شعب تنازعته الحكومات العسكرية زهاء الخمسين عامًا وما زالت، تخللتها ديمقراطيات لم يشئ لها أن تبلغ الحلم ثم توأد، ما إن ينطفئ عهد العسكر من سمائه لا ينفك حتى يعود بثوب آخر، أكثر من خمسة عقود أمضاها الشعب السوداني وهو متعطش لديمقراطية حقيقية تلبي طموحه وتروي ظمأه للحرية والانعتاق من قبضة العسكر.
شعب معلم ورائد، تعلم كيف يفك قيود سجنه ولا يستكين إلى خدر الخوف ورهبة العسكر، كلما أحكموا قبضهم عليه أراهم قوته وبطشه وأواهم صفحات التاريخ غير آبه بهم وبذكراهم ولكم في ثورة أكتوبر وانتفاضة أبريل خير برهان ودليل، وما زالت صفحات التاريخ لم تقفل ولم يرم شعبي المعلم القلم، فثمة شيء ما في خاطره يحاول أن يكتبه منذ زهاء الشهرين.
الإرث الثوري
كتب الأستاذ محمد المكي إبراهيم عن ﺫﻛﺮﻯ ﺛﻮﺭﺓ ﺍلـ21 ﻣﻦ ﺃﻛﺘﻮﺑﺮ بأنه ما إن تأتي ذكراها ﻓﺘﻤﺘﻠﺊ ﺃﻭﺩﺍﺝ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻧﻴﻴﻦ ﺑﺎﻟﻨﺨﻮﺓ ﻭﺍﻟﺤﻤﺎﺱ، ﻭﻣﻦ ﺗﺤﺖ ﺭﻣﺎﺩ ﺍﻟﻬﺰﺍﺋﻢ ﻳﺴﻄﻊ ﻧﻮﺭ ﺍﻷﺣﻼﻡ ﺍﻟﻜﺒﻴﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﺣﻤﻠﺘﻬﺎ ﺃﺟﻴﺎﻝ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻧﻴﻴﻦ ﻣﻤﻦ ﻋﺎﺻﺮﻭﺍ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻬﺒﺔ ﺍﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ﺍﻟﻜﺒﺮﻯ ﻟﻺﻃﺎﺣﺔ ﺑﺤﻜﻢ ﻋﺴﻜﺮﻱ ﻣﺴﺘﺒﺪ ﺛﻢ ﻣﻦ ﺟﺎﺀﻭﺍ ﺑﻌﺪﻫﻢ ﻭﻋﺎﺷﻮﺍ ﺍﻧﺘﻔﺎﺿﺔ أﺑﺮﻳﻞ 1985 ﺍﻟﺘﻲ ﺃﻃﺎﺣﺖ ﻫﻲ ﺍﻷﺧﺮﻯ ﺑﺤﻜﻢ ﻋﺴﻜﺮﻱ آخر.
