ترجمة وتحرير: نون بوست
بعد مرور ثلاثين سنة على استيلائه على السلطة إثر انقلاب عسكري، يبذل الرئيس السوداني عمر البشير، حاليا، قصارى جهده لئلا يلقى ذات المصير الذي واجهه سلفه. ومنذ 19 كانون الأول/ ديسمبر، اجتاحت المظاهرات الشعبية البلاد وهي متواصلة لشهرها الثاني على التوالي. وعوض المبادرة بالتفاوض مع المتظاهرين، آثر نظار البشير التصدي لهذه الاحتجاجات الشعبية بالغاز المسيل للدموع والذخيرة الحية. ويشير انعدام أسس بناء حوار حقيقي بين قادة هذه الاحتجاجات وحكومة البشير إلى أن هذه الاضطرابات لن تنتهي بسرعة أو بشكل سلمي.
لطالما كانت الحكومة السودانية جائرة عندما يتعلق الأمر بالحفاظ على النظام العام، ولكن يبدو أن أساليبها القاسية لم تعد تؤتي أُكلها. ومع ذلك، لم تقدم الحكومة السودانية أي وعود اقتصادية أو مناشدات للمشاعر الإسلامية أو محاولات لاستغلال الخلافات العرقية والدينية. وقد تحمّلت الاحتجاجات كل هذه الأساليب، وتحولت الآن إلى أصعب التحديات المدنية التي واجهها البشير إلى حد الآن.
كلما قلّ المال، زادت المشاكل
في ظلّ حكم البشير الذي أحكم قبضته على البلاد منذ عقود، شهد السودان احتجاجات متكرّرة نتيجة المشاكل الاقتصادية المتواصلة. وقد تظافرت العديد من العوامل، على غرار حالة النبذ التي تعيشها البلاد وتعرضها للعقوبات الاقتصادية إلى جانب التهم المتعلّقة برعايتها للإرهاب (على خلفية استضافة السودان لأسامة بن لادن في تسعينيات القرن الماضي) لتزيد من عوزها وافتقارها إلى وجود دول صديقة وحليفة لها. وقد أعلن جنوب السودان استقلاله في شهر تموز/ يوليو سنة 2011، حيث استحوذ على ثلاثة أرباع إنتاج النفط. ومنذ ذلك الحين، أضحت الاحتجاجات تتكرر بصفة مستمرة، وبلغت ذروتها بين سنتي 2012 و2013.
القروض المتفرقة التي حصلت عليها الحكومة والوعود الاستثمارية التي قدمها عدد من الشركاء من دول الخليج قد ساهمت إلى حد ما في النهوض باقتصاد البلاد، لكنها عجزت عن تحقيق المساعدة المالية المنهجية التي كانت ستوفرها الدول الغربية
بعثت التظاهرات المنتظمة رسالة إلى الرئيس عمر البشير مفادها أن ضعف الوضع الاقتصادي في البلاد يمكن أن يؤدي إلى القضاء على حكمه في نهاية المطاف، وهو الأمر الذي دفع السودان سنة 2014 إلى البحث عن مصادر تمويل جديدة من خلال الابتعاد عن إيران والاتجاه نحو محور دبلوماسي آخر، مجلس التعاون الخليجي، ليصل في النهاية إلى الغرب. وقد حقق هذا التحول نجاحًا أوليًا تمثل في تلقي مساعدات من دول مجلس التعاون الخليجي، لكن لم يكن احتياطي النقد الأجنبي في السودان، الذي بلغ 1.2 مليار دولار، كافيا لتغطية سبعة أسابيع من واردات البلاد.
وتجدر الإشارة إلى أن القروض المتفرقة التي حصلت عليها الحكومة والوعود الاستثمارية التي قدمها عدد من الشركاء من دول الخليج قد ساهمت إلى حد ما في النهوض باقتصاد البلاد، لكنها عجزت عن تحقيق المساعدة المالية المنهجية التي كانت ستوفرها الدول الغربية وخطة الإنقاذ المقدمة من قبل صندوق النقد الدولي. وفي حين أدى التقارب مع الدول الغربية إلى رفع العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على البلاد، لا تزال واشنطن تتعامل مع الخرطوم على أنها دولة راعية للإرهاب، كما أن المحكمة الجنائية الدولية مازالت تدين البشير لارتكابه جرائم حرب، مما أدى إلى إضعاف مكاسب محور الخرطوم.
نظرا لغياب الدعم الدولي الحقيقي، دخل الاقتصاد السوداني الضعيف أزمة شاملة خلال السنة الماضية، حيث نتج عن عدم توفر السيولة الكافية نقص في الوقود والخبز، بينما تسبب الضغط المتزايد على الجنيه السوداني في تخفيض قيمة العملة ثلاث مرات مقابل الدولار. وعلى الرغم من برنامج التقشف الحكومي، ارتفع معدّل التضخم ليبلغ مستويات مثيرة للقلق في شهر كانون الأول/ ديسمبر، وبدأت الموزعات النقدية الآلية بالنضوب. ومع وجود عدد قليل من الخيارات المتاحة، اتجهت الحكومة السودانية من جديد إلى الخليج العربي بحثا عن الدعم، ولكن لم تظهر أي أدلة إلى حد الآن على وصول مساعدات.
حركة احتجاجية تحصل على دعم واسع النطاق
على الرغم من الأزمة الاقتصادية المحتدمة، اتخذ حزب المؤتمر الوطني الحاكم خطوات لتمديد مدة بقاء الرئيس في السلطة. وفي سنة 2016، وعد البشير بأن مدة حكمه ستنتهي سنة 2020، غير أن حزب المؤتمر الوطني رشّحه لخوض الانتخابات الرئاسية لسنة 2020. وينص دستور حزب المؤتمر الوطني والقانون السوداني على منع أي مرشح من التمتع بأكثر من ولايتين، لكن التعديلات التي أُجريت لاحقا سمحت للبشير بتمديد فترة حكمه.
في ظلّ نمو الحركة الاحتجاجية في كامل أنحاء البلاد، بذلت جماعات المعارضة القديمة منها والحديثة جهودًا كبيرة لتنظيم هذه الاحتجاجات
أدى العجز الاقتصادي ناهيك عن نية البشير الواضحة للبقاء في السلطة إلى تأجيج الاحتجاجات التي كانت في بدايتها تتمحور حول تحسين الظروف المعيشية. وانتشرت الاحتجاجات مثل النار في الهشيم، ولم تجتح المظاهرات الواسعة المدن الكبرى فحسب على غرار أم درمان والخرطوم، بل بلغت المناطق البعيدة أيضا مثل دارفور وبورتسودان.
في ظلّ نمو الحركة الاحتجاجية في كامل أنحاء البلاد، بذلت جماعات المعارضة القديمة منها والحديثة جهودًا كبيرة لتنظيم هذه الاحتجاجات. وإلى جانب حشد المجموعات القائمة على غرار “حركة التغيير الآن” و”قرفنا”، دفعت الموجة الأخيرة الأطباء والمعلمين وأولئك الذين يشغلون مهنا مماثلة لإنشاء “تجمّع المهنيين السودانيين”، حيث نظمت هذه المجموعة العديد من الاحتجاجات المحلية، بما في ذلك مسيرات نحو المجلس الوطني السوداني في أم درمان والقصر الرئاسي في الخرطوم.
في الواقع، نال نجاح “تجمّع المهنيين السودانيين” ونشاطه دعم العديد من أحزاب المعارضة والمنظمات الأخرى، التي وقّع الكثير منها في الثاني من شهر كانون الثاني/ يناير على إعلان تضمن ثمانية مطالب من بينها استقالة عمر البشير، وقد أُطلق عليه اسم “إعلان الحرية والتغيير”.
