“أعتذر بصدق عن عدم القدرة على الاستمرار في الخدمة، وعن كل أوجه القصور في السنوات الماضية في أثناء تولي منصب وزير الخارجية.. أتوجه بالشكر للأمة الإيرانية والمسؤولين”، بهذه التغريدة التي نشرها على صفحته الشخصية على موقع “إنستغرام”، مساء أمس الإثنين، أعلن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف استقالته من منصبه.
خمس سنوات ونصف تقريبًا قضاها ظريف في منصبه فضلاً عن ربع قرن من العمل الدبلوماسي في الأمم المتحدة وضعته على صدارة الدبلوماسية الإيرانية طيلة الأعوام الماضية نجح خلالها في فتح قنوات اتصال بين الدولة الإسلامية والغرب، وكان مهندس الاتفاق النووي الشهير الموقع في 2015.
الإعلان المفاجئ عن استقالة ظريف أثار حالة من الجدل والارتباك داخل الشارع الإيراني وخارجه، الأمر الذي دفع إلى التساؤل عن دوافع هذه الخطوة التي تزامنت مع زيارة رئيس النظام السوري بشار الأسد لطهران، لا سيما أنه كان حلقة الوصل الوحيدة بين إيران والغرب.
مهندس الاتفاق النووي
ولد ظريف في 7 من يناير 1960 في طهران لعائلة ثرية ومتدينة ومُحافظة سياسيًا، تلقى تعليمه الأساسي في المدرسة العلوية الخاصة في العاصمة، ثم غادر للولايات المتحدة وهو في السابعة عشر حيثُ التحق بمدرسة درو التحضيرية في ولاية سان فرانسيسكو، كما حصل على البكالوريوس في العلاقات الدولية من جامعة الولاية 1981، ثم الماجستير عام 1984 وبعدها بأربع سنوات حصل على الدكتوراه في القانون والسياسة الدولية.
شغل مناصب دولية ومحلية متعددة منها مستشار وكبير مستشاري وزير الخارجية، ونائب وزير الخارجية للشؤون القانونية والدولية، وعضوًا بارزًا في مبادرة حوار الحضارات، ورئيس لجنة نزع السلاح التابعة للأمم المتحدة في نيويورك، ومشاركًا بارزًا في الحوكمة العالمية، ونائبًا للشؤون الدولية في جامعة آزاد الإسلامية.
يعتبر ظريف من أبناء الثورة الإسلامية، ومن مؤيدي الدبلوماسية العلنية، وقد عمل نحو ربع قرن في الأمم المتحدة، قبل أن يتم تعيينه وزيرًا للخارجية أغسطس/آب 2013 بعدما اختاره الرئيس الإيراني حسن روحاني – إثر تسلمه رئاسة البلاد في الشهر نفسه -، بعد موافقة أغلبية ساحقة من نواب البرلمان الذي يهيمن عليه المحافظون، وذلك لمهاراته الخطابية وإتقانه اللغة الإنجليزية.
تصاعدت خلافات ظريف مع الحرس الثوري وتيار المتشددين بشأن جدوى البقاء في الاتفاق النووي منذ أن انسحبت منه أمريكا في مايو/أيار، حيث تم استدعاؤه أكثر من مرة من نواب هذا التيار أمام البرلمان
عُرف عنه دبلوماسيته القوية ومهاراته التفاوضية الهائلة حتى لُقب بـ”مهندس الاتفاق النووي”، حيث قاد فريق المفاوضين الإيرانيين إلى اتفاق نووي مع ممثلي مجموعة “5+1” الغربية، رغم الصعوبات الشديدة التي واجهته وهو الاتفاق الذي خرجت منه الولايات المتحدة العام الماضي.
كما نجح كذلك في تشكيل أكبر لوبي إيراني في أمريكا، تحت مسمى “المجلس القومي للإيرانيين في أمريكا” الذي يعرف بـ”ناياك”، مستغلاً في ذلك علاقاته القوية ببعض نواب الكونغرس الأمريكي والكيانات السياسية هناك منذ أن كان مندوبًا لبلاده في الأمم المتحدة لمدة 5 سنوات.
