حاز فيلم “الكتاب الأخضر Green Book” على جائزة الأوسكار عن فئة أفضل فيلم، فيما حصد الممثّل ماهرشالا علي على جائزة أفضل ممثّل مساعد في الدورة الـ91 لجائزة أكاديمة فنون وعلوم الصور المتحركة والمعروفة اختصارًا بالأوسكار. والفيلم يستند إلى قصة حقيقية جرت بين الموسيقي الأمريكي من أصل أفريقي دون شيرلي والذي لعب دوره ماهرشالا علي، والسائق الأمريكي من أصل إيطالي طوني ليب، والذي لعب دوره فيغو مورتنسن، وقد أخرجه بيتر فاريللي.
ينتمي الفيلم إلى قائمة أفلام الطريق، إذ تمضي أحداثه على طرقات الجنوب الأمريكي حيث يتّجه شيرلي نحو جولته الفنّية برفقته طوني الذي اختاره ضمن مقابلة عمل ليكون سائقه وحارسه الشخصيّ في تلك الرحلة التي ستستمرّ على مدى شهرين متواصلين اثنين. لكنّ أهمّ ما في القصة، أنّ تلك الرحلة تحدث في فترةٍ من فترات القرن الماضي حيث كانت العنصرية ضدّ السود والزنوج لا تزال تحتلّ مكانةً واسعة وكبيرة في المجتمع الأمريكي.
تريلر الفيلم
جولة فنيّة في زمن العنصرية
تدور أحداث الفيلم في عام 1962، حيث يبدأ توني “ليب” فايالونغا، الأميركي من أصلٍ إيطاليّ، بالعمل كسائقٍ خاص لعازف البيانو الكلاسيكي والجاز الأمريكي من أصولٍ أفريقية دونالد شيرلي، في الفترة التي كان الزنوج فيها لا يزالون يعانون من التفرقة العنصرية الحادّة التي نشأت وكبرت في أمريكا لعقودٍ من الزمن.
اسم الفيلم بالأساس مستوحىً من “الكتاب الأخضر للسائق الزنجيّ the negro motorist green book“، وهو دليلٌ يعود إلى منتصف القرن العشرين، ما بين عامي 1936 و1966 تحديدًا، وهي الفترة التي سادت فيها قوانين جيم كرو التي اقتضت بفصل الأعراق اجتماعيًا في الأماكن العامّة، بحيث صار فصل الأميركيين الأفارقة عن باقي السكان أمرًا تشرّعه القوانين الرسمية في تلك الحقبة. وقد ألّف الكتاب فيكتور هوغو غرين لمساعدة الأمريكيين ذوي الأصل الإفريقي أثناء سفرهم وترحالهم من خلال استعراض أماكن السكن والمطاعم ومحطّات الوقود المحدودة التي تستقبل ذوي البشرة السوداء وتسمح لهم بالنزول فيها.
تبدأ القصة حينما يُعلن شيرلي عن حاجته لسائقٍ خاص يأخذه في في جولته الموسيقية حول الجنوب الأمريكي والتي تستمرّ لمدة شهرين اثنين، فهو يعلم جيّدًا وعلى دراية تامّة بالمتاعب التي قد يواجهها في أماكن مختلفة بسبب لون بشرته، ما يتطلّب منه العثور على رجلٍ مناسب يستطيع الإمساك بزمام الأمور وإدارة الرحلة بحنكة مناسبة.
ومع الأمتار الأولى التي يقطعها الاثنان في رحلتهما، تبدأ رحلة تحدّي الجهل والأفكار التحيّزية والولاءات القبليّة الفارغة والتي مسّت كلًا من شيرلي وتوني ليب. فمن جهةٍ، أظهر شيرلي في البداية عددًا من السلوكيّات السلبية تجاه ليب كردّة فعل سيّد أسود يمتلك سائقًا أبيض في فترة يعاني فيها السود ما يعانون من العنصرية والتحيّز. فيما كان ليب، في الجهة المقابلة، جزءًا من مجتمعٍ أبيض عكف لسنواتٍ طويلة على استحقار السود ومعاملتهم بعنصرية وطبقيّة حادة. نراه، على سبيل المثال، يرمي بكأسين زجاجيّتين إلى سلّة النفايات بعد أنْ شرب منهما السبّاكان اللذان استدعتهما زوجته لتصليح أرضية المطبخ.