ﻣﻦ ﻳﻨﻈﺮ ﻓﻲ ﺗﺎﺭﻳﺦ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ ﻳﺠﺪ ﻓﻴﻪ ﻣﺼﺪﺍﻗًﺎ ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻮﺩ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺪﻭﺭﺍﺕ ﺍﻟﻤﺘﻌﺎﻗﺒﺔ ﻭﺍﻻﻧﺘﻘﺎﻻﺕ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻜﻮﺕ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻈﻠﻢ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺜﻮﺭﺓ ﻋﻠﻴﻪ
ﻳﺤﻠﻮ ﻟﻠﺴﻮﺩﺍﻧﻴﻴﻦ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﻨﺎﺳﺒﺘﻴﻦ ﻛﻨﻬﺞ ﺛﻮﺭﻱ ﻣﺘﺼﻞ ﻳﻌﺒﺮ ﺗﻤﺎﻡ ﺍﻟﺘﻌﺒﻴﺮ ﻋﻦ ﺷﻌﺐ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺼﺒﺮ ﻭﻳﺼﺎﺑﺮ ﺣﺘﻰ ﻳﻈﻦ ﻣﻀﻄﻬﺪﻭﻩ ﺃﻧﻪ ﺍﺳﺘﺴﻠﻢ ﻭﺍﺳﺘﻜﺎﻥ، ﻭﻋﻨﺪ ﺫﻟﻚ ﻳﻬﺐ ﻛﺎﻹﻋﺼﺎﺭ ﻓﺘﻨﻬﺎﺭ ﻭﺗﺘﻬﺎﻭﻯ ﺃﻣﺎﻡ ﻃﻮﻓﺎﻧﻪ ﺍﻟﻜﺎﺳﺢ ﻣﻌﺎﻗﻞ ﺍﻟﻤﺴﺘﺒﺪﻳﻦ، ﻭﺗﻌﺒﺮ ﺍﻟﺜﻮﺭﺗﺎﻥ ﺑﺠﻼﺀ ﺗﺎﻡ ﻋﻦ ﺗﻮﻕ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻧﻴﻴﻦ ﺍﻷﺑﺪﻱ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ﻭﺗﻌﻠﻘﻬﻢ ﺑﻬﺎ، ﻟﻴﺲ ﻓﻘﻂ ﻛﻨﻈﺎﻡ ﻋﺎﺩﻝ ﻟﻠﺤﻜﻢ ﻭﺇﻧﻤﺎ ﺃﻳﻀًﺎ ﻛﻮﺳﻴﻠﺔ ﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﺇﻧﺴﺎﻧﻴﺘﻬﻢ ﻛﺄﻓﺮﺍﺩ ﻭﺭﺛﻮﺍ ﺣﺮﻳﺔ ﺍﻟﺮﺃﻱ ﻭﺍﻟﺠﻬﺮ ﺑﻪ ﺍﻧﻄﻼﻗًﺎ ﻣﻦ ﺧﻠﻔﻴﺘﻬﻢ ﺍﻟﺒﺪﻭﻳﺔ ﻭﻟﻢ ﻳﺘﻌﻮﺩﻭﺍ ﺍﻟﺴﻴﺮ ﻗﺮﺏ ﺍﻟﺤﺎﺋﻂ ﻣﻨﻜﺴﻲ ﺍﻟﻬﺎﻣﺎﺕ.
ﻭﻣﻦ ﻳﻨﻈﺮ ﻓﻲ ﺗﺎﺭﻳﺦ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ ﻳﺠﺪ ﻓﻴﻪ ﻣﺼﺪﺍﻗًﺎ ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻮﺩ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺪﻭﺭﺍﺕ ﺍﻟﻤﺘﻌﺎﻗﺒﺔ ﻭﺍﻻﻧﺘﻘﺎﻻﺕ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻜﻮﺕ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻈﻠﻢ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺜﻮﺭﺓ ﻋﻠﻴﻪ، ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻥ ﺫﻟﻚ ﺷﺄﻥ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻧﻴﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺜﻮﺭﺓ ﺍﻟﻤﻬﺪﻳﺔ ﻓﻲ ﺃﻋﻘﺎﺏ ﺍﺳﺘﺒﺪﺍﺩ ﺩﺍﻡ 60 ﻋﺎﻣًﺎ ﻭﻓﻲ ﺛﻮﺭﺓ 1924 ﻭﺍﻟﻘﺘﺎﻝ ﺍﻟﺒﺎﺳﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﺧﺎﺿﺘﻪ ﻗﺒﺎﺋﻞ ﺍﻟﺪﻳﻨﻜﺎ ﻭﺍﻟﻨﻮﻳﺮ ﺿﺪ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﺍﻟﺒﺮﻳﻄﺎﻧﻲ ﺃﻭﻝ ﻗﺪﻭﻣﻪ ﺍﻟﺒﻼﺩ، ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺫﻟﻚ ﺷﺄﻧﻬﻢ ﻓﻲ ﺛﻮﺭﺓ ﺍﻻﺳﺘﻘﻼﻝ ﻭﻟﻴﻜﻮن ﺫﻟﻚ ﺷﺄﻧﻬﻢ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﺗﻨﻄﻮﻱ ﺻﻔﺤﺔ ﺍﻟﻤﺴﺘﺒﺪﻳﻦ ﻭﺍﻟﻄﻐﺎﺓ ﻭﻳﻨﺘﺸﺮ ﻧﻮﺭ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻷﻧﺤﺎﺀ.
بداية الشرارة
ﻓﻲ أﻛﺘﻮﺑﺮ 1964 ﺗﺪﺍﻋﻰ ﻃﻼﺏ كلية غردون – جامعة الخرطوم الآن – ﺇﻟﻰ ﻧﺪﻭﺓ ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﻗﺮﺭﻭﺍ ﻋﻘﺪﻫﺎ ﻓﻲ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺍﻟﺜﻜﻨﺎﺕ ﺃﻱ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﺍﺧﻠﻴﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺄﻭﻱ ﺍﻟﻘﺴﻂ ﺍﻷﻛﺒﺮ ﻣﻦ ﻃﻼﺏ ﺍﻟﺠﺎﻣﻌﺔ، ﻭﻛﺎﻥ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺭﺳﺎﻟﺔ ﻏﺎﺏ ﻓﻬﻤﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﺕ ﺍﻷﻣﻨﻴﺔ ﻟﺬﻟﻚ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ، ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﺍﻟﻨﺪﻭﺓ ﺗﻘﺎﻡ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻜﻦ ﺍﻟﺮﺳﻤﻲ ﻟﻐﺎﻟﺒﻴﺔ ﻃﻼﺏ ﺍﻟﺠﺎﻣﻌﺔ ﺃﻱ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻮﺋﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻔﺰﻉ ﺇﻟﻴﻪ ﺃﻭﻟﺌﻚ ﺍﻟﻄﻼﺏ ﺇﺫﺍ ﺍﺻﻄﺪﻣﻮﺍ ﺑﺎﻟﺴﻠﻄﺎﺕ ﻓﻲ ﺷﻮﺍﺭﻉ ﺍﻟﺨﺮﻃﻮﻡ ﺃﻭ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺮﻡ ﺍﻟﺠﺎﻣﻌﻲ ﺣﻮﻝ ﺍﻟﻜﻠﻴﺎﺕ.
ﺃﻣﺎ ﺇﺫﺍ ﺃﻗﻴﻤﺖ ﺍﻟﻨﺪﻭﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻨﻄﻘﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺴﻜﻨﻬﺎ ﺍﻟﻄﻼﺏ ﻓﺬﻟﻚ ﻳﻌﻨﻲ ﺃﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻌﺪ ﻷﻭﻟﺌﻚ ﺍﻟﻄﻼﺏ ﻣﻦ ﺧﻴﺎﺭ ﺳﻮﻯ ﺍﻟﻤﻘﺎﻭﻣﺔ ﺍﻟﻤﺴﺘﻤﻴﺘﺔ ﺩﻓﺎﻋًﺎ ﻋﻦ ﻣﻼﺫﻫﻢ ﺍﻷﺧﻴﺮ، ﻭﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﻭﺟﻪ ﺷﺒﻪ ﺑﺎﻟﻘﻄﺔ ﺍﻷﺳﻄﻮﺭﻳﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻠﺠﺄ ﻟﻠﻬﺠﻮﻡ ﻣﺘﻰ ﺃﻏﻠﻘﺖ ﺑﻮﺟﻬﻬﺎ ﺍﻷﺑﻮﺍﺏ ﻭﺃﻇﻠﻤﺖ ﺍﻟﻐﺮﻑ، ﻭﻫﻮ ﺑﺎﻟﻀﺒﻂ ﻣﺎ ﺣﺪﺙ ﻓﻲ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻠﻴﻠﺔ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔ، ﻓﺒﻌﺪ ﺍﻓﺘﺘﺎﺡ ﺍﻟﻨﺪﻭﺓ ﺑﺪﻗﻴﻘﺔ ﺃﻭ ﺩﻗﻴﻘﺘﻴﻦ ﺍﻧﻄﻠﻘﺖ ﻣﻜﺒﺮﺍﺕ ﺍﻟﺼﻮﺕ ﺑﺄﻳﺪﻱ ﻗﻮﺍﺕ ﺍﻟﺸﺮﻃﺔ ﺗﻄﻠﺐ ﻣﻦ ﺍﻟﻄﻼﺏ ﻓﺾ ﺍﻟﻨﺪﻭﺓ ﻭﺍﻟﺘﻔﺮﻕ ﻭﻟﻢ ﺗﻔﻜﺮ ﺍﻟﺸﺮﻃﺔ ﺇﻟﻰ ﺃﻳﻦ ﻳﻜﻮﻥ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺘﻔﺮﻕ، ﻓﺎﻟﻄﻼﺏ ﻓﻲ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺳﻜﻨﻬﻢ ﻭﻟﻴﺲ ﻟﻬﻢ ﻣﻦ ﻣﺄﻭﻯ ﻭﻻ ﺳﻜﻦ ﺳﻮﺍﻫﺎ ﻭﻟﻴﺲ ﻟﻬﻢ ﻣﻦ ﻣﻼﺫ ﻏﻴﺮﻫﺎ.
ﺑﻌﺪ ما يقرب من ﺍﻟﺴﺎﻋﺘﻴﻦ ﺍﻧﺠﻠﺖ ﺍﻟﻤﻌﺮﻛﺔ ﻋﻦ ﻃﻼﺏ ﺟﺮﺣﻰ ﻭﻋﻦ ﺃﻭﻝ ﺷﻬﻴﺪ ﻟﺤﺮﻛﺔ ﺍﻟﻄﻼﺏ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻧﻴﻴﻦ، ﺍﻟﺸﻬﻴﺪ ﺍﻟﻘﺮﺷﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﺃﺭﺩﺗﻪ ﺭﺻﺎﺻﺔ ﻏﺎﺩﺭﺓ ﻭﻫﻮ ﻳﻘﻒ ﻣﻊ ﺭﻓﺎﻗﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺼﻔﻮﻑ ﺍﻷﻣﺎﻣﻴﺔ ﺑﻤﻮﺍﺟﻬﺔ ﺍﻟﺸﺮﻃﺔ
ﻳﺒﺪﻭ ﺃﻥ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﻌﺎﻧﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻭﺍﺿﺤﺔ ﻓﻲ ﺫﻫﻦ ﻣﻤﺜﻞ ﺍﺗﺤﺎﺩ ﺍﻟﻄﻼﺏ ﺍﻟﻤﻜﻠﻒ ﺑﺈﺩﺍﺭﺓ ﺍﻟﻨﺪﻭﺓ، ﻓﻘﺪ ﺭﺩ ﻋﻠﻰ ﺗﻠك ﺍﻟﻨﺪﺍﺀﺍﺕ ﺑﻬﺪﻭﺀ ﻃﺎﻟﺒًﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻀﻮﺭ ﺍﻟﺘﺸﺒﺚ ﺑﺄﻣﺎﻛﻨﻬﻢ ﻭﺍﻻﺳﺘﻤﺮﺍﺭ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺪﻭﺓ، ﻭﻋﻨﺪ ﺫﻟﻚ اﻧﻘﻄﻊ ﺍﻟﺘﻴﺎﺭ ﺍﻟﻜﻬﺮﺑﺎﺋﻲ ﻋﻦ ﺍﻟﻤﻨﻄﻘﺔ ﻭﺍﻧﻬﻤﺮﺕ ﺍﻟﻐﺎﺯﺍﺕ ﺍﻟﻤﺴﻴﻠﺔ ﻟﻠﺪﻣﻮﻉ، ﻭﻓﻲ ﺍﻟﻈﻼﻡ ﺍﻟﺬﻱ ﺳﺎﺩ ﺍﻟﻤﻜﺎﻥ ﻓﻘﺪﺕ ﻗﻮﺍﺕ ﺍﻷﻣﻦ ﺗﻔﻮﻗﻬﺎ ﻭﺍﻧﻬﺎﻟﺖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺣﺠﺎﺭﺓ ﺍﻟﻄﻼﺏ ﻭﺑﺪﻻً ﻣﻦ ﺍﻟﻬﺮﺏ ﻣﻦ ﻭﺟﻪ ﻗﻮﺍﺕ ﺍﻷﻣﻦ ﻭﺟﺪ ﺍﻟﻄﻼﺏ ﺃﻧﻔﺴﻬﻢ ﻣﻠﺘﺤﻤﻴﻦ ﺑﺘﻠﻚ ﺍﻟﻘﻮﺍﺕ ﻓﻲ ﺻﺮﺍﻉ ﺭﺟﻞ ﻟﺮﺟﻞ، ﻭﺣﻴﻦ ﻟﺠﺄﺕ ﺍﻟﺸﺮﻃﺔ ﺇﻟﻰ ﺇﻃﻼﻕ ﺍﻟﺮﺻﺎﺹ ﻛﺎﻥ ﺫﻟﻚ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﺻﻴﺤﺔ ﺍﻟﻴﺄﺱ ﺍﻷﺧﻴﺮﺓ ﻓﻠﻢ ﻳﻌﺪ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﻄﻼﺏ ﻣﻨﺎﺹًا ﺳﻮﻯ ﺍﻻﺳﺘﺒﺴﺎﻝ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻘﺎﻭﻣﺔ ﺣﺘﻰ ﺍﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻭﻣﺎ ﺑﻌﺪ ﺍﻟﻨﻬﺎﻳﺔ.
ﺑﻌﺪ ما يقرب ﻣﻦ ﺍﻟﺴﺎﻋﺘﻴﻦ ﺍﻧﺠﻠﺖ ﺍﻟﻤﻌﺮﻛﺔ ﻋﻦ ﻃﻼﺏ ﺟﺮﺣﻰ ﻭﻋﻦ ﺃﻭﻝ ﺷﻬﻴﺪ ﻟﺤﺮﻛﺔ ﺍﻟﻄﻼﺏ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻧﻴﻴﻦ، ﺍﻟﺸﻬﻴﺪ ﺍﻟﻘﺮﺷﻲ، ﺍﻟﺬﻱ ﺃﺭﺩﺗﻪ ﺭﺻﺎﺻﺔ ﻏﺎﺩﺭﺓ ﻭﻫﻮ ﻳﻘﻒ ﻣﻊ ﺭﻓﺎﻗﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺼﻔﻮﻑ ﺍﻷﻣﺎﻣﻴﺔ ﺑﻤﻮﺍﺟﻬﺔ ﺍﻟﺸﺮﻃﺔ، ﻟﻘﺪ استشهد ﻣﻌﻪ ﻭﺑﻌﺪﻩ ﻛﺜﻴﺮ ﻣﻦ الشباب ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﺴﺎﺀ ﻭﻣﺎ ﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﺴﺎﺀ ﻭﻟﻜﻨﻪ ﺃﺧﺬ ﺍﻻﺳﻢ ﺑﺘﻌﺒﻴﺮﻧﺎ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻧﻲ، ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻥ ﺃﻭﻝ ﺭﻋﻴﻞ ﺍﻟﺸﻬﺪﺍﺀ ﻭﻗﺎﺋﺪﻫﻢ ﺇﻟﻰ ﺟﻨﺎﺕ ﺍﻟﺨﻠﻮﺩ ﻭﺗﺤﺖ ﺻﻮﺭﺗﻪ ﺍﻟﻤﺄﺧﻮﺫﺓ ﻋﻦ ﺍﻟﻜﺎﺭﻧﻴﻪ ﺍﻟﺠﺎﻣﻌﻲ ﺳﺎﺭﺕ ﻣﻮﺍﻛﺐ ﺍﻟﺜﻮﺭﺓ ﺇﻟﻰ ﻧﺼﺮﻫﺎ ﺍﻟﻨﻬﺎﺋﻲ.
ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻴﺪﺍﻥ ﺍﻟﻜﺒﻴﺮ ﻭﻗﻔﺖ ﺷﺎﺣﻨﺔ ﻛﺒﻴﺮﺓ (لوري) ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺍﻟﺠﺜﻤﺎﻥ ﻭﻛﺎﻥ ﻓﻲ ﻗﻤﺘﻬﺎ ﺍﻟﺪﻛﺘﻮﺭ ﺍﻟﺘﺮﺍﺑﻲ ﻭﺍﻟﺪﻛﺘﻮﺭ ﺣﺴﻦ ﻋﻤﺮ، ﻭﺗﻮﻟﻰ ﺍﻟﺪﻛﺘﻮﺭ ﺍﻟﺘﺮﺍﺑﻲ ﺍﻟﺠﺎﻧﺐ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﻓﻲ ﻣﻘﺘﻞ ﺍﻟﻘﺮﺷﻲ ﻣﻨﻬﻴًﺎ ﺣﺪﻳﺜﻪ ﺑﺮﺟﺎﺀ ﻟﻠﺤﻀﻮﺭ ﺑﺎﻟﺘﺰﺍﻡ ﺍﻟﻬﺪﻭﺀ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﻨﺎﻭﻝ ﺍﻟﺪﻛﺘﻮﺭ ﺣﺴﻦ ﻋﻤﺮ ﻣﻨﻪ ﺍﻟﻤﻴﻜﺮﻓﻮﻥ ﻭﻗﺎﻝ ﻛﻼﻣًﺎ ﻣﻨﺎﻗﻀًﺎ ﻟﻔﻜﺮﺓ ﺍﻟﺘﺰﺍﻡ ﺍﻟﻬﺪﻭﺀ، ﻭﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻟﻢ ﺗﻜﺪ ﺗﻨﺘﻬﻲ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺮﺍﺳﻢ ﺣﺘﻰ ﻗﺎﻡ ﺍﻟﺠﻤﻬﻮﺭ ﺑﻘﻠﺐ ﺳﻴﺎﺭﺗﻴﻦ ﻣﻦ ﺳﻴﺎﺭﺍﺕ ﺍﻟﺸﺮﻃﺔ ﻭﺇﺷﻌﺎﻝ ﺍﻟﻨﺎﺭ ﻓﻴﻬﻤﺎ، ﻭﻋﻠﻰ إﺛﺮ ﺫﻟﻚ ﺍﻧﻄﻠﻘﺖ ﻣﻦ ﻧﻔﺲ ﺍﻟﻤﻴﺪﺍﻥ ﺃﻭﻟﻰ ﺍﻟﻤﻈﺎﻫﺮﺍﺕ ﺍلأﻛﺘﻮﺑﺮﻳﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻛﺎﻥ ﻣﻘﺪﺭًﺍ ﻟﻬﺎ ﺃﻥ ﺗﺴﻘﻂ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﻌﺴﻜﺮﻱ ﻓﻲ أﻗﻞ ﻣﻦ ﺃﺳﺒﻮﻉ.