عُرف عنه كذلك الوسطية في التعاطي مع ملف العلاقات مع الولايات المتحدة، حيث سعى إلى تخفيف حدة التوتر بين البلدين، من خلال تجنب إبراز الشعارات الثورية كـ”الموت لأمريكا” و”الشيطان الأكبر” و”محو إسرائيل” وغيرها، واستبدالها بشعارات المرحلة التي أطلقها خامنئي وأسماها “المرونة البطولية”.
دور محوري لظريف في إبرام الاتفاق النووي
دوافع الاستقالة
لم يحدد ظريف دوافع تقديم استقالته خاصة بعدما وجه الاعتذار والشكر لكل من الشعب والحكومة عبر حاسبه على موقع إنستغرام وهو وسيلة التواصل الاجتماعي الرئيسية الوحيدة غير الممنوعة في إيران، إلا أن الأجواء التي شابت علاقته بالنظام خلال الآونة الأخيرة ربما تكشف النقاب قليلاً عن أسباب هذه الخطوة في هذا التوقيت على وجه التحديد.
خلال الفترة الأخيرة تصاعدت خلافات ظريف مع الحرس الثوري وتيار المتشددين عن جدوى البقاء في الاتفاق النووي منذ أن انسحبت منه أمريكا في مايو/أيار، حيث تم استدعاؤه أكثر من مرة من نواب هذا التيار أمام البرلمان ليجيب عن أسئلتهم بشأن عودة العقوبات الأمريكية وتأثيرها على الاقتصاد الإيراني، وغالبًا ما شهدت تلك الجلسات مشادات كلامية وتبادلاً للاتهامات.
كذلك الخلاف بشأن ملف العلاقات مع الكيان الصهيوني، حيث كان ظريف من المعارضين للغة الخطاب الرسمية الموجهة ضد تل أبيب التي تحمل رسائل العداء والحرب والخصومة، الأمر الذي عمق الفجوة بينه وبين الحرس الثوري والجهات اليمينية المقربة من المرشد.
علاوة على ذلك فإن زيارة رئيس النظام السوري بشار الأسد لطهران أمس الإثنين كانت أحد العوامل التي عجلت بالاستقالة، ففي وقت لاحق قال ظريف في حوار نشره موقع جريدة “انتخاب” الإصلاحية إنه بعد نشر صور المقابلة بين المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي والرئيس السوري في طهران دون حضوره “لم يعد هناك أدنى احترام لوجودي في منصب وزير الخارجية”.
استقالة ظريف ربما تكون الورقة الأخيرة في التزام إيران بالاتفاق النووي، الأمر الذي يمهد الطريق نحو نسف الاتفاق الفترة المقبلة، وهو السيناريو الأخطر الذي طالما حذر منه مسؤولون أمريكيون
أسامة الهتيمي الباحث المتخصص في الشأن الإيراني، أرجع قرار الاستقالة إلى عدد من الأسباب على رأسها الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي وما ترتب عليه من تداعيات على المستوى الداخلي خاصة بعد فرض المزيد من العقوبات التي جعلت من التزام طهران بالاتفاق مسألة دون جدوى.
الهتيمي لـ”نون بوست” أوضح أن استقالة ظريف ربما لم تمثل أي مفاجأة للمتابعين للشأن الإيراني على الرغم من أنه لم تبد في الظاهر أي مواقف انفعالية أو غاضبة له طيلة الفترة الماضية خاصة تلك الشهور التي سبقت إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاقية النووية وما تبع ذلك من تداعيات مهمة عرضت بكل تأكيد الخارجية الإيرانية والوزير ظريف للكثير من الضغوط التي تصاعدت يومًا بعد يوم كونهما المسؤولين على ما ينظر إليه النظام باعتباره فشلاً ذريعًا في إدارة هذا الملف.
وأضاف أن عقد مؤتمر وارسو في بولندا كان من أهم الضربات التي وجهت للخارجية وللدبلوماسية الإيرانية، فانعقاد المؤتمر الذي يعلم الجميع أنه كان يستهدف إيران بالدرجة الأولى تم في دولة يفترض أنه تربطها بإيران علاقات جيدة لاعتبارات تاريخية، في حين شاركت فيه أكثر من ستين دولة وهو يعكس إلى أي مدى تراجع دور الخارجية الإيرانية التي كان يجب أن تستفيد من عملها في ممارسة ضغوط على الكثير من المشاركين لتبني مواقف داعمة أو على أقل تقدير لا تتماهى مع الدعوات الأمريكية بشأن طهران فيما زاد الطين بلة مؤتمر ميونيخ الذي شهد هجومًا كبيرًا على إيران أيضًا.