“سيمفونية من الأكاذيب”.. كيف ابتعد الفيلم عن الحقيقة؟
لكن، مثله ومثل معظم الأعمال الدرامية التاريخية، قوبل الفيلم بالعديد من الأسئلة حول دقته السرديّة. فعلى عكس ما يروّج الفيلم في بدايته من أنه مستوحىً من قصّة حقيقية، وأنّ ابن توني ليب قد شارك في كتابة السيناريو، إلا أنّ عائلة شيرلي وجهّت انتقاداتها الخاصة للعديد من جوانب الفيلم.
ففي مقابلة موسّعة مع موقع Shadow And Act، وجّه ابنا أخ شيرلي العديد من الانتقادات للفيلم ووصفاه بأنه “سيمفونية من الأكاذيب”بحيث أنّه عمل على التلاعب بالأحداث والالتواء حول الحقائق من أجل صنع القصة والفيلم. فقد صوّر الفيلم شيرلي وكأنه يعيش وحيدًا مغتربًا عن عائلته دون أنْ يتواصل معها، فيما أنه في الحقيقة كان على اتّصالٍ مع أخوته الثلاثة في ذلك الوقت، بعكس ما ادّعى الفيلم من أنه لا يعرف أي طريقة للتواصل مع “شقيقه الوحيد”.
وجّه ابنا أخ شيرلي العديد من الانتقادات للفيلم ووصفاه بأنه “سيمفونية من الأكاذيب”بحيث أنّه عمل على التلاعب بالأحداث والالتواء حول الحقائق من أجل صنع القصة والفيلم
ومن جهةٍ ثانية، ترسم أحداث الفيلم العديد من التطوّرات السلسة والخفيفة في العلاقة بين الاثنين، شيرلي وليب، والتي تحوّلت فيما بعد لصداقةٍ حقيقيةٍ، وهو الأمر الذي نفته عائلة شيرلي في المقابلة، والتي وصفت العلاقة بينهما بأنها كانت فقط في حدود “العلاقة بين صاحب العمل والموظفين”، وأنّ شيرلي لم يشر في حياته أبدًا إلى توني “كصديق”.
ناهيك عن أنّ شيرلي كان ناشطًا في حركة الحقوق المدنية، وصديقًا لمارتن لوثر كينغ، ويمتلك العديد من الأصدقاء المقرّبين من الموسيقيّين السود، وهذا كلّه كان نقيضًا لما عرضه الفيلم من أنّ شيرلي عاش مغتربًا عن مجتمع السود في أمريكا نظرًا لاحتقارهم له لعزفه أمام البيض وأسياد المجتمع آنذاك.
قصص سوداء ومخرجين بيض
جميع التجاوزات التي حملها الفيلم يشي بأنّ كلًّا من هوليوود وأكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة لا تزالان توليان أهمّية كبرى للأفلام التي تحكي قصص المهمّشين أو الأقليات، كالسود والنساء والمثليّين وغيرهم، وتلك التي تدعو إلى نبذ العنصرية والتفرقة حتى لو كان الأمر على حساب دقة الرواية والسردية ونقل القصة الصحيحة عن شخصٍ أو حادثةٍ أو حقبةٍ ما من التاريخ.
والأمر ليس جديدًا البتّة، فغالبًا ما يتمّ انتقاد بعض المخرجين البيض الذين يروون قصصًا عن السود بمنظورهم الخاص، بحيث يتم رسم تلك القصص بطريقة أحادية الأبعاد لا أكثر. عوضًا عن الحبكة التي تعتمد على “المنقِذ الأبيض”، حيث يقوم بطل الفيلم الأبيض بحفظ المستضعف الأسود ويستحوذ على سرديةٍ تحدّ من الموضوع الأساسي والمركزي للقصة التي يجب أنْ تعالج الشخصية أو المجتمع الأسود.
فالفيلم قبل كل شيء يركّز على توني ليب أكثر ممّا يركّز على دون شيرلي، بطل القصة الأساسية، فنحن نلتقي بأسرة طوني، ونشهد تطوّر شخصيّته وتكشّف تغيّراتها خلال سرد الأحداث أكثر ممّا تشهده شخصيّة دون، الرجل الأسود المعقّد، فهو من جهةٍ موسيقيّ كلاسيكيّ وعازف جاز، وطبيبٌ نفسيّ أنهى شهادته العليا في علم النفس والفنون الليتورجية، وله نصيب من النضال ضد نظام الفصل العنصري في الولايات المتحدة، وكان من أوائل السود الذين سُمح لهم على مضض بالعزف في الأوركسترا الأمريكية الوطنية وفي البيت الأبيض.