تشابه الوقائع
بعد خطاب الرئيس السوداني عمر البشير الذي أعلن خلاله حل حكومته وتخليه عن رئاسة حزب المؤتمر الوطني وفرض حالة من الطوارئ على البلاد لمدة عام في محاولة لتكوين حكومة انتقالية إلى حين موعد الانتخابات العامة في 2020، لتسكين الاحتجاجات التي تدعو لتنحيه لأكثر من شهرين، ظنًا منه أن هذه القرارات سوف تساعد على تهدئة الأوضاع في الشارع العام، بينما غاب عنه أن الشعب لا يثق في حكومة هو على رأسها ولا يثق في جهاز أمنه، ولن يهدأ الشارع إلا بمغادرته السلطة وحل جهاز الأمن وهذه من المطالب التي لا يتخلى عنها الثوار وقادتهم.
طالبت الجماهير في أحداث ثورة أكتوبر بالهتاف المدوي بإعلان الإضراب السياسي والعصيان المدني وهو المطلب الذي تلتف حوله الجماهير الآن كتصعيد لوتيرة الاحتجاجات
وكأن التاريخ يعيد نفسه، فخطى هذه الاحتجاجات تسير على نهج ثورة أكتوبر، ومن أوجه التشابه هذه أنه في ثورة أكتوبر في الـ22 من أكتوبر 1964 أي صبيحة اليوم التالي لمقتل الشهيد القرشي تواصلت المظاهرات في أحياء العاصمة وانتشرت في باقي مدن السودان منها مدني وعطبرة وبورتسودان وكوستي وغيرها من المدن وهو ما يحدث الآن بالضبط، حيث بدأت الثورة في مدينة عطبرة وانتقلت لباقي المدن السودانية، واتفقت النقابات المهنية خلال اجتماعها على رفع مذكرة للرئيس عبود تدعوه للتنحي، وهو أيضًا ما يجسده الحاضر الآن وهو اتفاق ذات النقابات الآن ومحاولاتها اليومية للوصول للقصر الرئاسي لرفع مذكرة تدعو الرئيس السوداني الحاليّ عمر البشير للتنحي، إلا أن الترسانة الأمنية حالت دون وصول مواكب المهنيين مرات عديدة آخرها كان في الـ21 من فبراير 2018.
طالبت الجماهير في أحداث ثورة أكتوبر بالهتاف المدوي بإعلان الإضراب السياسي والعصيان المدني وهو المطلب الذي تلتف حوله الجماهير الآن كتصعيد لوتيرة الاحتجاجات.
الجدير بالذكر أنه مع إعلان حالة الطوارئ خرجت جموع من المواطنين في مظاهرات ليلية بعدد من أحياء العاصمة تعبيرًا عن رفضها لما قدمه الرئيس من تنازلات وتحديها لحالة الطوارئ، وهنا تتشابه الأحداث أيضًا حينما أصدر السيد محمد أحمد عروة وزير الداخلية إبان عهد عبود حظر التجوال وهدد بإطلاق النار على من يخالف الأوامر، وسخر المواطنون من الحظر ولم يلتزموا به وخرجوا في مظاهرات حاشدة إلى أن ظفروا بالنصر المبين، وهذا ما يحدث الآن، إذ إن جموع المتظاهرين لم يردعها القتل ولا التنكيل في المعتقلات ولا إعلان الطوارئ.
من الأحداث الراهنة التي تقود الذاكرة إلى ثورة أكتوبر، تمرد بعض الضباط سواء كان ذلك في الجيش أم الشرطة على قياداتها
ونجد أن التجمعات الحزبية التي تنادي بإسقاط النظام تمثل فئة كبيرة من المجتمع السوداني وخصوصًا الشباب، فالصحوة التعليمية والفكرية أضحت خطرًا على التنظيمات والأحزاب التقليدية التي لا تسمح بالسير إلا على خطى القدماء وتعيش حالة من التناقض الفكري الواضح، حيث إنها تريد معالجة مشاكل اليوم بفكر الأمس وهو المستحيل بعينه لا سيما تأطيرها لمساحات الحرية الفكرية لمنسوبيها في حدود المخطوطات القديمة التي لا يسمح بتجاوزها إلا في حدود لا تطمس هوية الفكرة الأساسية، وهذا ما جعل الكثير من الشباب يميل إلى التنظيمات السياسية التي تحترم فيه حريته الفكرية ولا تحد مسار فكره وتعينه لابتكار حلول لمشاكله السياسية وفقًا لمقدراته وإمكاناته.
