلال عام 2013 رفع الإنفاق الحكومي الذي رسخه شافيز نصف سكان فنزويلا من تحت خط الفقر، في الظاهر كانت الأمور تبدو جيدة ولكن في العمق كان للاقتصاد رأي آخر فعلى الرغم من أن تشافيز ساعد الفقراء، فإنه أحاط نفسه بمجموعة من العسكريين من أجل أن يوفروا له الحماية وفي المقابل دفع أموالاً طائلة ولم يفكر في تحرير اقتصاد بلاده من عبودية البترول، وكان الإنفاق الحكومي ممولًا من عائدات النفط.
وبعد وفاته صعد رفيق كفاحه الاشتراكي نيكولاس مادورو إلى الحكم ولسوء حظه انخفضت أسعار البترول أواخر عام 2014 وتقلص الاقتصاد وانخفضت الأجور بنسبة 80% وبدأ التضخم ونقص المواد الغذائية وتدهور العملة، وبعيدًا عن الأوضاع الاقتصادية المتردية تعاني فنزويلا منذ عقود من الفساد، فوفقًا لبيانات منظمة الشفافية الدولية فإن دولة فنزويلا هي تاسع أكثر دولة فسادًا في العالم.
وبالعودة إلى الأدب – الذي أكد في كلماته حتمية الثورة ضد النظام الرأسمالي وخاصة إذا كانت الحياة تسحق البشر داخل آلات وماكينات تمتص قواهم وروحهم – نجد أن الاشتراكية تعثرت في طريقها صوب التحول إلى واقع ملموس ونظام حياتي عملي، ففي الوقت الذي زعم فيه قادة بلدان العالم الثاني الماركسيون والنظام السياسي في فنزويلا أنهم يقيمون دولة الاشتراكية كانت المجتمعات التي يقيمونها والمرتكزة على التخطيط المركزي لا تشبه بأي حال من الأحوال ذلك المجتمع الذي كان يحلم به العمال: لم تتحقق أحلام بافل فلاسوف بطل رواية الأم ولم تحكم جماهير العمال وتتحرر من العقب الحديدية كما أراد إرنست إيفرهارد، وكذلك لم تُطبق المساواة التي ترسخت في عقل كارل ماركس.
وعليه فإن كل الأنظمة الصناعية في العالم التي أطلقت على نفسها اسم الاشتراكية مثل مصر الناصرية ودولة اليمن الجنوبي الاشتراكية وكذلك فنزويلا لم تحكمها الطبقة العاملة، ولذلك فإن الاشتراكية لم تفشل لأنها في واقع الأمر لم تكن موجودة من الأساس سوى في كتابات كارل ماركس الطوباوية وروايات أدب الواقعية الاشتراكية.