وعلى الرغم من تزامن استقالة ظريف مع زيارة رئيس النظام السوري بشار الأسد ولقائه بالرئيس روحاني والمرشد على خامنئي وغيابه عن هذه اللقاءات، الأمر الذي يعد تهميشًا لدور الخارجية الإيرانية وإهانة مباشرة للوزير إلا أنني أرى أن هذه المظاهر ثمرة ونتائج لتراكمات شهدتها العلاقة بين الخارجية والنظام الإيراني على مدار السنوات الفائتة، بحسب الهتيمي.
ظريف لم يحضر لقاء الأسد بالرئيس الإيراني
ماذا عن الغرب؟
لا شك أن قرار كهذا سيكون له تداعيات بشكل أو بآخر على العلاقات الإيرانية الغربية، خاصة أن ظريف كان يمثل حلقة الوصل الوحيدة بين طهران وأوروبا وأمريكا على حد سواء، ففي تقرير له في موقع “فورين بوليسي” أشار مايكل هيرش أن رحيل ظريف عن المشهد نقطة مؤلمة دبلوماسيًا، كاشفًا أن العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران على وشك أن تأخذ منعطفًا دراماتيكيًا نحو الأسوأ بعد هذه الخطوة.
هيرش أوضح أن ظريف كان عاملاً حاسمًا في إبقاء إيران ضمن خطة العمل المشتركة الخاصة بالاتفاق النووي رغم ما تواجهه من عراقيل وتحديات لا سيما بعد انسحاب أمريكا منه، فيما قال الدبلوماسي الأمريكي جيمس دوبينز، الذي عمل عن كثب مع ظريف في أعقاب أحداث 11 سبتمبر: “إذا حدث ذلك، قاصدًا الاستقالة، فسوف نواجه أزمة جديدة في المنطقة”، وتابع “إنه دبلوماسي ماهر، ومحاور موثوق به، ورفيق جيد، رحيله ليس علامة جيدة للأمريكان”.
رغم عدم التأكد من قبول الرئيس الإيراني لاستقالة وزير خارجيته حتى كتابة هذه السطور، فإنها أحدثت ارتباكًا واضحًا في الشارع الإيراني
آخرون أشاروا إلى أن استقالة ظريف ربما تكون الورقة الأخيرة في التزام إيران بالاتفاق النووي، الأمر الذي يمهد الطريق نحو نسف الاتفاق الفترة المقبلة، وهو السيناريو الأخطر الذي طالما حذر منه مسؤولون أمريكيون طيلة الأشهر الماضية في أعقاب إعلان ترامب الانسحاب منه.
فيما نوهت سوزان مالوني، الباحثة في معهد بروكينغز، إلى أن فشل ظريف في التوفيق في الخلافات الأساسية بين الغرب والنظام الإيراني الراغب في عدم العمل داخل النظام العالمي فضلاً عن دعمه لنظام الأسد وحزب الله، أحد أبرز دوافع استقالته التي سيكون لها تداعيات على علاقات بلاده مع الغرب خلال المرحلة المقبلة، قائلة: “ظريف ربما كان ساحرًا وفعالاً جدًا مع الجماهير الغربية، لكنه لم يفعل أي شيء في حياته المهنية على المستوى الداخلي مما جعله على خلاف دائم مع نظام استبدادي جدًا في إيران”.
ورغم عدم التأكد من قبول الرئيس الإيراني لاستقالة وزير خارجيته حتى كتابة هذه السطور فإنها أحدثت ارتباكًا واضحًا في الشارع الإيراني، وسواء قبلها روحاني أم لا، فضلاً عن احتمالية تراجع ظريف عنها لضغوط هنا أو هناك، تبقى دوافع الاستقالة قائمة لحين إشعار آخر، الأمر الذي ربما يعيد رسم خريطة العلاقات الإيرانية الغربية خلال السنوات القادمة.