وكما دعت تلك الأحزاب التقليدية عندما كانت في أوج مجدها وتحكمها بالشارع السياسي السوداني في اجتماعاتها بإسقاط نظام عبود وأعلنت الإضراب السياسي، ها هي الأحداث تتشابه في هذا العهد بدعوة الأحزاب السياسية الحديثة المتحكمة في قرارات الشارع بإسقاط النظام وتمهد لإعلان الإضراب السياسي العام.
ومن الأحداث الراهنة التي تقود الذاكرة إلى ثورة أكتوبر، تمرد بعض الضباط سواء كان ذلك في الجيش أم الشرطة على قياداتها نظرًا للطريقة التي تتعامل بها القوات النظامية مع المحتجين من ضرب بالرصاص الحي والتنكيل بهم في المعتقلات، وهو كما الانقسام الذي حدث داخل القوات المسلحة يوم الإثنين الموافق 26 من أكتوبر 1964 وقاده بعض الضباط الذين أعلنوا انحيازهم للثورة، ودور أساتذة الجامعات في إنجاح ثورة أكتوبر وعلى رأس تلك الجامعات جامعة الخرطوم التي انطلقت منها شرارة الثورة وقيادتهم لمظاهرة حاشدة من ناديهم في 26 من أكتوبر 1964 نحو القصر وكان شعارها “إلى القصر حتى النصر” وهو نفس الدور الطليعي الذي يقوم به أساتذة جامعة الخرطوم في ثورة الـ19من ديسمبر 2018، حيث قدموا العديد من الوقفات الاحتجاجية والمخاطبات السياسية المطالبة بإسقاط النظام كما قدموا ورقة تمثل وجهه نظرهم في حل الإشكال السياسي الذي يواجه البلاد في هذه الفترة الصعبة التي تمر بها.
إن تشابة الأحداث في الساحة السياسية السودانية مع أحداث ثورة أكتوبر لهو مؤشر قوي على بداية النصر للثورة السودانية الظافرة والتفاف نفس النقابات والأحزاب السياسية التي كان لها دور طليعي في إنجاح ثورة أكتوبر حول الشباب المحتج يمثل أول بداية النصر وعرش الحكومة بدأ في الاهتزاز، وأن الحزب الحاكم بدأ في التفكك منذ إعلان الرئيس الخروج منه ليكون على مسافة واحدة من كل الأحزاب السياسية في محاولة منه لإيجاد مساحة قبول داخل أروقة التنظيمات التي تقود الاحتجاجات، وعلامات الانهيار في حزب المؤتمر الوطني هو إقالة كل رؤساء التنظيم بالولايات وتأجيل موعد إقامة مؤتمرهم العام الذي كان من المقرر إقامته في أبريل القادم.
وثمة اتجاه برز داخل الحزب بأن يتم تغيير اسمه في محاولة لتغيير الجلد، ومن المتوقع التحاق بعض مدنيي الحزب بالمؤسسة العسكرية والانخراط في العمل معها تعبيرًا عن رضاهم على قرار الرئيس الأخير بتكوينه حكومة عسكرية ووقوف البعض الآخر على الرصيف وانتظار لمن تكون الغلبة والالتحاق به، وليس من المستبعد في حال نجاح الثورة أن يكون مصير حزب المؤتمر الوطني كمصير حزب الاتحاد الاشتراكي الحاضنة السياسية للرئيس السابق نميري بعد نجاح انتفاضة مارس/أبريل لعام 1984 التي أفضت إلى إقالة الرئيس جعفر نميري والأيام بيننا.