ترجمة حفصة جودة
يحاول جمال الفاخوري – 40 عامًا – أن يجد الكلمات المناسبة لوصف مدينته: “لقد تغير كل شيء منذ المذبحة، أصبحت الحياة صعبة في الخليل كل يوم”، كان فاخوري يفكر في مذبحة المسجد الإبراهيمي التي حدثت قبل 25 عامًا وتأثيرها على تلك المدينة الجنوبية في الضفة الغربية المحتلة.
في يوم 25 من فبراير 1994 فتح المستوطن الأمريكي اليهودي باروخ غولدشتاين النار على المصلين الفلسطينيين داخل المسجد الإبراهيمي -المعروف أيضًا بقبر البطاركة – الواقع وسط البلدة القديمة في الخليل.
قتل غولدشتاين 29 رجلًا على الفور وجرح أكثر من 100، ثم قُتل 6 فلسطينيين على أيدي قوات الأمن الإسرائيلية في أحداث الفوضى التي تلت المذبحة، ورغم أنها أكبر مدن الضفة الغربية، فإن سكان الخليل مرتبطون بشدة من خلال ثقافتها والروابط العائلية، لذا فكل مواطن له علاقة بالمذبحة إما من خلال قريب أو صديق أو جار.
يقول عزت كراكي – 29 عامًا – الناشط في مؤسسة “شباب ضد المستوطنات” (YAS): “لقد جاء مستوطن من الولايات المتحدة ليقتل الفلسطينيين، وبعد كل ذلك فهم يعاقبوننا، نحن الضحايا”، وإلى جانب الحداد على أرواح الضحايا كان للهجوم تأثير شديد على سكان الخليل، لقد ترك أثرًا عميقًا يطال الأجيال القادمة.
مفعمة بالحياة
يقول فاخوري: “قبل المذبحة كنت أشعر ببعض السلام في المدينة القديمة”، كان فاخوري يسكن المدينة القديمة وما زال هناك حتى الآن على بضع خطوات من شارع الشهداء المؤدي للمسجد، يبلغ طول الشارع نحو كيلومترين ويمتلئ بالمحال التجارية الواقعة أسفل البيوت المرتفعة متعددة الطوابق، ويؤدي هذا الطريق مباشرة إلى المسجد الإبراهيمي الذي كان يومًا ما قلب المدينة القديمة.
منير يعرض صور شارع الشهداء قبل أيام من المذبحة
يملك منير – 65 عامًا – متجرًا بالقرب من المسجد وما زال مفتوحًا حتى الآن، يحب منير أن يعرض على السياح المارين صورًا للشارع في أوج شبابه عندما كان مكتظًا بالناس والسيارات.
ويشير منير إلى أن الانتفاضة الأولى بدأت عام 1988 وانتهت عام 1993 قبل وقوع المذبحة بـ5 أشهر فقط، ويضيف: “لم تكن سنوات الانتفاضة الستة وقتًا عاديًا أبدًا، كانت المنطقة المحيطة بالمسجد جزءًا من المكان الذي وقعت فيه الانتفاضة، قبل ذلك كانت تلك المنطقة مفعمة بالحياة، كان من المعتاد أن يعمل 4 أشخاص في هذا المتجر، أما الآن فأعمل فيه وحدي وأعتني كذلك بمتجرين آخرين يملكهما جيراني”.
عقاب جماعي
يقول كراكي: “بعد المذبحة أغلق المسجد لـ6 أشهر وأغلقت القوات الإسرائيلية شارع الشهداء، ولمدة 3 أشهر عاش المواطنون الفلسطينيون في الخليل تحت حظر التجول الذي فرضته “إسرائيل”، وأقيمت نقاط تفتيش عسكرية في البلدة القديمة وما زالت موجودة حتى اليوم”.
عند إعادة افتتاح قبر البطاركة والمنطقة المحيطة به، انقسم الموقع الديني لقسمين: مسجد من ناحية ومعبد يهودي من ناحية أخرى، ولم يعد مسموحًا للفلسطينيين بقيادة السيارات في تلك المنطقة، بينما ازداد عدد الجنود والكاميرات حول المسجد الإبراهيمي بشكل كبير.
كانت التغييرات التي حدثت في المدينة بعد المذبحة مناسبة تمامًا لاتفاقية الخليل التي حدثت بعد المذبحة بـ3 سنوات، ففي عام 1997 وقعت اتفاقية بين الحكومة الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية نتج عنها تقسيم المدينة إلى منطقتين: “H1″ وهي خاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية، و”H2” التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي.
في “H2” التي تشكل نحو 20% من مساحة الخليل ما زال هناك نحو 40 ألف فلسطيني يعيشون تحت القانون العسكري الإسرائيلي، بينما يخضع 800 مستوطن يعيشون هناك إلى القانون المدني الإسرائيلي.
يقول كراكي: “تملك الحيوانات حقوقًا أكثر منا، فأي قطة أو كلب يستطيعون الذهاب إلى شارع الشهداء، أما أنا: فلا، لماذا؟ ماذا فعلت؟ إنهم لا يعاملوننا كبشر أبدًا” ويضيف كراكي: “وكنتيجة لاتفاقية الخليل أغلقت المحال التجارية في المنطقة “H2″ وطرد العديد من الفلسطينيين خارج منازلهم بأمر عسكري”.
