يبدو أن مسيرات الجزائريين الرافضة لترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي يعاني متاعب صحية لولاية جديدة لن تتوقف عند حراك الجمعة الماضي، فقد غصت للمرة الثانية ساحة أودان وشارع ديدوش مراد وسط العاصمة الجزائر بآلاف المتظاهرين الغاضبين من تشبث الرجل الأول في البلاد بكرسي الرئاسة، في وقت يبقى الطرف الثاني غير مكترث لصوت الشارع ومصر على كسب مراهنة العهدة الخامسة.
وبينما كان الرئيس بوتفليقة البالغ من العمر 81 سنة يخضع لفحوص دورية روتينية في جنيف السويسرية، مثلما جاء في بيان للرئاسة الجزائرية، كان آلاف الجزائريين يتجمعون وسط عاصمة البلاد ليؤكدوا تشبثهم بمطلبهم المتعلق بضرورة عدوله عن الترشح لولاية خامسة.
الثانية
بعد أن كانت مسيرات 22 فبراير إعلانًا بكسر حاجز الخوف، خاصة في عاصمة البلاد التي تمنع فيها السلطة المسيرات، لم يكن صعبًا على حركة مواطنة التي تضم أحزابًا وشخصيات سياسية جمع آلاف المواطنين في ساحة أودان بداية من منتصف النهار مثلما دعت إليه الخميس الماضي.
وعلى عكس التجمعات السابقة لحركة مواطنة التي تأسست الصيف الماضي لرفض العهدة الخامسة لبوتفليقة التي لم تكن تلق استجابة كبيرة من المواطنين، كانت مظاهرة الأحد مختلفة، فقد اجتمعت حشود الجزائريين على طول الشارع من البريد المركزي حتى ساحة أودان قبالة الجامعة المركزية.
يبدو ظاهرًا أن هذه المسيرات تريد إرسال رسالة إلى الجناح المؤيد لبوتفليقة مفادها أنه لا تراجع هذه المرة حتى تحقيق الهدف
وردد المحتجون هتافات رافضة لترشح الرئيس بوتفليقة لولاية خامسة مثل “يا بوتفليقة الجزائر ليست مملكة”، إضافة إلى أناشيد عرفت خلال الثورة التحريرية منها نشيد “من جبالنا” الشهير.
وحرصت الشرطة على التعامل بليونة مع حشود المحتجين، غير أن إصرار نشطاء على الوصول إلى ساحة الاعتصام المتفق عليها جعل البعض منهم يدخلون في طائلة المعتقلين لساعات فقط، فقد تم الإفراج عنهم بعد فض المسيرة عند الثانية بعد الزوال أو أكثر، مثلما كان مقررًا لها من حركة مواطنة التي دعت إلى هذه الوقفة الاحتجاجية، وفي ولاية تيزي وزو شرق البلاد، فرقت الشرطة تجمعًا للمرشح المحتمل لرئاسيات 18 من أبريل 2019 رشيد نكاز المعروف بدفع غرامات المنقبات في أوروبا.
يبدو ظاهرًا أن هذه المسيرات تريد إرسال رسالة إلى الجناح المؤيد لبوتفليقة مفادها أنه لا تراجع هذه المرة حتى تحقيق الهدف، خاصة أنها ستتبع يوم الثلاثاء بمسيرات للطلبة في الجامعات، ومسيرات جديدة حاشدة الجمعة القادمة قبل 3 أيام من تاريخ استيفاء إيداع ملفات الترشح لدى المجلس الدستوري.
تجاهل
لكن الطرف الآخر يظهر وكأنه غير مبال بحراك الشارع، فقد تجاهل الرئيس بوتفليقة في رسالته بمناسبة الذكرى الـ63 لتأسيس الاتحاد العام للعمال الجزائريين والذكرى الـ48 لتأميم المحروقات المسيرات التي تجوب شوارع بلاده، وتدعوه لعدم الترشح لولاية خامسة.
هذا التجاهل من السلطة لمطلب الشارع يخفي حقيقيتين لا ثالث لهما تتمثلان إما في أن محيط الرئيس بوتفليقة لا يدرك حجم الغضب الموجود ضد رافضي الولاية الخامسة، أو أن مؤيدي بوتفليقة يحاولون التظاهر على أنه غير مبال بما يحدث في الشارع
وفي رسالة قرأها وزير الداخلية نور الدين بدوي كالعادة نيابة عنه، ركز بوتفليقة على إنجازاته “العظيمة”، وراح يعدد البعض منها قائلاً: “لقد عرفت الجزائر خلال العشريتين الأخيرتين (فترة حكم بوتفليقة) كيف تمزج ثروة المحروقات مع الإرادة السياسية المستقلة، وكذا سواعد وإرادة أبناء الجزائر المخلصين، فبعدما خرجت البلاد من المأساة الوطنية ومن ويلات إعادة الهيكلة الاقتصادية والاجتماعية، انطلقنا في مسار البناء والتشييد مرحلة تلو مرحلة، فتحررت الجزائر من أخطبوط المديونية الخارجية ودحرت شبح البطالة الذي كاد يخنق شبابنا، وأزالت إلى حد جد بعيد مظاهر البؤس والفقر، وعمّرت ربوع البلاد بآلاف المدارس ومئات المستشفيات وعشرات الجامعات وملايين السكنات”.