رئيس يتمتع بقوة التفرقة
من المحتمل أن تكون الاضطرابات التي تجتاح البلاد حاليا من بين أكبر التهديدات التي واجهها عمر البشير إلى حد الآن. ومع ذلك، ظل الرئيس السوداني يعمل طوال سنوات على تعزيز السلطة ضد خطر الانقلاب المستمر. فبعد الانقلاب العسكري الذي قاده عمر البشير سنة 1989، شكّل الرئيس السوداني تحالفًا مع الزعيم الإسلامي حسن الترابي، الذي تغير اسم حزبه من “الجبهة الإسلامية القومية” إلى “حزب المؤتمر الوطني” فيما بعد.
منذ سنة 1999، أحكم البشير سيطرته على المؤسسات الأمنية من خلال القضاء على كبار القادة الإسلاميين الذين قد يتجرؤون على تحديه
لقد ساهمت هذه الشراكة في ظهور قوّتين متنافستين لا تزالان قائمتين إلى حد اليوم. وقد كان الترابي يتمتع بنفوذ سياسي كبير طيلة فترة تسعينيات القرن الماضي خلف الكواليس. في المقابل، استطاع البشير إزاحة الزعيم الإسلامي من الساحة سنة 1999؛ وهو الأمر الذي ساعده على إعادة تشكيل المشهد السياسي السوداني لصالحه. وبعد أن هُمّش الترابي، أعرب معظم ضباط الجيش والاستخبارات عن دعمهم للبشير. وكان بين هؤلاء ضباط من الإسلاميين النافذين، الذين أدى ولاؤهم للرئيس إلى تفريق شمل الحركة الإسلامية.
منذ سنة 1999، أحكم البشير سيطرته على المؤسسات الأمنية من خلال القضاء على كبار القادة الإسلاميين الذين قد يتجرؤون على تحديه. وعقب طرد الترابي، تمكّن البشير من تغيير توجه الحركة الإسلامية في البلاد بعيدًا عن ماضيها المتطرف الشبيه بإيران، وذلك من خلال استبعاد أبرز الشخصيات ذات الميول المتطرفة. وبهذه الطريقة، تمكّن البشير من إبقاء الحركة الإسلامية مجزأة بشكل يحول دون بروز أي منافس إسلامي قادر على تحديه.
علاوة على ذلك، يقدّم قمع الأصوات المتطرفة فائدة إضافية تتمثل في جعل حكومة السودان أكثر توافقًا مع المُثُل العليا لكل من دول الخليج والغرب. لكن تبلور هذه الاستراتيجية كان له تكلفة، إذ مثل تضاؤل دور المسؤولين الإسلاميين في المؤسسة الأمنية السودانية مصدرا لبعض المعارضة.
بعد أن فهم البشير الدور الحاسم الذي تضطلع به المؤسسات المتخصصة داخل جهاز أمن الدولة، طالب قوات الدعم السريع بأن تعلن عن ولائها له. وتعدُّ هذه القوات من أكثر أجهزة مكافحة التمرد كفاءة في السودان، إذ تنتشر في جميع أنحاء البلاد، كما ساعدت مؤخرًا في السيطرة على الاحتجاجات، بالإضافة إلى أنها تعمل على مواجهة أي محاولة انقلاب قد تنظمها القوات المسلحة السودانية.
فضلا عن ذلك، يلعب جهاز الأمن والمخابرات الوطني السوداني دورًا حاسمًا في ضبط المعارضة، على الرغم من أن العديد من المسؤولين الإسلاميين داخل هذه المنظمة يشعرون بالاستياء من تفضيلها لزملائهم غير الإسلاميين على حسابهم. ومن جهة أخرى، سيبذل القادة الراسخون مجهودات أكبر للحفاظ على مناصبهم، لكن يذكرنا التاريخ، أن لا أحد منيع تماما من الخطر.
لقد وُصِفت ميليشيات الجنجاويد المدعومة من قبل الحكومة، التي كانت السبب وراء بروز قوات الدعم السريع، بالوحشية بعد شنها حملة قمع ضد السكان الأفارقة السودانيين في دارفور، وهو ما دفع المحكمة الجنائية الدولية إلى توجيه أصابع الاتهام نحو البشير، وبعض زعماء الميليشيات الآخرين. وعلى الرغم من المحاولات التي يبذلها البشير للحفاظ على دعم حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان من خلال تعيين أهم حلفائه في مناصب قوية، إلا أن الفصائل المتنافسة داخل الحزب لا تزال قائمة.