أدت ظروف المعيشة الصعبة والقيود الشديدة على حرية المعيشة والتنقل في منطقة “H2” إلى رحيل الفلسطينيين، مما حول وسط المدينة الصاخب إلى مدينة أشباح، يقول كراكي: “نحن نتحدث عن إغلاق 1827 محلاً تجاريًا و140 شقة سكنية فارغة”.
في أعقاب مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل 1994
هناك الآن 20 نقطة تفتيش دائمة داخل مدينة الخليل تسيطر على حياة الفلسطينيين وتنقلاتهم بالإضافة إلى حظر التجول والإغلاق العشوائي، ومن الضروري الآن المرور بنقطتي تفتيش لدخول المسجد الإبراهيمي فقط.
يقول فاخوري: “عندما أعود لمنزلي كل يوم يفحصون هويتي، انتظر 20 دقيقة بجوار نقطة التفتيش القريبة من المسجد، وإذا لم يكن لديك بطاقة هوية فلا يمكنك الدخول أو المرور حتى من نقطة التفتيش، نحن لسنا بشرًا على الإطلاق، نحن مجرد أرقام”.
طرد جماعة المراقبة
أدت المجزرة إلى إنشاء منظمة “TIPH” (الوجود الدولي المؤقت في الخليل) وذلك لمراقبة الوضع في المدينة وتوثيق انتهاكات القانون الدولي وحقوق الإنسان، وخلال 22 عامًا من عملها سجلت المنظمة أكثر من 40 ألف تقرير لحوادث، بعض منها كان من الممكن أن تقدمه السلطة الفلسطينية للمحكمة الجنائية الدولية.
لكن في الشهر الماضي رفضت الإدارة الإسرائيلية تجديد انتداب المنظمة وأجبرتها على مغادرة المدينة، كان فاخوري مثل العديد من الفلسطينيين في البلدة القديمة يستمتع بوجود المنظمة ويشعر بالأمان في وجودها للمراقبة.
يقول فاخوري: “أعتقد أن الوضع سيكون أصعب الآن مع عدم وجود أي أحد لمراقبة المشاكل، وأخشى أن تزداد المشاكل ويزداد الوضع سوءًا لأن الحكومة الإسرائيلية لا ترغب في نشر ما يحدث هنا”.
هناك الآن 4 مستوطنات إسرائيلية داخل مدينة الخليل وهم: إفراهام أفينون وبيت رومانو وتل رميدة وبيت هداسا، وتم إنشاؤهم جميعًا قبل المجزرة.
فاخوري ينتظر دوره في أحد نقاط التفتيش الإسرائيلية
لكن مع طرد الفلسطينيين من “H2” أصبح من السهل على الإسرائيليين احتلال منازل الفلسطينيين، يقول كراكي: “عادة ما يركز المستوطنون على المنازل الفارغة، فبمجرد العثور على منزل فارغ يحتلونه ويحولونه من منزل فلسطيني إلى مستوطنة”.
ومع رحيل المنظمة يخشى الفلسطينيون أن يشهدوا زيادة في التوسع الاستيطاني وعنف المستوطنين، يقول كراكي: “عندما أذهب إلى المنزل أحتاج لحماية نفسي وحماية منزلي” ويضيف كراكي مشيرًا إلى اتفاقية جنيف الرابعة كمثال: “على الورق، هؤلاء الجنود هنا لحمايتي مثلما يحمون المستوطنين، لكن الواقع مختلف تمامًا”.
هل هناك أمل في المستقبل؟
في الفترة الأخيرة تدخلت منظمة “شباب ضد المستوطنات” (YAS) لتملأ الفراغ الذي تركته منظمة “TIPH”، ويسير نشطاء المنظمة حول المدينة القديمة كل صباح لمراقبة نشاط المستوطنين وحماية أطفال الفلسطينيين في أثناء ذهابهم إلى المدرسة.
وفي يوم الجمعة نظمت “YAS” احتجاجها السنوي العاشر بعنوان “افتحوا شارع الشهداء” لإدانة الوضع في الخليل الذي ما زال كما هو منذ ربع قرن، أطلقت القوات الإسرائيلية الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي على المتظاهرين مما أدى إلى إصابة 2 من الفلسطينيين بينهم طفل عمره 13 عامًا.
يقول منير: “لا شيء يتغير هنا، يمر عام تلو العام والوضع كما هو”، لكن رغم تلك الظروف القاتمة يقول كراكي إنه من المهم لديه كناشط أن يستمر في قتاله لهذا الهدف، ويضيف: “يشعر الكثير من الناس بالصدمة عندما أقول لهم: إذا كان هنا غد، فهناك أمل”.
لكن هذا التفاؤل يخمده ما يواجهه الفلسطينيون في الخليل كل يوم منذ سنوات، يقول كراكي: “عادة عندما يأتي الغد تزداد الأوضاع سوءًا”.
المصدر: ميدل إيست آي