وأضاف بوتفليقة “وما كان هذا المسار ليكون ممكنًا إلا بفضل استقلالية قرارنا السياسي والاقتصادي الذي سمح لنا باجتياز المصاعب المالية للسنوات الأخيرة، وهو أمر أصبح ممكنًا بفضل السلم الاجتماعي وتجند العمال في الاتحاد العام للعمال الجزائريين”.
وعلى هذا المنحى، سار اجتماع هيئة التنسيق لأحزاب التحالف الرئاسي (حزب جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي وتجمع أمل الجزائر والحركة الشعبية الجزائرية)/ وبدل أن تعرب هذه الأحزاب الداعمة لبوتفليقة عن إمكانية دراسة مطالب الشارع الجزائري راحت تشدد على ما أسمته “المحافظة على المكتسبات التي حققتها الجزائر وعلى رأسها الأمن والاستقرار والتنمية وثمار المصالحة الوطنية التي تحققت على يد رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة”، وحسب ما جاء في بيان مشترك لهذه الأحزاب، فإنها قد لمست “التفاعل الكبير للمواطنين مع حملة جمع التوقيعات للمترشح عبد العزيز بوتفليقة”، لذلك تواصل تحضيراتها للحملة الانتخابية لمرشحها حتى وإن خرجت 48 ولاية الجمعة الماضية تدعوه للعدو عن ترشحه للرئاسيات.
لم تجد الحكومة حلاً لمواجهة هذه الاحتجاجات سوى العمل على تكميم أصوات الصحافة بمطرقة الإشهار والإعلانات
وقبل هذا الاجتماع، كان الرد القاسي على مسيرات الشارع قد جاء من منسق الهيئة المؤقتة لحزب جبهة التحرير الحاكم معاذ بوشارب الذي خاطب المتظاهرين قائلاً: “صح النوم وأحلام سعيدة”، وذلك في رده على خروجهم المتأخر، وهو ما اعتبر استفزاز للمواطنين، ما جعل الحزب يتراجع عن كلامه ويقول إنه قد تم إخراج كلام بوشارب عن سياقه.
لكن هذا التجاهل من السلطة لمطلب الشارع يخفي حقيقيتين لا ثالث لهما تتمثلان إما في أن محيط الرئيس بوتفليقة لا يدرك حجم الغضب الموجود ضد رافضي الولاية الخامسة، أو أن مؤيدي بوتفليقة يحاولون التظاهر أنه غير مبال بما يحدث في الشارع للتغطية على الخوف الذي صار يكتنفه.
تضييق
لم تجد الحكومة حلاً لمواجهة هذه الاحتجاجات سوى العمل على تكميم أصوات الصحافة بمطرقة الإشهار والإعلانات، فبسبب الضغوط الممارسة عليها، اكتفت القنوات التليفزيونية الخاصة بتغطية باهتة لموجة المسيرات وووضع عناوين مخففة لا تحمل حتى الإثارة البسيطة التي تتطلبها فنيات التحرير الصحفي في مثل هذه الأوقات.
وقدمت رئيسة تحرير في القناة الإذاعية الثالثة استقالتها احتجاجًا على عدم تغطية الراديو الحكومي مسيرة الجمعة الماضية، تبعها عمال الإذاعة الحكومية كلهم الذين تساءلوا في رسالة موجهة للمدير العام للإذاعة الجزائري إن كانوا صحفيون ينتمون إلى مؤسسة عمومية تعمل على توفير الخدمة العمومية للمواطن أم أنهم شيء آخر بما أنهم منعوا من تغطية الاحتجاجات الرافضة لترشح بوتفليقة.
وبقي التليفزيون الحكومي وفيًا لتضييقه على أي رأي يخالف السلطة، فقد تجاهل مسيرة حركة مواطنة، وسط غضب من صحفييه لمنعهم من أداء عملهم كما يجب، وسط أنباء تقول إن الرئاسة أقالت المدير العام للتليفزيون ومدير الأخبار بسبب سوء تفاعلهما مع ما يحدث في الشارع.
مع مرور الوقت، يتساءل الجزائريون عن مدى قدرة الشارع على صناعة التغيير المنشود، ومدى قدرة بوتفليقة ومحيطه على الصمت مطولاً تجاه المطالبين بعد ترشحه لولاية خامسة
ولم تدم مهنية وكالة الأنباء الجزائرية التي أبهرت الجميع الجمعة الماضي بتغطيتها مسيرة تدعو بوتفليقة لعدم الترشح لولاية خامسة، حيث عادت هذه المرة وتجاهلت لب المسيرة المنظمة بساحة أودان بالقول إن المتظاهرين نظموا تجمعًا للمطالبة “بالتغيير” و”دولة القانون”، وأعاد هذا التضييق الحديث عن حجم هامش الحرية الذي تتمتع به الصحافة الجزائرية، ومدى قدرة رجال الإعلام بالالتزام بأخلاقيات المهنة في محيط صار يفتقر لحرية التعبير.
ومع مرور الوقت، يتساءل الجزائريون عن مدى قدرة الشارع على صناعة التغيير المنشود، ومدى قدرة بوتفليقة ومحيطه على الصمت مطولاً تجاه المطالبين بعد ترشحه لولاية خامسة، لكن الأكيد أن الأسبوع الحاليّ سيكون حاسمًا في تحديد مستقبل البلاد على الأقل على المدى القريب، بما أن آجال إيداع ملفات الترشح للرئاسيات تنتهي بعد أسبوع من اليوم.