تحاول منطقة الخرطوم نشر الخلافات بين صفوف الحركة الاحتجاجية، لكن هذه المحاولات لم تؤت ثمارها بعد
في إطار الاتهام الذي أعلنت عنه المحكمة الجنائية الدولية، قد لا يكون تنحي رئيس السودان عن الحكم الخيار الأنسب، وأي تغيير في حظوظه السياسية من شأنه أن يساعد المحكمة الجنائية الدولية في القضاء عليه. قد يرفض الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة مواصلة تقديم المساعدات الاقتصادية إلى أن يصبح البشير في عهدة المحكمة، خاصة أن الكثيرين يرون أنه يمثل عائقا أمام ازدهار البلاد.
في المقابل، تحاول منطقة الخرطوم نشر الخلافات بين صفوف الحركة الاحتجاجية، لكن هذه المحاولات لم تؤت ثمارها بعد. وعلى الرغم من استمرار المجموعات في المطالبة بتنحي الرئيس، إما فورًا أو تدريجيا، إلا أن الحكومة تستطيع تهدئة المخاوف الجدية من خلال إدخال بعض التغييرات على المنصب القيادي. فعلى سبيل المثال، يمكن للبشير أن يتراجع عن قراره بالترشح لانتخابات 2020 ويدعم خليفة محتملا. ولكن لا يمكن لهذه الخطوة أن تنجح إلا في حال شعر حلفاء البشير بالقلق من أن الفصائل المتنافسة داخل حزب المؤتمر الوطني قد تنشق وتنضمّ إلى صفوف المحتجين أو تنظّم محاولة انقلابية.
ما الذي سيحدث بعد ذلك؟
توجد بعض الإجابات الجيدة للغز السياسي والاقتصادي في السودان، ولكن قد يؤدي تعرض المتظاهرين للمزيد من العنف إلى بروز حملة إدانة دولية من شأنها أن توقف أي مساعدات محتملة أو إمكانية للقضاء على الإرهاب. وفي حال فشل السودان في تلقي المساعدة من الغرب، فسيكون مجلس التعاون الخليجي آخر خيار أمامه.
مع ذلك، إن المشاحنات بين دول مجلس التعاون الخليجي، على غرار قطر والإمارات والسعودية، قد تسببت في تقويض مجهودات السودان الرامية لتأمين الدعم المالي. وفي الواقع، لا يوجد حل سهل للمشاكل المالية للخرطوم مما يعني أن صراع البلاد مع الاحتجاجات المنتظمة سيتواصل بينما اقتصادها على حافة الانهيار.
على الرغم من أن هذه الاضطرابات هي أهم ما اختبره السودان منذ سنوات، إلا أن الجيش والحزب الحاكم ظلوا موالين لمن في السلطة
لقد باءت محاولات الحكومة لإنهاء المظاهرات بالفشل حتى الآن، كما أن الزيادات الرمزية في الرواتب لم تخفف من حدة الاضطرابات، ولا حتى استخدام الذخيرة الحية. في المقابل، سيستمر البشير في استخدام مبدأ العصا والجزرة في محاولته اليائسة رفقة حلفائه المقربين للسيطرة على الاحتجاجات، آملين ألا يتفاقم السخط الشعبي ويتسبب في تغيير الحكومة.
على الرغم من أن هذه الاضطرابات هي أهم ما اختبره السودان منذ سنوات، إلا أن الجيش والحزب الحاكم ظلوا موالين لمن في السلطة. ومن جهة أخرى، يمتلك البشير وحلفاؤه القوات اللازمة لمجابهة العاصفة في الوقت الراهن، بيد أن جهودهم للتشبث بالسلطة تزيد من إمكانية اللجوء إلى حل دموي لإنهاء المظاهرات.
المصدر: ستراتفور